بغداد: عرضت على مسرح المعهد الثقافي الفرنسي، مساء الخميس، مسرحية (الصامتات) تأليف واخراج الدكتورة عواطف نعيم، وهي قراءة مشاكسة للكاتب الفرنسي جان جينيه وخادماته، بحضور جمهور ملأ قاعة العرض وفاض، ويمكن قراءة العمل كما هو معروف عنه من خلال الخادمتين اللتين تعملان عند سيدة ارستقراطية لا يحبانها الا قليلا كما تقول ذلك احداهن، وهي لا تستطيع ان تطردهن لانها لا تستطيع الاستغناء عن خدمتهما، وان كانت تقول انها قادرة على ذلك، وحين يشتد النقاش وتتطور الامور الى نزاع ينتهي بقتل السيدة، لكن صوتا من اخر القاعة يدوي بكلمات: (لك.. هااااااا، وينكم )، وهي اشارة الى ان سيدا اخر قد جاء، وفي هذا تريد المخرجة ان تؤكد على ان الخادمتين لم تتحررا بعد وهي اشارة الى (استمرار الدكتاتورية)، وقد جاء سيد اخر لتخدمه الفتاتان، وقد عبرت عن ذلك (الخادمة) اقبال نعيم حينما قالت لشقيقتها الخادمة (سوسن شكري): (نحن ارث الورثة، فنحن جزء من هذه الغنيمة ).
ويمكن الاشارة الى ان الاشادة بالعمل هي اكثر ما تميزت به الاراء، وبالاداء الذي قدمته الممثلاث الثلاث لاسيما الفنانة اقبال نعيم التي ادهشت الحضور بسحر حضورها وطلاقتها في الاداء المتلون وقد كان كل شيء فيها مبهرا، وهذه العودة لها بعد غياب طويل عن خشبة المسرح، كما كان اداء الفنانة سمر محمد مميزا ومثلها كان اداء الفنانة سوسن شكري التي قال عنها الفنان سامي عبد الحميد انها في هذا العمل قدمت الافضل.
فقد قال اوليفيه شاتليه، المستشار الثقافي في سفارة فرنسا في بغداد، مدير المعهد الفرنسي في االعراق: بعد تقديمها لعدة عروض مسرحية منها (انا في الظلمة ابحث) تأليفا، و (جنون الحمائم) المستوحاة من (سوء تفاهم) للكاتب الفرنسي البير كامو، ارتأت الدكتورة عواطف نعيم الاحتفاء بجان جينيه و (خادماته)، تلك المسرحية التي اعتبرها (تجسيد لاحزان المرأة اينما كانت وترجمة لمعاناتها من كل اشكال القمع والتهميش).
واضاف: العمل المسرحي هذا بكل ما يجسده من مأساوية وقساوة ما هو الا اقتباس لحدث واقعي وجريمة اقترفتها الاختان (بابان)، والتي قوبلت في حينها بعدم رضى الجمهور ولاقت انتقادا شديدا لدى عرضها في نهاية الاربعينيات من القرن الماضي الا انها كانت مدعاة للتفكير بشأن الطبقة البرجوازية في القرن العشرين.
اما الفنان الكبير سامي عبد الحميد فقال: هذا العرض يعطينا املا كبيرا ان المسرح العراقي كان وما يزال متقدما، ويقدم ابداعات، يتفوق في طروحاته، يذكرني هذا العمل بعمل لنفس المؤلف (جان جينيه) قدمته عام 1967 في الجمعية البغدادية، هذا المكان يذكرني بذلك المكان، الجمهور الذي حضر اليوم هو نفس الجمهور الذي كان يأتي للجمعية البغدادية التي اعضاؤها كلهم مثقفون، ذلك العمل هو قرين لهذا العمل (الخادمات) وذلك اسمه (رقابة عليا) يتحدث عن ثلاثة مجرمين يتصارعون فيما بينهم لكي يصعدوا الى المجرم الاعلى، يبدو المضمون عن الجريمة ولكنه هو في الحقيقة عن الخلاص، فالاعداد الذي عملته عواطف نعيم شيء واحد فقط لم تدخل فيه وهو ما يسمى بـ (الاحلال)، ان كل واحدة من الخادمتين كانت تحل محل سيدتها، ولكن حاولت في الاخير ان تعطي هذه الفكرة، كان المجرمون هناك يتصارعون فيما بينهم ليحلوا محل المجرم الاكبر، يصعدوا اليه، وكان هذا يمثل الخلاص، يعني ان جان جينيه يعمل دائما على هذه الثيمة، ثيمة الخلاص، يستغل الاجرام كوسيلة من وسائل الخلاص، لانه كان سجينا.
واضاف: اداء الممثلاث كان راقيا جدا، وان كانت عندي ملاحظة واحدة سأقولها لهن فيما بعد، ففي مثل هذا المكان كان المهم لديهم كيف يسيطرون على الجمهور وكيف يسحبونه اليهم كون المسرح غير واسع، حيث تتمكن السينوغرافيا ان تلعب دورا والحركة تلعب دورا ايضا، وانما كان الاعتماد على الكلام، وقد اوصلت الممثلات الكثير من ثيمة المسرحية فيما عدا لحظات ما كان الصوت يصل اليّ ولا اعرف ان كان يصل الى الاخرين ام لا، ولكنه اداء مدروسا راقيا، ومنه اداء اقبال نعيم التي هي من ممثلاتنا البارعات التي تركت اثرا كبيرا في مسيرتها، وهي شكلت اضافة لهذا العمل وستستمر بتفوقها، مثلما اثني على سمر ومحمد وسوسن شكري التي اعتبر اداءها في هذا العرض افضل ما مثلت.
وتابع: هذا العرض هو المسرح الحقيقي طبعا، ولا اقصد هذا العمل وحده وانما كل الاعمال الجادة التي قدمها المسرحيون الاصلاء، وهنا اكرر المسرحيون الاصلاء وليس الطارئون.
من جانبه قال المخرج كاظم النصار: انا انظر بايجابية لهذه التجربة التي انفتح فيها المعهد الفرنسي كعهده على التجارب العراقي، واليوم الدكتورة عواطف نعيم جاءت بثلاث ممثلات كبيرات وقدمت هذه القراءة الواعية (الخادمات) التي سبق ان قدمها العديد من المخرجين، ولكن هذه القراءة تنويرية تطمح الى استعادة حرية المرأة، وان ذهبنا اكثر فهي استعادة لحرية البلد من كل الضغوط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يمر بها البلد.
واضاف: انا اعتقد ان الفنانة اقبال نعيم قدمت نسقا ادائيا متطورا يعتمد الحس والقراءة الهامة لشخصيتها، قدمت دفقا ادائيا مختلفا، وكذلك الممثلتان الاخريتان قدمت هذا النسق الذي كان طاغيا، واعتقد ان المخرج هنا وضعت اصبعها على الجرح في ان تفجر الطاقة الادائية للممثلاث الثلاث اللواتي قدمن تحفة جميلة في هذه الامسية.
اما الفنان محمد هاشم فقال: عمل كبير بل انه تحفة فنية كبيرة قدمتها الدكتورة عواطف نعيم مع ثلاث ممثلات كبيرات، والمسرحية تزامنت مع مناسبة جميلة هي عيد المرأة، وهي تدعو المرأة ان تطالب بحقها وان لا تصمت، عمل فيه الكثير من المواجع والالام للمرأة العراقية التي عليها ان تطرحها وفيها لغة فنية عالية، وانا اشد على ايدي المخرجة والممثلات ونرفع لهن القبعات في هذا العمل الجميل الذي يضاف الى تجارب المسرح العراقي الجيدة.
واضاف: اكثر ما اعجبني هو فكرة العمل، وان كانت مقتبسة عن جان جينيه، ولكنني كمهتم بالتمثيل اعطتني الفنانة الدكتورة اقبال نعيم درسا كبيرا في موضوعة التمثيل والحضور والاداء والمشاعر والتلوين، فكنت معجبا بما قدمته جدا.
وفي الاخير كانت لنا وقفة مع المؤلفة والمخرجة الدكتورة عواطف نعيم التي قالت: عند جان جينيه هناك تعامل مع المرأة، وربما جان جينيه من اكثر الكتاب الذين تحدثوا عن المرأة وعن الاستلاب ضد المرأة، انا اخذت جان جينيه بالتعاون مع المعهد الثقافي الفرنسي لان هنالك كانت فكرة اخذتها وبنيت عليها، بنيت عليها الفكرة العراقية للصامتات، ان المرأة مهمشة، وانها مقصية وانها مستلبة وانها لم تمنح حقها في ان تكون وان تعمل وان تكون في المركز الذي يليق بها، وانا اؤمن ان المرأة هي المعادل الموضوعي في الحياة الاجتماعية، لذلك لم يكن اختياري للصامتات اعتباطا، ولم يكن اختياري لاسم الصامتات اللواتي تحدثن واحتججن كثيرا ووصلن الى حد الثورة والانتفاضة والرفض، فالمسرح لعب ومن (لعباته) كيف تتعامل مع العنوان ومع فضاء المسرح ومع لغة المسرح وطريقة الاداء، فالصامتات هي صرخة احتجاج في الحقيقة، فأن يكون الانسان سيد نفسه، وان تكون المرأة سيدة نفسها، واذا اصبحت سيدة نفسها وامتلكت حريتها ستوكن قادرة على ان تحرر الاخرين، فأنت لن تستطيع ان تكون سيدا ومحررا ان لم تكن سيدا حقيقيا داخل ذاتك.
واضافت: ليكن فيها اسقاط سياسي، فالمسرح ابن الكل، والمسرح بكل الفنون وكل التيارات وكل الافكار، والمسرح هو فن التأويل والاسقاط، فكيف تغيب عنه الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية والحياة بكل معانيها، المسرح هو الذي يجمعها جميعا، ف حين نرتضي الصمت خنوعا، لن نعجب حين يكون الوطن غربة.