انفصام

كحداثي، أرتاب في الحكمة. كإنسان متأمّل، أحبها حيثما وجدتها. وبين هذا وذاك، أقع في الحيص بيص. فالحكمة: خلاصات شمولية. اقترابٌ من المطلق. والحداثة نقيض ذلك، فماذا أفعل؟ وكيف أتصرّف مع انفصام العمر الطويل؟


أثير

حين تطول التراجيديا، تنقلب إلى مهزلة. مسكين يا شعبي! لأنك الوحيد بين الشعوب، الذي سُرق منه وطنه في زمن حداثي. زمن quot;كل ما هو صلب فيه، يتبدّد ويتحوّل إلى أثيرquot;. مسكين يا شعبي. لقد جاءت الحداثة وبالاً عليك وعلينا، وعلى كل تلك الحقائق الفلاّحية، التي كنا نظنّها صلبة، فإذا بها اليوم .. quot;تتبدّد وتتحوّل إلى أثيرquot;.


مسخرة

ليلٌ لابسٌ كل ما تحتويه خزانة الفقير في الشتاء. ليلٌ، كليل القرآن: طبقات فوق طبقات. ليل متوسطيّ ثقيل وكثيف، كأنّه مَنيٌّ أسود. إنه ليلنا وقد قطعت عنه إسرائيل الكهرباء. أمس تفحّمت ثلاث جثث لأطفال في دير البلح. وقبلها تفحّمت جثتا رجل عجوز وزوجته في مخيم خان يونس. ولا يعلم أحد ماذا سيحدث غداً، أو في الأسبوع القادم. خمس جثث تفحّمت من إيقاد الشموع. فماذا أفعل أنا، وبيتي يعيش على الشموع قرابة الشهرين؟ ليل لابس كل ما تحتويه خزانة الفقير. ليل لا ينجلي كليل إمرىء القيس، ومع هذا، ثمة من يثرون من وراء هذا الإظلام. ألم أقل لكم، إنّ المأساة، حين تطول على شعب، تنقلب إلى مسخرة؟

فضفضة

إلهي: ألا ينتابك الندم، لأنك خلقت سبعة مليارات بشري، ولم تخلق مقابلهم سبعة مليار حمار؟ إذا كنا نحن الفانين اكتشفنا حكمة الحمار،
فكيف غابت هذه عن فطنتك؟ إنّ الحمار لا يقتل حماراً. والحمار يأكل ما يلزمه فقط. فكيف أتيت بهذه المليارت، ليقتل قويُّها ضعيفَها، ويسرق شبعانُها جوعانَها؟ ألا تنتابك في عزلتك الدهرية، خيبةٌ؟ ألا يؤرّقكَ ندَمُ؟ اغفر لي يا مولاي. فأنتَ، كما هم، الذين صنعوك على شاكلتهم، بك نواقص كثيرة. وعيوب. ربما مرجعها، فقرُ الخيال، في رءوسهم. وربما بساطة حالهم، في ذلك الزمان القديم.


تضليل

ليلٌ آخر بلا نوم. صباح مريض يبزغ من الأفق الشرقي، كأنه صباح بائت. والآن، في هذه الساعة التي تقترب من السادسة، تنتابني فكرة وحيدة: أن ألعن كل من ضلّل الناس، وأغرق في امتداح الأرق! لقد مدح بضاعة فاسدة، ربما لأنه لم يذقها. والأغلب أنه من ذلك الصنف الراضع من ثدي العتمة، حتى الارتواء، ثم يقوم سعيداً نضراً، ليكتب في امتداح مالا يُمتدح.


معلّم

كلما قرأت كفافيس، شملتني السكينة. هذا شاعر يتغذّى من أنساغ التاريخ. شاعر يكتب وحياته خلف ظهره. لذلك عوالمه مليئة بالأشباح والظلال. ومع أنّ التاريخ خطِر على الشعر عموماً، والحداثي بالأخصّ، إلا أنّ كفافي _ وتلك معجزته _ يشعرن قصيدته، على نحو ينقذها من مغبة خلّوها من دم التجربة. بل هو يملأها، في أحيان ليست قليلة، بالحياة والإدهاش.

إنه، لا غرو، معلّم شعر.


زيارة

أزورها في ضحى يوم ربيعي صاف. قبرها تغطيه ورقة زرقاء من الخلود. أما جثمانها أسفل البلاطة، فيُمتصّ، ساعةً بعد ساعة. في صنيع يتكرّر منذ كانت الأرض، وكانت الكائنات. أمكث ريثما يحمى الجو، ثم لا ألبث أن أذهب لحال سبيلي.
مثقلاً بالفراغ، أمرّ من أمام مدرسة ابتدائية لوكالة الغوث. ثمة صف ينشد. ومعلمة شابة تضحك. الفراغ يتحوصل في المريء. أستاذ يمرق ويُسلّم عليّ. أغمغم، ثم أنظر للزقاق الخاوي، وهو يزداد لمعاناً تحت شمس الظهيرة الساطعة. مسكينة أيتها الأم. عشتِ غلبانة ومتِ غلبانة. وها أنت مثلهم: من المنيّ إلى المنيّة. من المنيّ وكأنك لم تكوني. وإلى المنيّة وكأنكّ لا حسّ ولا خبر.

مسكينٌ أيها العالم.


اجترار

يجترّ حنينه كالجمل. ولا يعرف أنّ كل حنين: اغتيال للحاضر. كل حنين نكوص للوراء. فقط يعرف كيف يكتب عن الحداثة، فإذا استعصت، كتبَ عن .. ما بعدها!


أحجام

نهدان ولا شائبة ترهل. حلمتاهما تبدوان من وراء القميص، كحبتَي عنب من القطع المتوسط. تغادر الشاعرة ذات القطع الصغير الدار، وقد خلّفت في حلق أخينا الورّاق، غصة من القطع الكبير.


سبب

هذا رجل يقيم في quot;الواقعquot; تماماً. وهذا يكفي لأتلافاه!


لمبة الكاز

إن كان من فضل شعري لانقطاع التيار الكهربائي المزمن عن قطاع غزة، فهو هذا: عدتُ إلى قنديل الكاز ذي اللمبة الزجاجية المخروطة من أسفل، ذات العنق الرفيع الدائري الطويل من أعلى.

حين أشعله، تعود طفولتي ومراهقتي دفعة واحدة.
الظلال التي تكبر وتصغر على الحيطان العارية. صمت الملكوت الذي يمكن تذوق كل حبة منه باللسان. والسكينة المخدِّرة الناتجة عن تأمل الفتيل القطني المشتعل، وهو يقوى أو ينوس.

عالم كامل ينبثق، كطائر العنقاء، من رماد الزمن.
ذكريات المذاكرة مع الأخوة على الطبلية الخشب، أو في فراش الشرائط الأرضي. استغراق الأم الكبيرة في عملية تنظيف اللمبة (الأشبه بطقس) قبل المغرب بقليل، وذلك بإدخال رمل السوافي الأصفر والماء، إلى جوفها. ثم خضّها برهافة وحذر، خشية الكسْر.
ثم، وهذا هو الأهمّ: أحلام اليقظة النشطة، التي سرعان ما تندمج في أحلام النوم الهانئ المبكر.

عالم من الغموض والتوحد، ما عاد ممكناً منذ دخلت الكهرباء والنت بيوتنا.
عالم من الأحلام والأوهام والأخيلة والأساطير والحكايات، لا يثير لدى أولادي (وهم يرونني أحرص على استدعائه، بإشعال القنديل في غرفتي وحيداً) سوى الهزء والسخرية.
فهم لجأوا، مثل غيرهم، إلى الحل العملي الأسهل: مولدة الكهرباء بتلوثها وضجيجها الرهيبين.

الرحمة على ذلك العالم!


فجر

ما الذي يفعله الفجرُ في هذا العالم؟
إِنه يوقظ مروحة الضوء التي نامت في يد الساحرة.


فجر

ليكون فجر، لا بد من شجرة.
مذ سكنت العلبة الإسمنتية العالية التي يسمونها quot;شقةquot; وأنا محروم من الفجر.
يتيمُ فجرٍ.
إن جازت إضافة كائنٍ عابرٍ إلى كائنٍ خالد.


فجر
أجمل فجر رأيته في حياتي، كان على بحيرة طبريا: ماء يمتزج بسديم. سديم يمتزج بماء. ولا تستطيع ريشة رسمهما.
أجمل شروق، كان في جبل الزيتون، المطلّ على قبة الصخرة: عرس من نورٍ وذهب!


فجر

الفجر أوّلٌ دائماً. ساهرُ النت يجعله أخيراً. لكنْ حذار! فالطبيعة هي أيضاً تقتصّ ممن يلخبط الأمور.


انتباه

ما إن تنتبه إلى quot;علامات الزمنquot; على وجوه وأقفية أصدقائك ومُجايليك، حتى تكون أنت قد كبرت واكتهلت .. وقريباً، سوف تتوكّل على الله ndash; مثلهم ndash; وتذهب.
أنا حدث معي هذا quot;الوعي الفريدquot; منذ مدّة، فتوصّلت إلى الحقيقة المذكورة أعلاه. ولم أتوصّل إليها فحسب، بل تعدّيتها لما هو أسخم: اكتشفت على حين وخزةٍ، أنّ كل ما قرأته عن الزمن، من نوع أنه/ يمشي/ يتباطأ/ يجري/ يهرول، كان محض أكذوبة وتدليس.
فالزمن، زمني وزمن مَن حولي، يحطّ ويتراكب طبقات فوق طبقات، فقط.
تلك هي علامته الأبرز والأشيع والأبعد غوراً: يحطّ ويتراكب فقط.
والدليل هو ذا: إنحناء ظهورنا، وأشياء أخرى، بعد عبور الخمسين.

خطأ

نائمة بجواري. ظلال الأحلام تعبر جبينها، فترتسم عليه ذبذبات ردّ فعلٍ دقيقة. تنفسّها الهادئ كقطة، مع شخير طفيف لا يكاد يُسمع. بطنها الأملس المسطّح، أحلامها المغتالة في اقتناء سقف ..كل هذا يشعرني بهشاشتها، بهشاشتي. بخطإ وجودنا في هذا المكان الخطر المسمّى quot;العالمquot;.