&
بمشهد الوداع تستهل ديمة محمود رؤيتها الشعرية في :" ضفائر روح" وفعل الوداع هو فعل حضور وغياب معا، وثمة فارق دلالي بين أن تحضر لتلتقي مع، أو تحضر لتودع. في الثانية سوف يكون الحضور مؤلما وأكثر قسوة. الشاعرة تودع مكانا وهي ترتقيه بمختلف دلالاته لتنتج سياق هذا الوداع، فتذهب واقعيا وأسطوريا وتنتج تخييليا مرتكزة على استثمار حالات الوعي ، ووعي الذات ووعي الكتابة.&
يتشكل ديوان :" ضفائر روح" ( دار الأدهم ، القاهرة، الطبعة الأولى 2015) من 26 نصا شعريا تستند فيها الشاعرة وتركز على صياغة وعي متشظ مفارق يأنس إلى الباطني على الأغلب، ولكنه يعيد من فرضية شعرية أخرى الاحتفاء بالوجود والسعي إلى تغييره تغييرا أمثل عبر الكلمات.&
إن معنى اكتشاف الذات شعريا، والبحث عن كينونتها يقف بنا دائما عند حواف الأسئلة. إن الأفق العباري الذي تشكله ديمة محمود يجوس في الخفي، في الباطني في الكامن والجوهري، وهو ما يحدو بها أن تترك دائما أثرا دلاليا في كل نص تقريبا يقلنا إلى أسئلة وهواجس ومدارات.&
لا شيء يقينيا تماما في أفق الشعر . إن اليقين ضد السؤال والشعر سؤال دائم دائب، واستقصاء للحظة وكشف عن أبدية المجهول وهكذا يتم تخليق الصورة والوصول إلى عالم الدلالة بمعطياته الباذخة.&
في النص الأول:" ستزهر في نيلك النبيات" تصوغ الشاعرة مشهد الوداع:
وأنا أودعك أيتها الأميرة العتيقة
أشعر بارتباك يغلف دماغي
يعتريني بطء لذيذ
وأنا أعقد ثنايا سلم الماء
وأدق زوارق النور
تلك تمائمي التي أرقيك
جل الماء والنور
وديعتي إليك
ريثما تدركين العودة والنجاة
وستدركين . / ص 5&
&
المكان النيلي هو الفضاء الذي تغادره الشاعرة. المغادرة الحسية ليست وداعا أبديا، لكنه وداع حسي فيما تتبقى الأمكنة بتفاصيلها وذكراها عالقة بالروح حتى تزهر النبيات، نبيات الآتي، والعودة، والنجاة. الخطاب يتوجه من ذات أنثوية لذات أخرى أنثوية مجازية:" وأنا أودعك أيتها الأميرة العتيقة" الذات الأخرى الأنثوية هي مكان، حاضنة النيل. هنا تتجلى حافة من أسطرة، وحافة من تاريخ. تجريان مع مياه النيل وزوارق الضوء كأنها تستعيد حكايات عروس النيل التي يضحى بها وفاء للنيل. فتعود روحها ثانية مزهرة وخصبة. واقتطاف هذه الصورة يعطي مسحة دلالية بالتعبير عن الأفق المصري بالإشارة إلى مكونه الجوهري: النيل.&
وهنا تخلص الذات لرؤيتها لتتفرد في سؤال الكتابة حيث تعطي الرؤية بعدا صافيا : " أجتث نفسي من كل شيء، من الثرثرة والصخب، ومن الدوائر الكهربائية، ومن هاتفي النقال"&
&
البصر الداخلي:
&
وفي يقين الكتابة عند ديمة محمود أنها تسمو إلى الأعلى، أنها تظل تتأرجح ما بين الواقع وبين حلمه وأخيلته التي تصنعها ذات متشوفة ، تحن إلى الأبعد إلى مفارقة النمطي من أجل تغيير اللحظة، ومن أجل كسر الاعتياد. الشاعرة تبحث في قلق الإبداع وتوتره عن مثال ما، هو مثال الشعريّ بالضرورة.&
في نص بعنوان:" ينوع قصيدة" تكتب الشاعرة ديمة محمود عبر التبصر إلى الداخل، حيث الذات تبصر نفسها، فترى أبعد. فهي في هذا التبصر تفتح شرفات للوعي الكامل ( الوعي / اللاو عي) ومن خلال هذه الشرفات تطل لترى العالم أكثر دهشة، والواقع أكثر غيابا في غيابه.&
تتجلى هذه الإطلالات شعرا تتمحور حوله الدلالات الكلية للنصوص، ما بين الإعلاء من شأن الأنا وتشوفاتها، ومفارقة الواقع، والبحث عن عالم السمو والحلم والخيال والمطلق.&
تقول في ينوع قصيدة:&
أواصل التحليق في الأرجوحة
مغمضة العينين
مبصرة لداخلي
تنجلي أمامي كل الزوايا والبؤر
والمساقط المائلة والعمودية
الأسطوانية والمخروطية
لا تشرد من قبضة ضفافي
بنت شفة من الخريطة
ها هي ذاتي تخلع رداءها
تنبلج باتقاد
ألمعية التشكيل والخامة . ص 41&
ففي هذا اليقين ما يعطي بعدا صافيا، وهو بعد مختلف لأنه ينظر إلى الداخل، فالمعرفة بالخارج قد تشكلها وسائل معهودة وآليات تستطيع إنجاز رؤيتها سواء للواقع أم الوجود، لكن الرؤية للداخل تتمدد لتصبح رؤيا، وتتخذ من الوعي آلية لها. ومن هنا فإن هذه الرؤية تتشح بقدر من العمق الشفيف، وقدر من الدهشة وسوف تتشكل من جُمّاع الذكرى والحلم والتخيل الحالم ومن لقاء المتطابقات والمتضادات معا.&
وقد تفارق الرؤية مهادها الداخلي لترى أبعد وأعلى كروحية صوفية تطلق عنان الرؤى صوب ميتافيزيقا الوجود، وتحلق كونيا لكنها تظل مجذوبة ما بين الذرى والسفوح:
أمتطي أرجوحتي العلوية
أطلق يدي بلا هوادة
تعبث الأرجوحة بي
أدفعها وتدفعني إلى الذروة
أنتشي بارتشاف السفح. & / ص 40&
كما تتشح هذه الرؤية بالوجد المقدس، وبالبعد الصوفي الذي يعيد خلق الأشياء من جديد ويعيد تأملها وقراءتها، في هاجسها الأول: الروحي، والشاعرة غذ تفعل ذلك إنما تتسق مع رؤيتها الواعية التي تتمحور حول الذات، وبصيرتها الداخلية الكامنة:&
&
أي خالقة أكون
حين أوقد جذوة ذاتي
أتون الروح
وأحيل نطاف الكلمات
إلى أوتار مريمية
تسربلها رعشة بها من ناموسي
من شجرتي المباركة
من زيتونتي
تعرج في زجاج النائين عن التيه
مذيبة كل الحجب والظلال / ص 46&
- في معراج الابتهال
أخشع فيها
وأنعتق من الموجودات
من كلي
مني أنا & . ص/ 26&
&
وليس بعيدا عن عالم الوعي والغياب ، التعبير عن الموت والفقد والرحيل في هذا المشهد الجنائزي مشهد غياب الشهداء، في نص:" شهقة بامتدادي بين قلبين" :
النعش المنصوب بين الزيتون والزعتر
يتخللني كبخور الكهوف الغابرة
منذ زنوبيا والمجدلية
يشقني أجزاء
يقصي كل السائرين في الموكب الجنائزي
ويبقيني وحيدة&
أحمله منفردة بكفي تارة
وعلى ظهري تارة
ويعود يتسلسل بي تارة
دون أن أهوى
ودون أن يسقط . / ص 101&
&
أيقونات الوعي:
تتكرر دالة الوعي في نصوص الديوان بشكل واضح، لا بوصفها مجرد دالة تتأدى في سياق القصيدة، ولكن بوصفها عملا سيكولوجيا وجماليا، وبوصفها حالة أداء وبنية مهيمنة في النصوص.&
إن الشاعرة مفتونة بهذا الوعي / اللا وعي في نصوصها، وهي تجسده في مشاهد عدة، ذلك لأن الوعي قرين الذات، وقرين الرؤية والذهنية العارفة بالشعر هي ذهنية وعي بالضرورة، وهذا الوعي يرتبط بالغياب والتأمل، ويرتبط بعالم الأحلام والكوابيس وعالم المطلق، وهو يبدو أكثر نصاعة وإشراقا حين تصل الذات في نصوصها إلى طاقات دلالية غير مألوفة. الوعي يحدق في الأشياء ويعيد ترتبيها من جديد ربما بترتيب سوريالي أو بترتيب روحاني يصل لدرجة التصوف، كما نعثر على هذا في نصوص الديوان.&
إنه إحساس متسام بالأشياء، وبالعالم.&
وتهدي الشاعرة أحد نصوصها لروح" سيجموند فرويد" مؤسس علم النفس الحديث حيث تقول في هامش نصها:" في ردهات حلم" و" أول من حلل ذاته عبر أحلامه، وسار في الطريق الملكي لمعرفة لا وعي الإنسان، فترجم أحلامه عبر التداعي الحر من لغتها الظاهرة إلى لغة الدلالة عن حقيقة ذاته وعن مجاهيلها اللا متنهية" .&
وهنا يصبح الوعي عنصرا مساندا لتجلي القصيدة، حيث يتحرك بحرية وطلاقة لابتكار أفق القصيدة من دون محددات مسبقة:
يهرول إلى يميني
واثقا من خطوته
إنه " لا وعيي"
فرح بحل القيد
يعلم أنني لن ألجمه الآن
أسدي له الفرشاة والألوان
يلطخ الفرشاة بجسده جزلا
في رقعة مختلفة كل مرة
ويرسم على الغيمة وحولها بصخب أخاذ
وزهو عشقيّ
كأنه الياقوت في كف الزبرجد / ص 42&
&
إن الشاعرة تترك لوعيها مهمة التشكيل الشعري، الذي يتحول إلى حالة فنية عبر الفرشاة والألوان، ويصبح الرسم بالكلمات بالتعبير النزاري هو الحافة التي تتلاقى عندها الأبجدية:
تعبرني الدهشة
الألوان والرسم بالكلمات
...
أمارس التباديل والتوافيق
على متن الغيمة المنقوشة
الشاهقة باللون والصورة
تنبجس موسيقى مذهلة
صوت القداس يشق رأسي
تتولد مقطوعة جديدة. / ص 43&
وتتكرر دلالات الوعي التي تشتغل فيها الشاعرة على الجانب السيكولوجي من القصيدة، فيذكر الوعي/ اللاوعي في نماذج متعددة " سرى النسغ الذباح في شريان اللا وعي/ ص60/ سأدمن ذاتي التي أريد لئلا يغادرني الإنسان/ ص 80/ أغلقت عيني ورحت أتعاطى الحلم/ ص 58/ أرخي ربطة العنق المعقودة في وعيي وأخلع قيودي، أحلق في ذرى فارغة من رائحة وعيي أو صداه مثقلة بكل المكنون / ص49 / أمتشق قامة الغياب وأمتطي صهوت/ ص 47/&
وتنبث هذه العبارات الشعرية في نصوص كثيرة بالديوان، صانعة دائرة دلالية مهيمنة من الوعي الذي نستشف منه رؤية الشاعرة لذاتها ورؤيتها للعالم التي تقودها إلى إعادة تشكيل العالم وتخصيبه من جديد حيث تتجلى فكرة إعادة العالم جنينيا من رحم السؤال والتأمل، ومن مكابدة اللحظة وإعادة بث إشراقاتها من جديد، عبر ما يمكن تسميته ب:" الخلق الجمالي" للأشياء، كما نرى في نص بعنوان:" صيرورة جنين" :&
أتكور على ذاتي
علني أقتات عشب البدايات
جنينا أصير
وأنتشي بتمائم الحبل السري
ويجذبني مسك المشيمة
أسترجع تلك الأبدية
التي تعانقت زمنا مع أمي
وتوحدي معها
في كل المدارات والأفلاك
طاهرة أغدو
من كل ترسبات البشر
ومجردة من أقنعتهم ودُماهم
خالية من الهلام والصباغ
..
أصير
بلا أساطير
وبلا تنبؤات . ص.ص 35-36&
العودة الجنينية زمنيا تعيد معها أيضا ملاحظة الأشياء في جنينيتها وبراءتها الأولى حيث تلتقط العالم من جديد بلا أساطير وبلا تنبؤات. هي عودة للبحث عن براءة الأشياء وفطرتها، ومن ثم التبصر في حالات التكوين الأولى:&
&
أيا تراب الذاكرة المقدس
كم تستحق أن أطيل عمرك
لأخبئك في ثنايا كل خلية عصبية
حيث أنت سري القادم من الكهوف
الممتلك لي دون سواي
أعشقك حد الغيبوبة وأذوب&
أنت من صنعتني وتكوّنني
وتكونني . / ص 54&
تنهمك ديمة محمود في تأثيث عالمها الجمالي عبر الوعي وعبر الغياب ومكابدة البعد الروحي الصوفي أحيانا، والتأمل في لفتات الأشياء في حالتها الأولى، كأنها تعيد أيضا عبرها براءة الذات، فيما لا تتخلى عن التعبير عن مساحات وسياقات وطنية، مركزة على الجماليات المكانية وعلى استدعاء تفاصيل مكانية ببنياتها وتضاريسها وزهورها وحقولها الدلالية المكونة لها، تاريخا أم واقعا، مستثمرة أساليب التجاور الضدي والسياقات المتقابلة أحيانا في جمل شعرية قصيرة، موظفة عناصر تشكيلية وتاريخية ودينية وأسطورية في جسد النصوص لتقدم لنا بنية شعرية متماثلة تبحث عن جديدها في أفق الأشياء وفضاء الذات الشاعرة.&
&