من منا لا يعرف الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، إنّه الأشهر في زمن التشهير، والأجدر بإعتلاء المنصّة في عصر القومية وربيع الضواري الذي فتك بمنتج العراق المعرفي والثقافي. ربما السؤال يبدأ من هناك، من زمن القصيدة التي كتبت في حضرة الأفول ، أو زمن الحيرة والموت المقصود الذي أكل أكفان الشعراء والعرّافين الذين مسحوا أجسادهم بزعفران طين العراق، حتى الآله الذين ختموا قنوتهم بصيحة الفجيعة كانوا يحدسون بتلك الخيبة والمرارة التي ستكون، والألم المتجذّر في قيعان الحقول وقامات النخيل المحروقة ظلّ ينزّ رماداً مالحاً يتراكم فوق سطور من أحرقوا سنين حيواتهم في حسرة الموت على ضفاف الأنهار والسواقي التي تجهل تزويق الكلمات والمعاني. فكانت الفجيعة أن تراخت النظرات المتعبة والتوت الأصابع التي تشير من بعيد لغصّة عميقة ، فتبخّرت أحلام من أحب وعشق الإنسان العراقي والماء العراقي، والتراب العراقي في أن تتحسس روحه في فجوة برزخية عابرة حرارة تراب العراق ورطوبته وسواد لياليه، فتضاءلت في المدن البعيدة همسات الجواهري ونازك الملائكة، بلند الحيدري وغائب طعمة فرمان ، سركون بولص ومصطفى جمال الدين وقائمة طويلة من قلوب عصرت فجاجها في تلوين لوحة تجاوزت بمساحتها جغرافية المكان ورمزية التاريخ.

انّ من أشرت إليهم رحلوا وهم يدركون ماهية كلمة الوطن، لأنهم عرّفوه كما ينبغي أن يعرّف، فكانت خصومتهم مع إحداثي اللاّوطن، أو مع المفهوم النازي المتعنت الذي يحاول أن يعبث بطبيعة المصطلحات، عاشوا في المنافي البعيدة غرباء الأجساد، وفي بلدهم العراق عاشوا بدثار وطنيتهم الحقيقية، الوطن كان قريباً منهم كأنفاسهم، يعرفهم ويتأثر لكلماتهم، لأنهم شكّلوا معانيهم من همسات الناس والشجر والتراب، لم يتخلّوا عن صوت الإنسان المقهور الذي شكّل مساحة الوطن وجغرافية وجوده، كانت خصومتهم مع الطاغية الذي غيّب وجودهم وحاربهم في محو خرائط إنسانيتهم، كان الشعر عندهم صرخة الإنسان الباحث عن الحرية ، كان الشعر عندهم نبض الأرض تحت جلود الفقراء وصورة الامل في أفق النظرات الذابلة ، لم يضلّوا طريق الوطن، حيث الإنسان هو الغاية النبيلة في حقول القصيدة، وكانت الوطنية عندهم تعني التعبد في محراب الإنسانية، لم تكن قضيّتهم في ماهية التوطين المعرفي لمفردة المواطنة، فالمواطنة عندهم كانت عنواناً لإنسانية القصيدة، والشعر ثورة تبوح بخلجات النفس وتكاثف في معاني الأمل والسطوع.
كل هذه الإنثيالات تقودني إلى الكلام عن تجربة شعرية متميزة احتضنتها أرض العراق، البعض يصفها بالقامة الشعرية الفريدة، والبعض الآخر يصفها بتجرية دعائية محظة، وبعيداً عن دوافع الفريقين فإن عبد الرزاق عبد الواحد أسس لقصيدة رصينة تجاوزت العادي في نسجها وبلاغتها، إنما الإشكالية الكبرى التي مازلنا نحاول أن نلتم على فلسفتها وتأسيسها هي تلك الغرائبية في تماهي المفهوم الإنساني للقصيدة عند عبد الرزاق عبد الواحد، فهذه القامة الشعرية التي يفترض بها أن تكون في غاية الإرهاف والإنحياز للإنسان والحياة والأمل كانت تمارس نوعاً من التضليل في تعريف قصدية القصيدة. كلنا يعرف بل ويجزم أن الشعر هو حالة تسامي إنساني غاية في الرهافة، أما من الناحية المعنوية فأن الشعر ماخوذ من كلمة الشعور أي الإحساس، وعادة يحاول الشعر إيحاء أو زرع بعض الاحاسيس أو المشاعر في القارئ. وتأكيداً للفهم الدقيق لمهمة الشعر يضيف ابن سينا بعض الكلمات مفادها أن الشعر يقوم بدوره التخييلي الذي يدفع المتلقي إلى الإقبال على الأفعال الجميلة والنفور من الأفعال القبيحة. والشاعر معروف الرصافي واحد من قلة من الشعراء الذين نزعوا في شعرهم هذه النزعة الإنسانية الصادقة الفياضة بالتعاطف والتألم والتفجع بمآسي أولئك المعذبين البائسين والتطلع إلى تخليصهم من آلامهم وماساتهم في محنهم وأزماتهم .
والكثير من الثورات الإجتماعية التي غيّرت وأسست لرؤى فلسفية نبيلة كانت بتأثير وتحفيز شعراء عظام، ونادراً ما سمعنا أوقرأنا لشاعر إنحاز لمفاهيم القهر والتسلط ، إلاّ في حالة الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، ربما هناك الكثير من الشعراء من الذين لايمثلون من الشعر إلا قشوره ولايفهمون ماهيته أخذتهم سفن المنافع والمصالح للجنوح صوب القضايا اللاّأخلاقية في معالجاتهم الشعرية. إنما ما حدث مع الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد كان في غاية الحيرة والضبابية، فمن يكتب قصيدة بهذه البلاغة وهذا العمق لابد له أن يكون إنساناً حاذقاً مرهف الحس، تتدفق قصيدته قيماً إنسانية، وفي حالة هذا الشاعر كان التوقع البديهي لمغزى شعريته هو الإنسان، إذ لابد أن يكون الإنسان هو وطن القصيدة ، والوطنية هي التعريف اللاّحق لإنسانية الشاعر، فلا إنفصال بين الشعر والإنسان، وفي تجربة الشعوب يكون الشاعرهو النبي والرسول في آن، لا أن يكون رأس الدعاية ولسان حال الإحداثي السلبي في الحياة، وإذا حدث ووجدت شاعراً يتنفس شعريته في بلاط السلطان فثمّة إشكالية كبرى تحكم مفهوم الشعر عنده وشذوذ حاد في فلسفة القصيدة يحيلنا إلى التساؤل التالي: ماجدوى كتابة الشعر؟ إذا كان الشعر ضلّ تعريف غايته وماهيته. ومثالاً لهذا الشذوذ هو الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد.
الكثير منا مازال منتظراً إجابة تحليلية لهذه الحالة من الشاعر نفسه، لنرى ما إذا كانت هناك متسعات فلسفية في الغاية من كتابة الشعر ربما كان الشاعر قد توصّل إليها عبر نوافذ حداثية لم يستطع الآخر من تلمسها، أو لم يستطع الإنسان البسيط المغلوب على أمره والمحكوم برغبة سلطوية عاتية أن يسبر غورها، فالشاعر كان جاداً ومثابراً على تشكيل قصيدته في مناخات دعائية تختصر الوطن في صورة شخص عابث متناسية الإنسان الحقيقي، والأكثر ترويعاً هو استحضار تاريخ هذا المواطن الحقيقي لنسج واجهة مزيّفة لإنسان السلطة، وبعيداً عن ما يعانيه الإنسان العراقي، كان الشاعر منشغلاً في تأسيس مدرسة شعرية تعنى وترعى الإرهاب الإنساني. ومن هذا المنطلق نجد أن مفاهيم الوطن والمواطنة عند الشاعر لا تلتزم بحدود أخلاقية معينة، وعلى لسان حال الشاعر في أكثر من مناسبة يختصر مفردة الوطن الكبير الواسع الغائر في بطون التاريخ بمفردة سادية لاتعرّف حتى نفسها، فالشاعر ينحاز بقصيدته وشعريته صوب التسلط والمفاهيم القومية والفاشية التي لم تكن يوماً جزءاً من فلسفة الشعر الذي نعرفه ونؤمن به. وبالعودة لمفردة المواطنة فإن الشاعر يطالب الإنسان العراقي أن يحترم رغبته في العيش على أرض العراق وتحقيق رغبة أكيدة بدفن جثمانه في تربة العراق، وأعتقد أن هذه المطالبة تعكس إشكالية أخرى في حقيقة مفهوم الشعر عند الشاعر . فالوطن يحتمل الجميع الخونة والأشراف، اليساريون واليمينيون، القوميون والفاشيون، وجل أشرار العراق عاشوا ودفنوا في تربة العراق، إنما القصدية في مواطنة الشاعر هل البحث عن تربة حارة تدفئ برودة المفاهيم التي يحتكم عليها؟. فالشاعر لم يحترم إنسانية الإنسان العراقي، ولا توجد إشارة لحد الآن أنه ينوي العودة لجانب ألوطن الإنسان، والإعتذار هو الوسيلة الوحيدة التي تدفئ روحه بعد مماته، فماجدوى المطالبة باحترام شعرية الشاعر إذا لم يحترم الشاعر إنسانية الإنسان. وطريق الوطن لم يكن يوماً يمر بجادة الحاكم والمتسلط إنما هو طريقُ سهلة مفتوحة تتفاعل فيها وتتشكل بين جنباتها أحلام الناس وأمنياتهم وخطاياهم. فالإنسان هو الوطن والوطنية هي إنسانية الشاعر والشعر، وعيون الناس دوماً ترنوا لقامات الشعراء العظام التي تترجم خواطرهم إلى صيحات بوجه الظلم. الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد شاعرُ أضلّ نبوته ورسالته الشعرية وأصم أذنيه عن سماع صوت الإنسان البسيط وانشعل بالإصغاء لثرثرات المتسلط التي أفقدته بصيرته وقدرته الشعرية في الحضور الى شارع الوطن الإنسان.