باسم النبريص- خاص بإيلاف: بمبادرة رسوليّة، يعرف معناها من ذاق الأَمرّيْن وطال عليه الأمد .. حقق الوفدُ المشارك في الدورة الخامسة لاحتفالية فلسطين للأدب، ما عجزَ عنه مثقفون عرب كُثر، طوال حياتهم، وطوال خمسة وأربعين عاماً هي عمر الاحتلال العسكري وبعده السلام الكاذب وصولاً للحصار. حقق الوفد ما عجز عنه مثقفون عرب حتى في أحلامهم: ألا وهو الدخول إلى غزة المنكوبة، والتواصل مع أهلها، بإقامة أيام ثقافية وفنية منتقاة، فحواها ودلالتها أنْ: لستم وحدكم يا فلسطينيي القطاع ومثقفيه، نحن معكم.

خمسة أيام من quot;دأب النملةquot;، أمضاها الوفد في محاضرات وورشات عمل، واعتصامات، واحتفالات، وسهر. جعلتنا نشفق عليهم من شدة التعب والإنهاك. ونشفق على أنفسنا أنهم سيغادروننا بعد قليل، وقد أعادوا إلينا بعض روحنا، والكثير من عبق الزمن الجميل: زمن الأبيض والأسود: زمن وقوف المثقف العربي مع قضاياه الحقيقية، بعد طول لهو ولغو.

نخبة من عشاق فلسطين _ الوطن والشعب والجرح المفتوح، جاءوا إلينا، من شتات الجهات الأربع، ليرووا لدينا شوقَ ألف عامٍ للفرح.

يا ألله!

خالد النجار، يركب الطائرة من أمستردام، في آخر لحظة، ويهبط على القاهرة فجراً، ثم يواصل سفره عبر صحراء سيناء، في رحلة برية مرهقة للشبعانين من النوم، كي يصل البلاد ويلثم ترابها. كم ساعة لم ينم هذا الشاعر النبيل الجميل، حتى حضنّاه بيننا؟ وكم شهراً من الوقت احتاجت أهداف سويف، لترتّب لفعاليّات وفدٍ يتكوّن من 43 فناناً وأديباً مُنتقين على الفرّازة؟

وكم عانت ابنة صلاح جاهين، وزوجها الشاعر أمين حداد (رحم الله والديهما العظيمين وقد أنجبا مثل هذا الثنائي العظيم).
وكم وكم!

كل شاعر أو روائي أو فنان في فرقة اسكندريلا، له حكاية شخصية. ربما يرويها لاحقاً وربما لا. لكنّ الجوهري والمهمّ، هو استحقاقهم لتقدير أهالينا العالي ومحبتهم الغامرة.

حقاً، لقد شعرت، إذ التقيت بكلّ واحد منهم على حدة، أنهم يشكّلون في مجموعهم سيمفونية ثقافية نادرة لا ينقصها الهارموني ولا رغبة البذل القصوى.
رهط من النبلاء خارجون إليك، هذه المرّة، من معبر رفح سيء الصيت، لا من أغلفة الكتب.

رهط من القاهرة وعمّان وأمستردام ولندن، ومدنٍ أبعد نجهلُها، جاءوا وعاشوا معنا ما نعانيه وما نحلم به.

لم نكن نريد أكثر من ذلك. وقديماً قيل: نَفَسُ الرجال يُحيي الرجال. فما بالك إذا اجتمع الحُسنيان معاً فكان رجالٌ وكانت في هذا الوفد نساءٌ يتفوّقن شهامةً ووعياً على الكثير من الرجال؟

أنحني احتراماً هنا لجميع نساء الوفد كل واحدة باسمها ولقبها وأريحيّتها وعطائها المقتدر والمُقدّر.

بيد أنّ آفة هذا المقال، أنه ما يزال يسحبني سحباً، للإنشاء والبلاغة، فماذا أفعل؟
أهي الأفعال العظيمة، تتطلّب لغةً قديمة؟
ربما!

لكنّ واقع هذه الرحلة التاريخية، غير واقع هذه الكلمات.

لقد رأيت يا خالد دموعك، حين لمستَ أرض فلسطين وهواءها، حتى لو لم أكن شاهداً على تلك quot;البرهة النبيّةquot; التي لها quot;مذاق الجنةquot;.
حين حدّثتني عنها، عدت لبيتي بعد سهرتنا، ووضعت حالي مكانك، واستشعرت .. فبكيت!
لا بد من غزة وإن طال السفر.
لا بد من فلسطين مهما شحّ الزاد وأوحشت الدرب.

لعنة فلسطين يا خالد، وجمالها أيضاً، أنها حين تغمرنا بجوّانيّتها الطريّة، كحبّة تين غزاوي، إنما تجعلنا رومانسيين، دون أن ندري، نحن مَن يزعم الحداثة!
تعيدنا للأصل والبدايات!

أما أنتِ يا أهداف، يا مزيجاً من الفذّ مصطفى والجليلة فاطمة. وأنت يا أمين، يا ابن والد الشعراء وأعمقهم إبداعاً ومظلوميّة. وأنت يا سامية، يا طفلة مَن بأمره المحال اكتوى، فكوانا معه. وأنتِ يا سحر، يا ابنة المناضل العريق. وأنتِ يا سلمى، يا ابنة حي العجمي بيافا، يافا التي لو تدرين، أخذت من عمري عشرين عاماً. وأنتَ يا خالد، يا ابن القديس عبد الرحمن. وأنت يا يوسف، أيها الصعلوك الجميل. وأنت يا جمال، يا مَن خانه ظاهرُ اللغة بحكم المنفى، لكنّه وصل إلى بؤبؤ قلوبنا بصدقه وسمو سودانيّته.

يا أنتم كلكم: يا أبناء الأصل والفصل والتاريخ: اغفروا للسان العاطفة أنه يكتبكم، دون سرد وقائع وأحداث وتفاصيل وعناوين أعمال إبداعية لكم ما كانت لتصدر إلا من هذه الأرواح وهذه الأبدان. فقد أتيتم إلينا، في لحظة عاطفية جداً، بعد انتظار طال حتى يأسِنا، لكنه تمخّض عن غودو المثقف العربي، آخرَ المطاف.

نتمنى أن نلتقيكم في دورات قادمة، خاصة بعد زوال كابوس الثور المسنّ، شريك إسرائيل في حصارها لنا.

نلتقيكم وقد زال الانقسام _ نكبتنا الثانية.
وزال حبل الحصار الإسرائيلي الملتفّ على قرابة مليونَي رقبة.

شكراً لكم.
نقولها، كنوع من حلٍ، عندما يعجز اللسان عن البيان.

شكراً لكم!