ياش قوري اياغنا ينار
يحترق الاخضر بجريرة اليابس
مثل توركماني

حجي متي وإمام الريح



كلما نهض الحاج متي الداقوقي من مكانه كان يسحب نفسا عميقا ثم يقول بصوت خافت:
ـ يا علي يا حيدر الكرار
قاخ حسين ناناسي او بوخجاني جاتر.
ويردف قائلا باللغة العربية:
ـ حضري حاجياتي يا أم حسين.
ثم يواصل كلامه وهو يخاطب زوجته الشيخة عائشة الجبوري كما لو أنه لم يرد أن يطلق كل الجمل في آن واحد، وهذا هو طبعه، إذ كان دائما يتكلم ببطء ليكون لكلامه وقع خاص متميز به وحده:
ـ اليوم عيد الغدير،سأذهب لزيارة إمام الريح.
فكان من محبي إمام الريح، ويزور قبره الذي يقع في قمة الجبل، ويتبرك ببركاته الذي ارتبط وإياه ارتباط قديم له قصة مؤثرة في نفسه. كان الحاج متي من الجعفريين الذين ينتمون الى الإمام جعفر الصادق، والذين يسمونهم العامة في كركوك رافزى (الرافضة). ها هو الآن يرفع الصرة quot;البخجةquot; بيده اليمنى، ويتكأ على عصاه، وهو يقول:
ـ يا ابا حسين.
خرج من البيت يسحب قدميه بتثاقل، وعصاه تدق في الأرض دقات خفيفة متجها صوب قمة الجبل حيث يرقد إمام الريح على قمتها.
كانت زوجته من الشافعية التي لم تنج من مداهراته البريئة المرافقة لأحاديثه، وهو الآن يكررها بتلك الروح الطيبة التي تخلو من الإساءة كأنها أصبحت عنده عادة لم يقدر على تجاوزها:
ـ اتدرين يا امرأة لولا كونك من الأمامية لما تزوجتك.
غير أنه رفض أن يسميها ويناديها باسمها الحقيقي طوال حياتهما الزوجية، واختار لها اسما يتماشى مع رغباته، لذلك أطلق عليها ( أم حسين ) وهي ليس لديها ولد بهذا الاسم.
هذا اليوم له قدسية خاصة في نفسه لأنه شهر رمضان، وهو يرتقي الجبل ببطء، ويتوقف بين فترة وأخرى ليسحب أنفاسا بصعوبة، ويتحدث في داخله متحسرا على زمان الشباب الذي انقضى، ومقرا إنه قد أصبح عجوزا، فقد علا الشيب رأسه، وتغضن وجهه، وكثرة التجاعيد فيه، ثم ضعف بصره، وتقوس ظهره، وصار يعاني من آلام في ظهره ومفاصله. توقف في صعوده مرات عديدة، وجلس على صخرة في درب الجبل، وهو يكافح، ويتحلى بالصبر أن يواصل صعوده، فكان يحس أنه يجهد نفسه، وأن قدميه ثقلا، وقد انهكه التعب حتى وصل المرقد وقد خارت قواه تماما، فاستقبله خادم المرقد مرحبا، وهو يساعده أن يدلف إلى وسط غرفة واسعة، تعلوها قبة كبيرة. لم تمض فترة طويلة، فبدأ يقرأ سورة الفاتحة، وآيات من الذكر الحكيم، ثم توضأ في باحة المرقد، وصلى ركعتين هدية للإمام.عندما انتهى من الصلاة عاد إلى خادم المرقد، ودارت بينهما أحاديث متشعبة تخص المرضى والزوار، فكان المرقد قد تحول الى مشفى للمجانين، والمرضى الذين يعانون من خلل نفسي، يأتي بهم ذويهم إلى المرقد، ويربطونهم بأحكام في أحد الغرف حيث انتشرت بركات الإمام بين العامة، وبدأ الناس يأتون من حدب وصوب بأبنائهم ليشفوا من أمراضهم العقلية والنفسية. وكان العامة يأتون في نفس الوقت ببعض المؤن من مأكل ومشرب، ويتركون أبنائهم عند الإمام، ثم يعودون بعد أسابيع وأحيانا بعد اشهر ليصطحبوا أبنائهم معهم إلى بيوتهم.
همس خادم المرقد بصوت خافت في آذان الشيخ:
ـ هل سمعت ما يدور في ايران من حوادث، أنهم يقولون لقد ولى الشاه وشرد من الديار.
رد الشيخ:
ـ طبعا حكم المستضعفين قادم بإذن الله، أنه وعد الله، ووعد الله حق يا صديقي.
ـ اخفض صوتك يا شيخ فالحائط له أذان.
ضحك الشيخ وأطلق قهقه عالية ثم قال:
ـ من يسمعنا ؟! اتعني أذان الفئران التي تعشش بين الحيطان.
ثم اردف قائلا باستخفاف
ـ هذا الملحد مدير المدرسة الجديد الذي كتب يافطة كبيرة في بوابة المدرسة ويؤمر التلاميذ بترديدها كل صباح.
اندهش خادم المرقد، وهو يستمع بانتباه إلى كلامه، ثم ما لبث أن سأل:
ـ ماذا كتب عليها؟
هز رأسه وهو يدق الأرض بعصاه دقات غضب، وقال باستهزاء:
ـ quot;يا ايتها الشمس ان شئت فغيبي فسيصنع البعث شمس دون مغيب quot;...استغفر الله توبة يا رب...العالمين والله هذا كفر وآخر زمن... لكن وعد الله حق وسيأتي الإمام.
فتعجب خادم المرقد، وهو يفتح عينيه على وسعهما، وسأل:
ـ هل تعني إمام الزمان يا شيخ ؟
فرد الشيخ بسرعة:
ـ لكل زمان إمامه يوكل إليه مهمة قيادة الأمة في غياب المهدى يا صديقي.
ثم نهض بتثاقل، وهو يقول:
ـ سأنام القيلولة الآن لأني تعبت جدا هذه المرة وسنكمل حديثنا في المساء.
.........................
............
...........

وجدت جثة الحاج متي الداقوقي مرميا في إحدى أزقة مدينة كربلاء في ايلول من ذلك العام وقبل بدأ حرب الثمان سنوات بين العراق وإيران عام 1980 ميلادية.