&
لندن:
إن أرفع لقب يمنح لسيدة بريطانية أحرزته الكاتبة البريطانية أجاثا كريستي عام ١٩٧١، واللقب هو «سيدة الإمبراطورية البريطانية» الذي تزامن حينها مع صدور روايتها الثمانين وبلوغها سن الثمانين في ذات الوقت. أما لقب «سيدة الجريمة » والذي منحه إياه القراء والنقاد، فهو لقب مجازي ارتبط وريادتها في ميدان أدب الجريمة أو ما عرف بالأدب البوليسي.
&
لم تكتب أجاثا كريستي لميدان الدراما سوى مسرحية واحدة فقط هي «مصيدة الفئران» التي ما زالت تعرض منذ عام ١٩٥٢ وحتى يومنا هذا بطاقم فني وتقني يتغير بين فترة وأخرى.
ارتبطت حكاية كتابة مسرحية «مصيدة الفئران» وبالصدفة بحدث آخر وهي تزامنها مع احتفال الملكة ماري بعيد ميلادها الثمانين (عام ١٩٥٢) وكان قد طُلب من الملكة حينها اختيار إحدى روائع شكسبير لتقديمها في حفل الافتتاح فما كان بالملكة إلا أن تطلب عملاً لأجاثا كريستي بدلاً من شكسبير. وهكذا وخلال فترة وجيزة كتبت أجاثا عملاً إذاعياً لمدة عشرين دقيقة حمل عنوان (الفئران العميان الثلاث) تم بثه ليلة الاحتفال من إذاعة BBC، ثم عادت الكاتبة ثانية بعد أشهر لتكتب العمل ثانية خصيصاً إلى المسرح وبعنوان جديد هو «مصيدة الفئران»، وقد عرضت المسرحية في ذات العام على خشبة مسرح Ambassadors وتواصل العرض حتى عام ١٩٧٤ حيث قام منتجه السير بيتر ساوندرز بنقله إلى قاعة مسرح St.Martins المجاورة لمسرح Ambassadors في ويست ايند والذي لا يزال يعرض هناك حتى يومنا هذا. وبهذا تكون مسرحية «مصيدة الفئران» قد حققت رقماً قياسياً مهولاً في تأريخ المسرح البريطاني حيث بلغت سنوات عرضها ثلاثة وستون عاماً دون توّقف، فضلاً عن العدد الكبير لأجيال من الممثلين والممثلات ممن شاركوا في إنجاز تلك العروض على مدى كل تلك السنين.
حين سُئلت أجاثا كريستي في أواسط السبعينات عن سر تلك العروض بهذه المديات الطويلة أجابت بتواضع:«أعتقد أنه الحظ... وشيء آخر في المسرحية!».& والواقع، أن السر في ذلك ربما يكمن أولاً وأخيراً ليس في جودة المسرحية ذاتها، إنما في اسم أجاثا كريستي. أما بشأن عنوان المسرحية فيذكر حفيدها ماثيو بريشارد في مذكراته أن جدته أخبرته حينها أنها اقتبسته من اسم التمثيلية التي وضعها هاملت التي كان يبغي من خلالها الكشف عن قاتل أبيه!.
& ***
تجري أحداث المسرحية في فندق ريفي يديره السيد جيلز رالستون (الممثل مارك هومر) وزوجته مولي رالستون (الممثلة إسثر ماكولي) التي ورثته من عمتها بعد إن كان قصراً قديماً وحّول إلى فندق أطلقا عليه اسم «فندق مونكسويل مانور» والذي يستقبل زبائنه للمرة الأولى. أما نزلاؤه فهم مجموعة من الأثرياء اضطروا للإقامة فيه لأسباب غامضة ربما أوضحها هو حدوث عاصفة ثلجية مفاجئة. النزيل الأول، مهندس معماري اسمه كريستوفر رين (الممثل إدوارد إيلگلود)، شاب غريب الأطوار توحي هيئته وأحاديثه الصبيانية أنه مصاب بمرض العصاب.
الثاني، السيدة بويل (الممثلة آني كافاني )، امرأة تجاوزت متوسط العمر تبدو عصبية المزاج متزمة وكثيرة الانتقاد والتذمر، وسبق لها أن شغلت منصب قاض كما سنعرف فيما بعد.
الآنسة كيسويل (الممثل هيستر آردن) هي النزيلة الثالثة، شابة ذي طبع ذكوري قادمة من خارج البلاد ترفض الكشف عن هويتها.
النزيل الرابع هو الميجر ميتكالف (الممثل وليم إلكلي)، رجل في الخمسينات من عمره، نقيب متقاعد، هيئته وسلوكه يوحيان بأنه قادم لإنجاز مهمة غامضة.
أما النزيل الخامس فهو تاجر أجنبي اسمه بارافيسيني (الممثل جوناثان سيديك)، اضطر للمجيء إلى الفندق بسبب عطل أصاب سيارته نتيجة لتلك العاصفة الثلجية.
تفتح الستارة لتنقلنا إلى قلب الحدث حيث صالة استقبال فندق «مونكسويل مانور» وصوت المذياع يعلن عن وقوع جريمة قتل في منطقة بادنغتون في وسط لندن، والضحية امرأة تدعى ماورين لاين. تدخل صاحبة الفندق مولي رالستون لتخبر الجميع بأنها تلقت مكالمة هاتفية بقدوم ضابط شرطة إلى الفندق. يظهر ضابط الشرطة
السيرجنت تروتر (الممثل لوك جينكنز) يحمل زحافات معلناً للجميع أنه قدم إلى الفندق ليحقق في الجريمة التي وقعت في منطقة بادنغتون. يدّون أسماء النزلاء أولاً ثم يصعقهم بخبر أن القاتل موجود في هذا الفندق أو هو في طريقه اليه، وإذا لم يتم الكشف عنه حالاً فسيقوم بارتكاب جريمة ثانية وأن أحدهم سيكون الضحية القادمة.
يحاول الميجر متكالف استخدام جهاز تلفون الفندق إلا إنه يفاجىء بانقطاع خط الاتصال. يعلل السيرجنت تروتر لصاحبة الفندق سبب قدومه أن المحققين عثروا على اسم فندق «مونكسويل مانور» وعنوانه مدّون في دفتر ملاحظات القتيلة، مضيفاً أن اسم القتيلة الحقيقي هو ليس مورين لاين، إنما السيدة ستاننغ التي كانت تسكن هي وزوجها البستاني في مزرعة ونگريدج المجاورة لهذا الفندق، كما أنهم وجدوا على جثة القتيلة ورقة كتب عليها:«هذا هو الفأر الأول»، وتحت الكلمات صورة لثلاثة فئران صغيرة ونوتة موسيقية لأغنية (الفئران العميان الثلاث)
ويشرع بإنشاد الأغنية التي تشاركه الغناء فيها السيدة مولي صاحبة الفندق.
يتوجه السيرجنت بحديثه من بعد إلى النزلاء ويسرد لهم قصة موت أحد الأطفال في مزرعة السيدة ستاننغ قبل أحد عشر عاماً. فتّعلق
الآنسة كيسويل قائلة:«آه، الأطفال الثلاثة»، يتبعها الميجر ميتكالف قائلاً أنه قرأ الخبر يومها في الصحيفة.
يستأنف السيرجنت تروتر وقائع الحادثة قائلاً:« أرسلت المحكمة قبل أحد عشر عاماً ثلاثة أطفال، ولدين وفتاة، إلى السيد والسيدة ستاننغ ليتوليا رعايتهم. توفي الطفل الأصغر بسبب قساوة معاملة السيدة ستاننغ له، فحكم على الزوجين حينها بالسجن. مات السيد ستاننغ في السجن وأطلق سراح زوجته بعد إكمال مدة سجنها، وتلك السيدة هي نفس المرأة التي وجدوها مقتولة أمس في منطقة بادنغتون»!.
«وما مصير الطفلين الآخرين؟» يسأل صاحب الفندق السيد جيلز، يجيبه السيرجنت:«الفتاة تم تبنّيها ولا أحد يعرف عنها شيئاً. أما شقيقها فحين كبر سيق إلى الخدمة العسكرية لكنه هرب ولا أحد يعرف عنه شيئاً هو الآخر». مضيفاً:«لكن تقارير اللجنة الطبية تشير إلى أنه كان مصاباً بالشيزوفرينيا وهوس القتل».
تقاطعه السيدة بويل متسائلة:« وهل أن القاتل القادم إلى الفندق هو نفسه الذي قتل السيدة ستاننغ؟ يجيبها السيرجنت بعُجالة: «نعم، نعم، وهو موجود الآن بينكم».
يخرج الميجر ميتكالف عن صمته ليعلن فجأة أنه على معرفة بالسيدة بويل ويواجهها أمام الجميع بأنها تتحمل مسؤولية وفاة ذلك الطفل لأنها كانت أحد القضاة الذين أرسلوا الأطفال الثلاث إلى تلك المزرعة. تحاول السيدة بويل جاهدة تسويغ فعلتها بأن إرسالهم إلى تلك المزرعة تم بناء على طلب السيد والسيدة ستاننغ. يطفأ ضوء المسرح وبعد فترة صمت تنطلق صرخة مدوية. يُفتح الضوء ثانية لنرى السيدة بويل وهي جثة هامدة.
يبتدأ الفصل الثاني بالسيرجنت تروتر وهو يحقق هذه المرة في موت السيدة بويل قائلاً:«أن قاتل السيدة بويل هو الشخص ذاته الذي قتل السيدة ستاننغ. وأنه لن يتردد في اصطياد الفأر الثالث. فلا بّد من الكشف عن هويته حالاً».
هنا تأخذ الأحاديث الملتوية والمخاوف والشكوك المتبادلة والدعابات السوداء طريقها إلى قلب الثيمة لتشق طرقاً ومنعطفات جديدة لمسارات الحدث. فالجميع الآن محاصر في هذا الفندق في نطاق هذه المصيدة وليس لديهم أي وسيلة للاتصال بالعالم الخارجي والقاتل بينهم وكلهم مثار شك.
تدور الشبهات في البدء حول المهندس كريستوفر لأنه كثيراً ما كان يشاكس السيدة بويل، بل حتى إنه كان يحاول أحياناً خنقها من باب المداعبة. ثم تنتقل العدوى من بعد إلى الجميع دون استثناء. عندئذ يواصل السيرجنت تحقيقاته المعذبة حيناً والمثيرة للضحك الخافت حيناً آخر ساخرة مستوضحاً منهم واحداً واحداً الكيفية التي سمعوا بها صرخة القتيلة الثانية السيدة بويل. منهياً حديثه معهم أن يذهب كل واحد منهم إلى غرفته ويعيد له فيما بعد ما سمع أو رأى؟.
حين يغادر الجميع، يُمسك السيرجنت بذراع السيدة مولي صاحبة الفندق ويطلب منها أن تنشد له أغنية «الفئران العميان الثلاث» منادياً إياها هذه المرة باسمها الحقيقي وهو «الآنسة وارنغ»! مذّكراً إياها بأن الطفل المتوفى كان أحد تلاميذها في المدرسة ويدعى «جيمي». ثم يذّكرها أيضاً بأن جيمي كان قد كتب اليها رسالة يشكو فيها من معاملة السيدة ستاننغ له، لكنها أهملت الرسالة وتوفي الطفل بعد أيام، محذراً إياها بأنها ربما ستكون الضحية الثالثة!.
تحاول السيدة مولي تبرير فعلتها تلك بأنها كانت مريضة وقد عثرت على الرسالة في وقت متأخر بعد أن توفي جيمي. حينها يخرج مسدسه ويشهره نحوها ثم يكشف لها عن هويته الحقيقية بأنه الأخ الأكبر لجيمي وإن اسمه الحقيقي هو «جيورجي»، وأنه أقسم منذ صغره أن ينتقم لموت أخيه، مضيفاً بإنه هو من قتل السيدة ستاننغ في بادنغتون، وكذلك السيدة بويل، ويكرر جملته السابقة ثانية قائلاً:«ولم يبق سوى الفأر الثالث».
كانت الآنسة كيسويل في غضون تلك المحادثة تصغي بانتباه لحديث السرجينت تروتر وهي تتطلع خلسة نحو ملامحه وتفكر باسمه، مستعيدة زمن الطفولة ووقائع الحادثة. حين يضع جيورجي اصبعه على الزناد تصرخ عالياً باسمه قائلة:«جيورجي.. جيورجي.. أنا كاتيا.. شقيقتك كاتيا». فيصعق جيورجي من وقع المفاجئة فيسقط المسدس من يده وينهار على الأرض مغمياً عليه.
مفاجأة العرض الأخيرة هي إعلان الميجر ميتكالف أمام الجميع بأنه هو المحقق السري المكلف بالتحقيق بجريمة قتل السيدة ستاننغ، وإنه كان يتابع جيورجي طوال الوقت لحين دخوله الفندق ولم يقبض عليه بسبب قلة الأدلة الكافية لإدانته. ويتم أخيراً القبض على القاتل الذي أصطيد بالفخ الذي وضعه للآخرين. تسدل الستارة ثم ترفع ثانية ويتقدم الممثل لوك جينكنز الذي لعب دور السيرجنت تروتر إلى مقدمة المسرح ملتمساً منا التكتم وعدم كشف هوية القاتل بعد الخروج من قاعة المسرح ليتسنى للآخرين مشاهدة المسرحية. قد يكون طلباً كهذا مسّوغ نوعاً ما، ربما لعدم حرمان الآخرين من متعة المشاهدة، أو قد يكون ذلك هو بمثابة طقس مقدس رافق المسرحية منذ عرضها الأول عام ١٩٥٢ حتى يومنا هذا، إلا إن المهم في تقديري هو ليس الكشف عن هوية القاتل، إنما الطريقة التي يتم فيها ذلك الكشف، لأن هدف هذه المسرحية هو ليس حل اللغز الشائك الذي شيدته الكاتبة بدقة وحذر شديدين، إنما السبيل الملتوي والغامض لسريان الحبكة، التي تفترض ضمناً، دعوة المتفرج إلى شحن فكره وعاطفته معاً، لتأمل منعطفاتها ومصائدها وتوقعاتها واستكشافاتها السيكولوجية، وفي الآخر إشراكنا في طرح الحلول المحتملة لتلك العقدة.
إن ثيمات أجاثا كريستي الميلودرامية كانت ولا زالت مصدراً خصباً للتحليل النفسي للطبيعة البشرية. بحبكاتها المحكمة وقدرتها الفذة على تضليلنا والتلاعب بعواطفنا، كانت كريستي تسعى لدعوتنا إلى التفكير والكشف عن الدوافع التي تقود النفس البشرية إلى ارتكاب الأفعال الشريرة لتعريتها وإظهارها إلى السطح. من هنا يمكن القول أن نتاجات هذه الكاتبة في الواقع هي بمثابة دروس أخلاقية أكثر منها استقصاءات قضائية بحتة أو بحوث سيكولوجية ذات طابع ميلودرامي.
لقد أصبح مسرح سانت مارتن حيث تعرض المسرحية أشبه بمتحف مدام توسّو أو ساحة تغيير الحرس الملكي في مدخل سانت جيمس وقصر باكنگهام أو برج لندن، الأماكن التي يرتادها كل سائح إقادم إلى لندن. ومع ذلك يظل جمهور مسرحية «مصيدة الفئران» هو ليس جمهو ر السياح فقط، إنما جمهور معظمه قادم من أجزاء أخرى من المملكة المتحدة، حيث مشاهدة العرض صار أشبه بطقس فني مقدس يمارس يومياً من قبل الجمهور وطاقم الممثلين على حد سواء.
&
التعليقات