ذهبتُ إليه في أوحش الأوقات.

كان ذلك في شتاء عام 82 من القرن الغارب. أيامها على ما أذكر، كانت مصر معزولة ثقافياً عن محيطها العربي _ بعد عزلتها السياسية التي قادها صدام حسين بسبب اتفاقية كامب ديفيد. وكانت ثمة أصوات (quot;إنعزاليةquot;، كما سمّاها رجاء النقاش في كتابه)، تدعو لأن تنتبه مصر لنفسها، وتنفض يدها من العرب. وللأسف: كان صوت توفيق الحكيم، كما قيل وقرأت في صحف ذلك الزمان، هو الأعلى والأخطر.

توقيت سيء لا شك. لكنْ أنّى لمتأدّب مثلي، قادم من قطاع غزة المحتلّ، وفي عمر الأحلام، ومغرم بجلّ ما كتب الرجل، أن يأبه؟

كان الحكيم وقتها أحد أكبر أدبائنا العرب، إن لم يكن أكبرهم جميعاً. وكان نجماً ملء العين وملء الإعلام المصري ذي التأثير النافذ على المكان الذي جئت منه.

سألت عنه وتقصّيت، حتى عرفت العنوان الذي يستقبل فيه الناس: مبنى جريدة الأهرام، في الطابق السادس.

قيل لي من شاعر مصري بمقهى ريش ما يشبه التحذير: تروح تقابله ليه؟ ومين أنت؟ دا بياخذ ألف دولار على كل ساعة بيتكلّم فيها لصحف الخليج!
آذتني تلك النبرة في صوته: نبرة الحسد.

روائي آخر قال في جلسة ثانية، ما يشبه النصيحة أيضاً: إذهب لهم هناك واطلب مقابلته كصحفي. ربما يسمحون لك!
لكنني لست صحفياً ولا علاقة لي بالصحافة، فكيف أكذب؟ تهيّبت من هذه النصيحة. واستغرق الأمر ما بين إقدامٍ وإحجام حوالي شهرين.

الآن، حين أتذكّر الموضوع برمّته، أحمد أريحيّة توفيق الحكيم وأريحيّته فقط. فلولاها ما كان تيسّر لي مثل هذا اللقاء ndash; الحلم.

ذهبت لمبنى الجريدة، فإذا برجال أمن منتشرين بكثافة على المدخل. خفت وولّيت هارباً.
لم أنسَ خبرتي الطرية مع جنود الاحتلال بعد. علّمتني هذه شيئاً واحداً لا غير: أينما ترى تجمّع أمن، أنجُ بنفسك وولِّ هارباً.

حين ذكرت ما حدث للشاعر فتحي سعيد، كركر من الضحك.
_ يا بني هنا مصر مش إسرائيل!
_ أنت أعرف مني بالأوضاع. نحن غير مرغوب فينا ..

طمأنني فتحي سعيد. لكنْ بعد نصف ساعة، جاء quot;ماسح بويهquot; معدم وانكبّ على حذاء الشاعر ينظّفه ويلمّعه.
زلزلني المنظر الرهيب، ونظرت لفتحي، فإذا هو يقرأ في جريدة أخبار اليوم باستغراق، بدا لي حينها استمتاعاً سادياً.
شاعر ويقبل على نفسه هذه المهانة؟ أللعنة!

قمت غاضباً، ولم أعد لمقهى ريش بعد ذلك مطلقاً.

مضى شهر آخر. وعزمت فذهبت.
كان الحال هناك ألطف. سألني رجل أمن بلباس مدني، عن بغيتي، فأفصحت. سألني أهناك موعد سابق؟ فتلعثمت. قال: انتظر وسنرى.

مضت ربع ساعة تقريباً، ولدهشتي، جاء الرجل وقال:
_ حظّك! الباشا رايق النهاردة. بس مطّوّلش.
ركبت معه المصعد، وفي الطابق السادس، ذي البهو، توقفنا.

كانت غرفة الحكيم له وحده، كنوع من التكريم وحفظ المكانة. بينما يشغل الغرف الأخرى، كما عرفت في ما بعد، كبارُ كتاب مصر وكاتباتها، كل اثنين في غرفة.
لم أنتظر تقريباً. أشار الرجل للباب وراح.

دققت على الباب المقفول دقتين، فجاءني صوته العالي: اتفضل يا بني.

دخلت ورأيته. يا ألله! كما هو في صورته الشهيرة: البيريه على الرأس والعصا على جانب. غير أنّ قوة صوته لا تتناسب أبداً مع هزال جسمه الفاني.
استقبلني بابتسامة أبوية مستبشرة، لو عشت عمرى كله لا أنساها.
هذا الرجل! هذا الأسطورة!

فرحت بأبوّته، قال:
_ إزاي غزة دلوقت؟
_ بتسلّم عليك يا .. واحترت بماذا أناديه؟ فلم أجد غير كلمة quot;أستاذناquot;.
_ وازاي اليهود معاكم؟
_ على حطّة إيدك. احتلال وبهدلة.
_ ربنا يصلح الأحوال يا بني.

ومضت فترة صمت. كنت أغالب خلالها تهيّبي. قال مغيّراً الجو:
_ قل لي بقى، بتقرالي إيه؟
_ معظم ما كتبت.
_ لا، قول عناوين. وابتسم ..
_ عودة الروح. زهرة العمر. عصفور من الشرق. التعادلية. أهل الكهف ..
_ إيه عجبك فيهم أكثر؟
_ العودة والعصفور والزهرة. حتى أني أحفظ الزهرة عن ظهر قلب!
وكنت صادقاً.

شعّت عيناه بفرح طفولي (افتقدته بعدها حين قابلت نجيب محفوظ وجرى حديث مُشابه) وطفقت أقرأ عليه بعض رسائله إلى صديقه الفرنسي.

الآن، تبخّرت آخر ذرات الهيبة. بدأت آخذ راحتي في الكلام.

قال: تعرف؟ أنا زرت غزة. إنما لم أكتب عن الزيارة أبداً. العقاد زار رام الله وكتب.
قلت: يا ريت تكتبها.
أشاح بيده: دلوقتي نسيت التفاصيل .. زمن بِعيد. لا أظنّ.
وخيّم صمت.

قال: مقرتش quot;يوميات نائب في الأريافquot;؟
قلت: بلى قرأتها. ولم أزد.
قال: عجبتك؟ تلجلجت ولم أنبس.
أحسست أنه استاء.
قلت: عجبتني أكثر quot;عدالة وفنquot;!
قهقه عالياً من المفاجأة.
_ إيه عجبك فيها بالضبط؟
قلت: حكاية الراجل إللي ربط قمحة بخيط وسرق الفرخة.
قهقه مرة ثانية.
قلت: مشهد سريالي مبهج.
قال: رأيته بعيني.
ثم أردف: حلو .. حلو .. وإيه كمان؟
قلت: عاوز أسألك سؤال محيّرني؟
قال: لأ. قبل السؤال، لازم نشرب قهوة تاني.
وجيء بالقهوة.
قال: إسأل يا سيدي.
قلت: هل صحيح أنك كتبت quot;عودة الروحquot; بالفرنسية بالأصل؟
هزّ برأسه للأسفل.
قلت: غريب! أنا قرأتها وفتنتني، حتى أنني استهولت أن يكون هذا الإبداع الرائق نسخةً مترجمة.
قال: متنساش، الأصل واحد. وأشار إلى صدره.

انتبهت على الوقت. شربت ما تبقى من فنجان القهوة التركية الذي برد، واستأذنت، خوف أن أثقل على شيخوخته.

_ مع السلامة يابني. سلّم على الأهل هِناك.

وغادرت. وبعد سنوات قليلة، مات الحكيم.

الآن، وأنا أكتب هذا اللقاء البسيط، لقاء المعجب بأديبه المفضّل، لا لقاء الصحفي، أقول إنّ quot;يوميات نائب في الأريافquot;، صارت من أحبّ كتب الرجل إلى قلبي وذائقتي. كتاب من درر هذا الرائد النهضوي الكبرى.

لقاء بسيط وحميم، مضت عليه أكثر من ثلاثين سنة. وما زال في عقلي وقلبي طعم انطباعاتي الطازجة عنه. انطباعات، رغم تجهّم الجو السياسي المكفهّر في تلك الحقبة، إلا أنها تصفّت وشفّت مع مرور الزمن، وبقي منها اللبّ لا القشور.

بقي منها أنّ توفيق الحكيم، حين قال جملته الأخيرة - تحشرج صوته بنوع من الأسى وربما حتى الذنب. قلبي أحسّ بهذا، ولا أكذّب قلبي.
بقي منها أنّ توفيق الحكيم في نصه وشخصه، هو فنان خالص. فنان أشدّ براءةً من كثيرين كبار، قابلتهم وخذلوني. أو على الأقلّ، أحسست بمسافة بين شخوصهم ونصوصهم.

ولو قيل لي لخّص الحكيم بكلمة، بعد هذا العمر، لقفزت إلى لساني فوراً كلمة: quot;طفلquot;.
وتلك هي شيمة الفنانين العظام: إنّ طفولتهم لا تشيخ. إنهم أطفال أبديّون. وليس هذا بقليل مع كاتب عربي رأى ما رأى وأوغل حتى بلغ الخامسة والثمانين.

رحم الله هذا الفنان الخالص
لقد كان واحداً من أعمدة النهضة العربية الكبرى في النصف الأول من القرن الغارب. بفكره الليبرالي المنفتح، وبإبداعه الشامخ الباقي. ولأنه كذلك .. لأنه كذلك بالضبط، جلس وتبسّط على سجيّته مع فتى عابر. ومتى؟ في أوحش الأوقات قاطبة. في ذلك الوقت الذي قيل وخُطَّ فيه أنّ الحكيم هو زعيم الانعزاليين المصريين، وكاره العرب بلا منازع!

الرحمة على ذكراه.