حميد مشهداني من برشلونة: في هذه الايام تمر الذكرى 75 لقصف مدينة ldquo;غيرنيكاrdquo; في اقليم الباسك شمال أسبانيا اثناء الحرب الاهلية الاسبانية 1936-1939 و التي دمرت تماما من قبل فيلق ldquo;الكوندورrdquo; الالماني النازي، و الغريب ان هذا القصف الذي استمر عدة ساعات أستهدف المدنيين، و مركز المدينة، و الضحايا كانوا آلافا من الابرياء البعيدين عن الحرب حتى تلك الايام .كان صباحا مشرقا في ربيع عازم على اخفاء ويلات الحروب، و لم ينتهي القصف الى ان دمت المدينة تماما . كان ذالك في ربيع 1937 و كان ldquo;هتلرrdquo;و طيرانه الحربي المسئول الاول عن هذه الكارثة الانسانية الرهيبة بالتعاون مع قوات ldquo;فرانكوrdquo;المتمردة على الحكومة الجمهورية الديمقراطية، و على مدى 40 عاما كان نظام الجنرال الفاشي يلقي اللوم على طيران الجمهورية و على الشيوعية العالمية من خلال دعاية مستمرة و كاذبة على مدى كل هذه السنوات للاستهلاك المحلي، و الاشنع كان في اجبار الناجين من هذا القصف على الاعتراف ان الطائرات كانت روسية و فرنسية، في عام 1980 زار الرئيس الالماني مدينة ldquo;غيرنيكاrdquo; و معه وثيقة ldquo;أعتذارrdquo; رسمي باسم حكومته معترفا بوحشية ذالك التدمير الذي نفذه سلاح الطيران النازي.
و لكنني اريد الحديث عن لوحة ldquo;غيرنيكاrdquo; التي رسمها ldquo;بابلو بيكاسوrdquo; او بدأ برسمها بعد ايام من القصف الوحشي، في ذالك العام كان النشاط محموما للتحضير لمعرض باريس العالمي، و الحرب في اسبانيا تدور منذ سنة بعد تمرد الجنرال على الحكومة الشعبية المنتخبة ديموقراطيا التي كانت تصر على المساهمة في هذا المعرض رغم تعقد الوضع السياسي الاسباني، و كانت تريد المساهمة على كل الاصعدة خصوصا في الجانب الفني و الثقافي، و ldquo;بيكاسوrdquo; الاسباني أشهر الفنانين في العالم كان يعيش في ldquo;باريسrdquo; منذ عقود، و الجمهورية كانت تود مساهمته في جناح أسبانيا بجانب فنانين أسبان اخرين مثل ldquo;جوان ميروrdquo;و ldquo;سلفادور داليrdquo; و اخرين، و هذا الاخير أعتذر عن المشاركة، فأرسلت الحكومة وفدا مع طلب رسمي يدعو هؤلاء المساهمة.، و بيكاسو كان مترددا في البداية بسبب اعتبارات فنية وذاتية، ففريدة الفنان و فوضويته كنت تجعله في منأى من المناسبات الرسمية و السياسية، و أعتذر عدة مرات، و مرات اخرى قام بأنشائات و تخطيطات في محاولة مخلصة لنصرة الجمهورية، و دائما ينتهي في تمزيقها، و بعد 3 أشهر حدث قصف ldquo;غيرنيكاrdquo; و هذا جعله في مأزق امام ضميره، غضب و انفعل كثيرا امام قسوة و وحشية هذا التدمير و القتل الجماعيووهنا بدأ العمل في لوحته هذه و التي ستصير من أشهر لوحات القرن العشرين، و أكبرها حجما، أكثر من 3 امتار عرضا و اكثر من 7 أمتار طولا.
كان موعد المعرض يقترب بسرعة و الحاح الانفعال تمكن من ldquo;بيكاسوrdquo; بينما كان يعيش مرحلة عشق جديد مع الشابة ldquo;دورا مارrdquo; المصورة الفوتوغرافية، و هذه ساعدت الفنان كثيرا في تواصله و هي صاحبة الافكار اليسارية المتطرفة، و المتحمسة لقضية الجمهورية الاسبانية، و كانت كما العديد من شباب ذالك الجيل الذي ناهض النازية و الفاشية التي كانت تنخر عظام اوروبا، و كانت تصور كل لحظات انجاز اللوحة، قبل ذالك كان بيكاسو قد كلف اثنين من المحترفين الاسبان المهرة في النجارة و صنع تحضير الكنفاس، و هؤلاء لم يصدقوا لاؤل وهلة طلب الفنان في عمل بمثل هذا الحجم فهم اعتادوا على طلبات بناء هياكل لوحات بحجوم عادية، و أحيانا كبيرة ولكن هذا التكليف فاق كل تصوراتهم.
مشغل بيكاسو في باريس تحول الى ملتقى للعديد من الفنانين و الشعراء و الكتاب اثناء رسم اللوحة بتحريض من ldquo;اندريه مالروrdquo; المثقف الملتزم مع قضية الجمهورية الاسبانية و كان محاربا في ldquo;الكتائب الامميةrdquo; و هذا اتصل بالعديد منهم في محاولة تشجيع بيكاسو في سباقه مع الزمن لانه كان على يقين ان تجمع اكبر عددا من اصدقائه سيساعد على تنفيذ الانجاز في وقته المحدد، و هذا ما حدث، و في هذا المشغل مر ldquo;رافائيل البرتيrdquo; مدير متحف ldquo;البرادوrdquo; العتيد أنذاك، و ldquo;همنجوايrdquo; و ldquo;ماكس جاكوبrdquo; و التجمع السوريالي و ldquo;بول ايلواردrdquo; الذي سيرافق اللوحة في قصيدته المشهورة ldquo;غيرنيكا الانتصارrdquo; و ldquo;خوسي بيرجامينrdquo; 1895-1983 و هذا كان من شعراء جيل الrdquo;27rdquo; الذي أرخ شعراء هذا الجيل في العديد من الكتب البحثية و يعتبر الاكثر امانة في توثيق انتاج و ابداع هؤلاء.
أتخيل العيش في ذالك المشغل الصاخب أثناء انجاز لوحة ldquo;غيرنيكاrdquo; و أشعر و كأنني عشته شخصيا في صخب النقاش بين الفنانين و الشعراء و سائقي عربات النقل الاسبان الذين اعتادوا زيارة الفنان خلال مرورهم باريس، و زجاجات النبيذ بكل ألوانه، و دخان السكائر يطوف فضاء المشغل بينما كان ldquo;بيكاسوrdquo; و هو يقارب الستين من العمر في حركة مستمرة و نشاط محموم مسرعا في ابداعه في تزامن سرعة تقدم موعد المعرض مستمعا لكل الاراء و تعليقات هؤلاء، و لكنه كان على هواه و كأن اللوحة و انشائها كانت قد تجسدت في خياله بكل مفرداتها، و بعد أسابيع انتهى من انجازها تقريبا.
ldquo;الغيرنيكاrdquo; بالالوان
بعد الانتهاء منها بقي بيكاسو يشعر ان لوحته ينقصها شئ لايعرف كنهه، فسوادها و رماديتها كان يثير في نفسه نوعا من الهذيان خصوصا بعد ذالك النشاط السريع و المحموم خلال الاسابيع الاخيرة وقبل نقلها الى الجناح الاسباني في المعرض الدولي أتصل بكل أصدقائه الذين عاشوا خلقها يوما بعد يوم، و طرح فكرة تلوينها على هؤلاء، و معظمهم أحتجوا و كانوا ضد الفكرة هذه و أخرين أعتقدوا تدهور صحة الفنان العقلية، لان اللوحة في شكلها الحالي كانت رائعة و اصدقائه و مؤرخيه حذروه من هذه المغامرة لانهم أعتبروها من اكثر ابداعاته نضجا على مدى تأريخ أدائه و انتاجه الفني، و حدث خلط و لغط بين الجميع في المشغل و لكن بيكاسو ركب رأسه و لكي يحسم الامر أرسل شراء العديد ضبات الورق الحريري بكل ألوانه المتوفرة في السوق و أعطى لكل واحد منهمrdquo;مقصاrdquo;لقص الالون حسب حجم ldquo;الفكراتrdquo; و ldquo;مساحاتrdquo; اللوحة و بدأ بعد ذالك تلصيق ورق الحرير الملون على سطحها الهائل الحجم، و بعد الانتهاء من هذه المهمة الشاقةتحولت الغيرنيكا الى لوحة ملونة و صعق الجميع بالنتيجة، و منهم بيكاسو نفسه الذي اقتنع بعدم جدوى التلوين، و هنا اتذكر حديث ldquo;خوسي بيرجامينrdquo; في عام 1980 خلال اذاعة مقابلة معه، يقول الشاعر ldquo;انا و ldquo;مالروrdquo; و ldquo;البيرتيrdquo; و ldquo;ايلوارrdquo; و ldquo;اراغونrdquo; قمنا بالقص و اللصق على طول يومين و النتيجة كانت ldquo;تحولrdquo; اللوحة من عمل فني مرهف الحس في هدف عكس مأسي الحرب و شرورها الى عمل يشبه اعلاناتrdquo;السيركrdquo; الشعبية المتجولة، نزعنا كل كل القصاصات الملونة، ولكن بيكاسو احتفظ بواحدة صغيرة، و هذه كانت ldquo;الدمعةrdquo; المنتشرة على وجوه شخصيات اللوحة، و هذه كانت حمراء، و طلب مني لصقها كل يوم جمعة خلال فترة العرض، و هذا ما قمت بهrdquo;و بعد اللمسات الاخيرة خرجت من مشغل الفنان الى المعرض العالمي و هي مازالت طرية الالوان في معظم اجزائها لتتوسط في جناح اسبانيا صورة كبيرة للشاعر ldquo;فيديركو غارثيا لوركاrdquo; الذي كان من اول ضحايا الفاشية في اسبانيا من جانب و من الجانب الاخر قصيدة ldquo;بول أيلواردrdquo;عن غيرنيكا التي أشرت عليها في بداية المقال.
غيرنيكا ldquo;المحاربةrdquo;المسافرة
بعد انتهاء معرض باريس الدولي لعام 1937 في نهايات شهر سبتمبر تبدأ اللوحة سفر الى معظم الدول الاوربية في محاولة مواجهة انتشار الفاشية السريع في هذه البلدان، و عرضت حتى في ايطاليا ldquo;موسولينيrdquo; التي تزعمت هذه الحركة السوداء، و كانت في سفر و عرض دائم استمر اكثر من سنتين، و بسبب حجمها الهائل كان يتوجب تفكيكها و أعادة هيكلها من جديد كل مرة مما أصاب قماشها بجروح عديدة، و هذا كان يقلق ldquo;بيكاسوrdquo; الذي قرر أعادتها الى باريس لتستريح، و لم تسترح طويلا فالقوات النازية كانت على مشارف باريس و على أستعداد لغزوها في اي لحظة، هكذا اضطر الفنان تهريبها الى ldquo;لندنrdquo; لتواصل نشاطها الدعائي ضد الفاشية و النازية و استقرت في واحدة من الصالات البرجوازية الانكليزية المحافظة، و يقال انها في هذا الحي لم تحظى بأكثر من 3000 زائر، ولكن انصار ldquo;الكتائب الامميةrdquo; المتطوعين ضد ldquo;فرانكوrdquo; و معظمهم كانوا من البريطانيين قرروا نقلها الى حي ldquo;وايت جابلrdquo; العمالي في وسط لندن، و هناك لاقت نجاحا شعبيا باهرا من ناحية عدد الزوار و كذالك التبرعات للكتائب الاممية من مال و ملابس و ادوية و طعام، و بقيت هناك حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، ولكن أحتمال سقوط لندن اضطر الفنان تهريبها من جديد، و هذه المرة الى بعيد، الى ldquo;نيويوركrdquo; حيث استقبلها متحف الفن الحديث لهذه المدينة، و احتفظ بها كما جوهرة، و هنا شعر بيكاسو أرتياحا عميقا، لانه كان يهرب اللوحة من هنا وهناك خشية ان تسقط بأيدي النازيين الذين أعتبروها عدوا حربيا و وعدوا تدميرها حال القبض عليها،، تخيلوا هذه اللوحة من أسؤ الاعداء .بسبب من رمزها الذي طاف العالم في العداء و مقاومة الفاشية، و في الولايات المتحدة و أثناء الحرب عادت تسافر الى العديد من الولايات الاميركية في هجرة دائمة مع نشيدها المعادي للحروب بينما كان ldquo;هتلر ldquo; يبتلع الاراضي الاوربية و البلدان.و مرة أخرى كانت اللوحة تعاني من التفكيك و التركيب في كل سفرة، و هذا انهكها فمنع الفنان نقلها الى اي مكان أخر باستثناء أسبانيا في في حالة عودة الديموقراطية، و هذا صار شرطا مشهورا أعلنه بيكاسو امام العالم، و أستقرت في متحف نيويورك لاأكثر من 15 عاما تستقبل زوارها بهدوء المحارب المتعب. ولكن في منتصف الخمسينات أستقبل بيكاسو صديقا قديما في دار اقامته على الساحل الازرق جنوب فرنسا، و هذا كان الفنان البرازيلي المشهور ldquo;ثيثيرو دياسrdquo;1907-2003 و كان المسؤل عن ldquo;بيينال ساو باولوrdquo;و مهمته كانت اقناع الفنان ان يدع الغرنيكا السفر الى البرازيل للمرة الاخيرة و توسله السماح للشعب البرازيلي مشاهدة اللوحة، و بعد يومين تمكن من ذالك لاعتبارات الصداقة الشخصية و موقف الحكومة البرازيلية المؤيد لقضية الجمهورية الاسبانية و استقبالها آلافا من اللاجئين الاسبان و هذه كانت سفرتها ما قبل الاخيرة، حيث عادت الى نيويورك متعبة تماما مما أضطر محافظي متحفها أدخالها مركز العناية المكثفة خلال أشهر لترميم العديد من الجروح، ثم طبقو خلف قماشها نوعا من السائل الشمعي الثابت و الذي سيصير جزئا مكونا ابديا للوحة، و هكذا ترتاح خلال 25 سنة الى ان تم اعادتها الى اسبانيا في عام 1981 بعد عودة الديوقراطية لهذا البلد المنكوب خلال عقود طويلة. و الان تطالب مدينة ldquo;غيرنيكاrdquo; باللوحة، و هذا نقاش قديم يرتفع ضجيجه كل عام في هذه المناسبة، و أخيرا أسائل نفسي، هل هناك سفرة أخيرة للوحة متعبة؟ .
التعليقات