تعرفت على المفكر الراحل العفيف الأخضر(1934-2013) في تونس العاصمة، في صيف عام 1981. وكان آنذاك قد عاد إلى البلاد بعد غياب استمرّ أزيد من عشرين عاما. وفي ما بعد سأعلم أنّ عودته تلك كانت بنصيحة من طبيب فرنسي كان قد ذهب إليه ليشتكي من أرق ظلّ يعذبه أشهرا طويلة. ويبدو أن العودة إلى الوطن الذي فرّ منه في السنوات الأولى من الإستقلال بسبب معارضته لنظام بورقيبة، قد أعاد إليه توازنه النفسيّ فلم يعد يعاني من الأرق مطلقا. وخلال لقائي الأول به برفقة الشاعر خالد النجار، لم يتكلم كثيرا. بل بدا مرتابا منّا، ومن مشاعر الإعجاب والتقدير التي أ أغدقناها عليه دفعة واحدة. لذا فضّل الإستماع إلينا، تاركا لخالد النجار الحرية المطلقة في أن يقول ما يشاء وما يريد.
لكن في لقائي الثاني به في نفس الصيف، خفّ ارتيابه منيّ فحدثني عن كتب كثيرة، ناصحا إيّاي بقراءتها، وراجيا منّي عدم التعجل للتعريف بنفسي ككاتب، وكصحافي، لأن في “العجلة الندامة”، وفي البحث السريع عن الشهرة ما يفسد كلّ طموح نبيل. وكان عليّ أن أنتظر سنوات طويلة لكي تتوطد علاقتي بالعفيف الأخضر،
الشبيه ب"ذئب البراري" في رواية هرمان هسه الشهيرة. حدث ذلك في نهاية الثمانينات بعد أن قرأ قصتي:”السلحفاة" التي أروي فيها فصلا من طفولتي الشقيّة. وفي رسالة بتاريخ 8-5-1994، كتب لي يقول:”كلمات السلحفاة ما زالت محفورة في ذاكرتي. إنّ سلحفاتك هي سلحفاتي. إنها قطعة نابضة من سيرتي الذاتية".
وعندما أقمت في ميونيخ بجنوب ألمانيا، كنت أحرص على أن ألتقي بالعفيف الخضر في كلّ زيارة لي إلى باريس. وكان يحلو لي أن أرافقه في جولاته الطويلة، مستمعا إليه وهو يتحدث بصوته الخافت المرتجف عن كتب، وعن أوضاع، وعن قضايا سياسية وثقافية وفلسفية. وبعد كلّ لقاء لي معه، كنت أعود إلى ميونيخ مسلّحا بأفكار وبكتب جديدة في جميع مجالات المعرفة.
ولعل العفيف الأخضر أصبح يثق بي كثيرا، لذا بعث لي الرسالة الآنفة الذكر. وهي في الحقيقة رسالة-وثيقة لأنه عرض فيها في 26 صفحة من الحجم المتوسط، مجمل أفكاره وأطروحاته في العديد من القضايا المختلفة المتصلة بالدين،وبالقضية اللغوية في المغرب العربي، وبالترجمة، وبالحداثة الغربية وأزماتها وأمراضها، وبتلوث البيئة بسبب التقدم الصناعي، وبمواضيح أخرى ذات أهمية بالغة، منتقدا بطريقته الساخرة مواقف وسلوكيات البعض من المثقفين والكتاب من أمثال رشيد بوجدرة، والطاهر وطار، وعبد الوهاب المؤدب، وآخرين
في بداية هذه الرسالة، كتب لي يقول:” عدتّ الآن من مسيرتي اليوميّة لأكثر من ساعة، والتي قلّما أتخلّف عنها. لأن الرياضة ليست صلاة جمعة أو أعياد، بل لا بدّ أن تكون منتظمة أو لا تكون. إهمال الرياضة والغذاء الصحي ولذائذ الحياة هو عقاب ذاتي عصابي لاشعوري ينتحر به الناس في العالم، وخاصة في العالم الإسلامي المكبل بالتحاريم العصابيّة من رأسه إلى أخمص قدميه، لأن الإسلام لم يرشّد بالحداثة الرأسماليّة، شأن اليهوديّة والمسيحيّة، ثم زاده انحطاط هذه الحداثة منذ الحرب العالمية الأولى ، إرباكا وضعفا، مما حوّله في وعي معتنقيه، وخاصة الأصوليين منهم، إلى مجرّد هذيان ميّت ومميت".
وبعد أن أبدى بعض الملاحظات حول رسالة كنت قد بعث بها إليه، طالبا مني أن أكف عن مخاطبته ب"الأستاذ" لأن هذه طريقة" سمجة" بحسب تعبيره، وتعود في رأيه إلى "ما قبل الحداثة" حيث تكثر في الرسائل التعابير البلاغية المضحكة، الخالية من الحب الإنساني في معناه العميق، كتب عن بعض روايات نجيب محفوظ، وعن روايات أخرى قائلا:”همس الجنون أضجرني، بينما اعتكفت على "الثلاثيّة" فأتيت عليها في أيام معدودات. كما اعتكفت على "الساعة الخامسة والعشرون" فالتهمتها في أقلّ من 60 ساعة".
ولأني كنت قد حدثته في رسالتي عن تراجم كنت بصدد إنجازها، فقد كتب لي يقول:” قلت لي إنك تترجم. فماذا تترجم؟ أخبار الترجمة سرّني إذا كانت لدوافع غير تجاريّة. وقلّما تكون في عصر تسلّلت، بل تغلغلت فيه السلعيّة إلى جميع الرؤوس، ليس كالترجمة الخاصة لوجه الثقافة علاج لبؤس الثقافة العربية المعاصر. فما زالت روائع الأنوار لم ترجم إليها كاملة، وبأمانة. وما زالت كتب القرن التاسع عشر، المُؤسّسة للحداثة، لم تترجم إليها إلاّ مبتورة ومشوّهة عن جهل وسوء نيّة، وخاصة لأسباب دينيّة، لأن الإسلام تحوّل منذ انحطاطه إلى عصاب مشلّ لمدارك المسلمين، وخاصة لشهواتهم"
ومستعرضا بعض الأخطاء الفادحة الواردة في ترجمات عربية لأعمال خالدة، كتب العفيف الخضر يقول:” الفوضى الأولى في "تحوّلات "أوفيد تحوّلت ببركات مترجمه ، ثروت عكاشة، أحدأشهر وزراء الثقافة في مصر الناصريّة، إلى"نظام الله" البديع! التراجيديّات اليونانيّة طهّرت من كلّ "ما يتنافى من الأخلاق الحميدة". “جمهوريّة" أفلاطون، و"مائدته" لقيا نفس المصير. كلّ ما يمتّ للإسلام بصلة، روقب في "الكوميديا الإلهية" . والكثير من فولتير، وماركس، وفرويد، ترجم على سراط الرقابة الذاتيّة المستقيم...ماذا أقول ، بل حتى القليل من المخطوطات العربية التي حقّقت، ونشرت لم تصل إلى أيدي قرائها سالمة من مقصّ الرقابة الذّاتيّة فضلا عن مقصّ الرقيب الحكومي... فهذا المقصّ الحقير أتى على كلّ ما يتعلّق بالجنس في "مقدّمة" إبن خلدون. قلت القليل من المخطوطات لأنه ما زالت، حسب إحصائيّات الجامعة العربيّة، 75 ألف مخطوطة تنتظر التحقيق والنشر! بينما لم يبق سطر واحد مخطوط معروف من آثار الإغريق، والرومان، والروس، فضلا عن البلدان الأوروبيّة الأخرى...بل أن الباحثين الأوروبيين نشروا كلّ ما عثروا عليه من "المخطوطات" البابليّة والمصريّة القديمة بعد فكّ رموزها وترجمتها. أما عن الأخطاء الفادحة التي مسخت القليل القليل مما ترجم، فحدثْ ولا حرج! ولا عجب، فلا يوجد حتى الآن على حدّ علمي قاموس انجليزي-عرب، وفرنسي-عربي، وإيطالي-عربي، وإسباني-عربي، وألماني عربي، وياباني -عربي، جدير بهذا الإسم! و"المنهل" الذي لا يروي غليلا، والذي ما انفكّ ينهل منه المترجمون، غاصّ بآلاف الأخطاء المميتة. والغريب،غير المُستغرَب، أنّ المعاجم الفرنسيّة -الرعبيّة التي تنافست على الصدور بعده لأسباب تجاريّة،تبنّت أخطاءه المضحكة بعينين مغمضتين، وقال هل من مزيد! أمّا القوميس العربية، فبعد سيف إبن منظور، علقت مناجل عشرات الحشرات من المنتفعين بالتأليف فيها، والمتطفلين عليه. ذات مرة سألني مناف، إبن أخي، عن كلمة "فصام" التي اعترضته في مقال في جريدة الصباح التونسية، فقلت له:فتّش عنها في قاموسك! لكن لدهشتي لم يعثر لها على أثر. لكنه صادف بدلا عنها"الفصماء"(العنز المسكورة القرن).
ويواصل العفيف الأخضر الحديث في نفس الموضوع قائلا:”تحديث العربيّة رَهْن بترجمة كاملة وأمينة لقواميس اللغات الكبرى الحيّة المعاصرة لها. لم يُتَرْجم من مفردات"لاروس" الصغير في القواميس الهزيلة غير 20 بالمائة، ورهن كذلك بتأليف قواميس عربية-عربية بمستوى مثيلاتها في اللغات الحديثة، ولاشيء بعد ذلك في المستقبل المنظور.غياب المعاجم الكاملة والدقيقة الأجنبيّة-العربية، والعربية المعاصرة، جعل لساننا تائها في برج بابل حقيقي. المصطلح الأوروبي يترجم ب 4 أو أكثر مصطلحات عربية،غالبا تقريبية أو خاطئة! والسبب ؟ ثمّة أكثر من سبب في طليعتها تسليع الثقافة، أي تفكّك المعرفة إلى سلعة تحكمها قوانين السوق. الربح أوّلا، والربح أخيرا، بدلا من قوانين الإبداع ، الحقيقة أوّلا، والحقيقة أخيرا. العمل المعحميّ اليوم جماعي، وهذا النوع من العمل تحركه الهمم، وهي عندنا ميّتة، أو المؤسسات الثقافيّة، وهي عندنا الثقافة أقلذ همومها شأنا! أضفْ إلى ذلك أصوليّة وتخلف وجهل المشرفين عليها. أذكر أنني قرأت في جريدة"الشرق الأوسط" منذ عام أو اكثر حديثا مع نائب المجمع اللغوي بدمشق رصَدهُ من ألفه إلى يائه لتبرير رفض المصطلحات والكلمات الأجنبية، ووجوب ترجمتها جميعا، ودافع بحرارة حُمّيّة عن "مشطور" التي هي أفضل من "ساندويتش"، محتجّا بأن "ساندويتش" اسم علم (لبورجوازي إنجليزي حرمه تهاتفته على الإنتاج من أجل الربح من لذّة المائدة)، وفاته أنه لهذا السبب بالذات لا بدّ من تعريبها بدلا من ترجمتها كما تفعل اللغات الحيّة. وفاته خصوصا أن قدماء العرب -عرب عصور صعود الحضارة العربية-الإسلامية -فعلوا بالأمس ما تفعله اللغات الحيّة اليوم. فقد ترجموا من اليونانية، والسريانيّة، والفارسيّة ما وجدوا، أو ما أوجدوا له مقابلات دقيقة، وعرّبوا الباقي دون حرج.، لأن أمعاءهم الثقافية كانت قادرة على هضم كلّ غذاء جديد، ولأن ثقتهم بأنفسهم كانت كاملة. أمّا اليوم، فالأمعاء تقرّحت، والثقة بالنفس انهارت فالتفّ العرب على أنفسهم كعمامة تركيّة لغويا، ثقافيّا، دينا ودنيا. كان عمري 18 سنة عندما صادفت "أرتميتي" في مقدمة إبن خلدون بمكتبة التي لولاها لحرمت من المطالعة طيلة دراستي لأن أسعار الكتب لم تكن في متناول جيبي. ذهبت من الغد مزهوّا لشيخي العروسي المطوي لأخبره بأن الفرنسيين أخذوها عنّا. ابتسم وقال لي:”نحن وهم أخذناها عن الإغريق!” بالطبع انحطاط العرب والمسلمين اليوم جزءا لا يتجزّا من الإنحطاط العام العالمي في شتّى المجالات بمالافيها الثقافة التي تحوّلت إلى سلعة ومشهد".
وفي رسالتي كنت قد حدثته عن مؤتمرعقده الفرنكفونيون المغاربة برعاية فرنسية في بلدة "إيرج موت". وفيه شنّ كاتب جزائري هجوما عنيفا على اللغة العربية باعتبارها"لغة ميّتة". وفي رسالته علق العفيف الأخضر على ذلك قائلا:”لم أسمع بمؤتمر"إيرج موت".أوّلا لأنني توقفت عن شراء الجرائد -إلاّ نادرا-اقتصادا في المال وفي الوقت. وثانيا لأني لا أعير أدنى اهتمام للمؤتمرات، ولا أشترك فيها لأنها لا تعنى إلاّ بالقضايا المشهديّة لتغطي القضايا الفعلية بمؤتمر الصمت. إذا كان بعض الفرنكفونيين شتموا فيه العربية فحالهم كمن يبصق على السماء لتتساقط بصقته على جلغته. لا تنسى أنّ المثل القائل "من جهل شيئا عاداه" ينطبق عليهم. معرفتي الشخصيّة ببعض الفرنكفونيين الجزائريين مكنتني من الوقوف على عذابهم من جرّاء عجزهم عن الإندماج الوجداني بمجموعتهم اللغوية. هذا العجز يكابدونه كجرح نرجسيّ، كافتقار لصورة الذات، وكخصاء. لدهشتي ، اكتشفت منذ سنوات أن الحربي(يقصد المؤرخ الجزائري محمد حربي الذي كان من قادة جبهة التحرير قبل أن يلجأ إلى فرنسا) الذي يحمّل التعريب جريرة الإرهاب الأصولي في الجزائر، كان يقول لأصدقائه الفرنسييين، إنه يتقن العربية كأحد أبنائها. ادعاؤه معرفة العربية ليس كذبة بيضاء، بل فانتازم ، أي تحقيق هلسي Hallucinatoire(جنوني) لرغبة دفينة عجز عن تحقيقها في الواقع. احتقارهم المعلن للعربية حيلة دفاعيّة- Mécanisme de défense – لاواعية، أو نصف واعية لخفض التوتر، وتفريغ-Dérivations- للقلق في قنوات تبرير مريحة: العربية ليست حديثة، لذلك لا نريد(أي لا نستطيع) الكتابة بها. هم لبيسوا بحاجة إلى عرض أنفسهم على أطباء نفسيين!
الضادفيّون (يقصد المدافعون عن اللغة العربية) المعادون للغات الحيّة، والثقافة الغربية في طور صعودها نسخة نفسيّة طبق الأصل من إخوانهم، أعدائهم الفرنكفونيين المعادين للعربية، وثقافتها في طور صعودها(من القرن الثالث إلى القرن السابع على الأقل). وطّار(يقصد الروائي الجزائري الطاهر وطار) ألقى محاضرة في القاهرة في عام 1990، أكّد فيها دون أن يرفّ له جفن، بأنه رفض(إقرأ:لم يستطع) الكتابة بالفرنسية حبّا في لغة الضاد التي يكرهها، ويطالب منذ 62 سنة بالعودة إلى البربرية، واعتبار العربية والفرنسية لغتين أجنبيّتين "مستوردتين"، الأولى من السعودية، والثانية من فرنسا! وهو يجهل الفرنسية جهلا مطبقا:لم يتعلمها في المدرسة(من الكتاب الى جامع الزيتون بتونس)، ولم تسعفه همّته الميّتة بتعلمها عصاميّا. عندما نشرت "الوطن العربي" ما فانْتَزَمَ به في محاضرته القاهريّة، راح زملاؤه في اتحاد الكتاب ينكّتون عليه...لجأ إلى أخيه المفرنس(جنرال في الأمن العسكري) ليملي عليه بالشاوية ترجمة لشاعر فرنسي،ثم ترجمه هو من الشاويّة إلى العربية ، فجاء تحفة نادرة في الأخطاء جعلت المثقفين الجزائريين يتفكهون بها شهورا.
وفي نفس السياق، يضيف العفيف الأخضر قائلا:”حالة جلّ الفرنكفونيين والضادفويين المغاربيين النفسيّة متماثلة.كلا الفريقين مصاب باحتقار الذات اللغويّة الذي يغطيه بتعاظم سقيم ككلّ تعاظم وعُظَام. “عقدة الخواجة": الأدب الفرنسي متمكّنة من كليهما. وهي عقدة شخّصها إبن خلدون قبل علم النفس الحديث بستّة قرون:” المغلوب مولع (الولع Manie هو مرض نفسيّ أو عقليّ) بتقليد الغالب". ويسميها التحليل النفسي الحديث"التماهي مع المعتدي" L'identification avec l'agresseur . الإنتلجنسيا المغاربيّة المشلولة بعُصَاباتها تنسب للأدب الفرنسي كلّ الكمال-ككلّ أب-وتحاول ببؤس تجاوز عقدة دونيتها، عقدة خصاها بالتماهي التوهمي معه. كلّ يدّعي وصْلا بليلى، وليلى لا تقرّ لهم بذلك. ليلى هي النقّاد الفرنسيّون الذين ينظرون باعتلاء لخربشات هذه الأنتلجنسيا التعسة! حدث للإخوة الفرنكفونيين والضادويين ما يحدث للإخوة عادة: أن تأكل الغيرة أرواحهم كما أكلت الفلوس روح الفرنسيين Le fric a mangé l'âme des français كما يقول سيلين(يقصد الروائي الفرنسي الكبير لوي فارديناند سيلين) في Voyage au bout de la nuit(سفرة في آخر الليل). يقول هيغل في كتابه"دروس في الفلسفة": سقراط هو الفيلسوف الحقيقي الوحيد لأنه عاش فلسفته ولم يكتبها. أما نحن فأساتذة الفلسفة، ومؤسسو أنساق". ربما استلهم بروتون(يقصد أندريه بروتون مؤسس الحركة السوريالية) هيغل عندما قال:”يبقى القصيدة رائعة إلى أن يُعْرَفَ من قالها". بهذا المقياس، وحتى بما هو دونه بكثير، لا أشاطرك تأكيداتك ما في مقالك الذي غلبت عليه السرعة والإنفعال، التقريظيّة لفرنكفونيين لا يقلّون رداءة عن زملائهم، ولضادويين لا يساؤون ثروى نقير من أيّ نواحي أتيتهم. مثلا: بوجدرة(يقصد الروائي الجزائري رشيد بوجدرة) يعير إسمه لزوجته الفرنسيّة التي تكتب له كتبه.عندما ذاع السر، أعلن كمحاولة لتكذيبه، أنه طلّق الفرنسيّة ثلاثا ليتزوج اللغة الأم. لكنه كان يكذب مرّة أخرى لأنه عاجز عن كتابة بضع جمل مفيدة بها. لذلك لجأ إلى راهب مارونيّ لا يحضرني إسمه الآن، أستاذ بالجامعة بالجزائر، ليترجم رواياته. ذكر لي عبد الكريم بن باحمد، نائب عميد الجامعة الجزائرية، واقعة عاشها:ذات يوم قدّم بوجدرة للراهيب إيّاه قصيدة ليترجمها لهن ففعل الراهب، ذلك فوريّا، وأعادها إليه. وبعد أيام، فوجئ بالقصيدة منشورة هكذا: شعر فلان(الراهب)، وترجمة رشيد بوجدرة. فعل ذلك لقطع الطريق على ...(كلمة غير واضحة):إن الراهب هو المترجم لكتب زوجته الفرنسية!”.
هنا يستعرض العفيف الأخضر بعض ذكرياته مع كلّ من رشيد بوجدرة، والطاهر وطّار، ويكتب في رسالته قائلا:”تعرفت على بوجدرة بصدفة نحسة في 63. أمّا وطار فقد قدّمه لي الهادي العبيدي(صحافي تونسي من جماعة "تحت السور" التي اشتهرت في الثلاثينات من القرن الماضي) في 1959 عندما كان مصحّحا ب"الصباح"(جريدة تونسية). وكنت أنا من هوّاة الخربشة فيها. وفي 63 أسّسنا بمعيّة الطاهر بن عيشه(مثقف جزائري) “الجماهير" الموالية -المعارضة ، ثم "الثورة والعمل". وكلتاهما مُنعتا بفضل مكائد الأصوليين لنا. آخر عدد من "الثورة والعمل" نشر فيه وطار مقامة(أعتقد أنه النوع الأدبي الوحيد الذي يجيده ولا يتعاطاه) عنوانها:”الثالوث المخيف:طاهران وعفيف"استفزت الأصوليين وعبأتهم على بكرة أبيهم، فمنعوا الجريدة! منذ البداية -1962- عُربت المخابرات العسكرية، لكن أخاه الضابط فيها، لم يكن يعرف العربية،فكان يملي تقاريره بالشاوية والعربية العامية على وطار ، وهذا يترجمها إلى الفصحى. كنت وبن عيشه حذرين منه. أخبرنا بانقلاب بومدين (يقصد هواري بومدين الذي انقلب على بن بلة عام 1965) قبل وقوعه بشهرين. وفي عام 1991،روى لي العربي الزبيري، رئيس اتحاد الكتاب، الواقعة التالية: في أواخر الثمانينات، حضر مؤتمرا ثقافيا في دمشق حيث اجتمع به كتاب ستالينيّون(يقصد شيوعيين من أتباع ستالين) لبنانيّون وسوريّون وفلسطينيّون ، متوسلينه بصفته رئيس اتحاد الكتاب، وعضو في الجبهة(يقصد جبهة التحرير الجزائرية) لرفع " الملاحقة اليوميّة والإضطهاد البوليسي" المسلطين على وطار، فردّ عليهم مستغربا:وطار عضو في الجبهة برتبة"مراقب الحزب"،أي رئيس، فلم تلاحقه الإستخبارات؟...ولما عاد، وجّه لهم دعوة لزيارة الجزائر. وأقام لهم في فندق "السفير" الشهير مأدبة دعا إليها 17 كاذبا(عفوا كاتبا)، وأجلس على يمينه ويساره وطار وبوجدرة، ثم سأل وطار:”أخبرني الرفاق ...بكيت وكيت فأرجو أن توضح شكواك أمام الحاضرين" ،فأجاب،وقد أرتج عليه، "لترسلني إلى السجن"، فرد الزبير:" حسنا...انتظروني بضع دقائق لكي أقدم لكم صورا من التقارير التي كتبها وطار بخطه ضدّ جميع الكتاب الحاضرين هنا". أغمي على وطار، وخرج الرفاق دون أن يصافحوه...الخ...فأيّ إبداع يمكن أن يصدر عن هذه الجثة؟ وأساسا أيّ إبداع في الواقعيّة"الإشتراكية"في الحقيقة أحتاج إلى سور من الأقواس)أي الفكر والفن في خدمة السلطان التي يخربش بها
وطار؟ هذه الأخير لا يبدع حتى في الفن البوليسي، بل يسطو على روايات الموظفين الحزبيين السوفييت التي تترجمها "دار التقدم" إلى العربية فيحاكيها مستبدلا أسماء الشخصيات والأماكن السوفييتية بأسماء وأماكن جزائرية! لم أقرا له -لأن وقتي ليس من نحاس- إلاّ "الحوت والقصر" وكأنما كنت مكلفا بواجب مدرسيّ ثقيل. الشعور الوحيد الذي خالجني بعد الفراغ منها هو أن أصفعه لو كان أمامي. يقول غوته:”ما من شاعر عظيم إلاّ وهو فيلسوف عظيم".ووطار وبوجردة ، ومن لفّ لفّهما، شرطيّون وجهلة!
ومتطرقا إلى القضايا المتصلة بالحداثة الغربيّة، وإلى الأزمات التي تعاني منها راهنا، يكتب العفيف الأخضر في رسالته قائلا:”الفرنكفونيون والضادفيون المغاربة لم يسمعوا بالحداثة إلاّ يوم دفنها في مسقط رأسها. ما الحداثة؟ هي الإصلاح، الأنوار، الثورة، الفرنسيّة، الثورة الصناعيّة(التي هي حلقتها المركزية، من العتْه الحديث عن الحداثة في بلادن القارات الثلاثة،وأوروبا الوسطى والشرقية التي لم تمرّ يالثورة الصناعيّة) العلمانية، الديمقراطية. الإصلاح لم يتبقّ منه إلاّ بقايا فالفاتيكان اليوم هو مركز السلطة الثالث بعد الولايات المتحدة الأمريكية ، ومجلس الأمن. الأنوار إنطفأت في ظلام "ما بعد الحداثة"،أي في الحقيقة العودة إلى ما قبل الحداثة:شجب "العقل والتقدم وقابلية العالم للمعرفة"(وهو جوهر فلسفة الأنوار)، وتمجيد اللاعقلاني والباراسيكولوجي ، وحتى الدين. الإيديولوجيا الملكيّة أخذت اليوم ثأرها من الثورة الفرنسيّة التي تكاد تتحوّل إلى "مجرّد مجزرة".ويقال أن الجنرال ديغول فكّر في إعادة الملكيّة إلى فرنسا عام 68! الثورة الصناعية تكاد تخلي مكانها للرأسمالية المضاربة (1300- مليار دولار تجوب أسواق العالم يوميّا،ليس فيها إلاّ 10 أو 15 مليار تمثل إقتصادا حيقيقيا، أي تمّ إنتاجه فعلا.أما الباقي فرأس مال طفيلي لا ينتج أية قيمة ، رئيس البنك الأوروبي ، أتالي، يعترف بأنه لا يوجد قطاع خاص منتج في أوروبا الشرقية والوسطى لأنه لا يتعاطى إلاّ التهريب والصفقات المافيوزية. وتجارة المخدرات، السنوية تقدّر ب 300 مليار دولار ،أي بحجم تجارة النفط الدولية). العلمانيّة تتراجع في الغرب كله، بما في ذلك فرنسا، مهدها، لحساب التواطؤ مع الكنيسة إلى حدّ تفكير الحكومة الفرنسية الحالية في تمويل المدارس الكاثوليكية بأموال دافعيّ الضرائب... ولم يردعها عن ذلك إلاّ الشارع الفرنسي الذي ما زالت كفاحيته سليمة. أما الديمقراطية فقد مُسخت إلى مجرّد مزحة سمجة: البرلمانات الغربية غُرَف لتسجيل الأصوات لأن التداول على السلطة مشهديّ محض لإنتفاء البدائل. اليمين واليسار لا يملكان إلاّ نفس الخيار:”إدارة الأزمة الدائمة بسوء متزايد" لأنه لا حلذ لها في إطار نمط الإنتاج السائد.”
وفي نفس السياق، يواصل العفيف الأخضر كلامه قائلا:” يبدو أن الفرنسيّة دخلت فعلا إلى تونس قبل الحماية بفضل ذلك الشركسي الفذ خير الدين باشا ،المتحمس للحداثة ولغتها كنظبره الطهطاوي الذي أسّس مدرسة الألسن(الترجمة) في النصف الأول من القرن التاسع عشر. أظنّ أن الفرنسيّة كانت تدرّس في مدرسة باردو العسكرية (في تونس ) منذ ستينات القرن المذكور ىنفا. تقول إن الفرنسية"فرضت بقوة السلاح"، وكذلك الإنجيليزية.، لأن الحداثة نفسها، أي الرأسمالية فرضت على جميع أصقاع العالم ما قبل الرأسمالية بقوة السلاح،أو بقوة رأس المال(أشباه المستعمرات في أمريكا اللاتينية).لماذا فرضت عليها الحداثة الرأسماليّة بالقوة؟ لأن بناهها الراكدة لم تكن قادرة على إنجاب الحداثة ذاتيّا. وكان لا بدّ من دمجها قسرا في السوق الرأسمالية الدوليّة. إن شئت التوسع في هذه النقطة، إقرأ: الشعبوية الأصولية، من أين، وإلى أين الذي أعطيته لك. يقول سبينوزا: لا مدْعاة للضحك ولا للبكاء بل للفهم Ni rire ni pleurer mais comprendre لأن التاريخ ، بما في ذلك التاريخ الثقافي، مسارات موضوعية لا دخل للإرادة، وخاصة للإرادوية فيها. من اصطراع الاتجاه والاتجاه المضاد يولد التاريخ المتحقّق. محاربة الحضور الثقافي للفرنسية والإنجليزية وكل لغة حيّة ظلاميّة بأتمّ معنى الكلمة مع تجهيلية. طبعا ومنذ أكثر من 30 سنة، كنت أصبو ولا أزال لتعريب الإدارة ، وخاصة التعليم من المدرسة إلى الجامعة، لكن شرط حضور اللغات الحيّة إلى جانب العربية. وهو حضور لا يضيرها بل ينفعها. منذ عشرة قرون، قال أجدادنا العرب:”كلّ لسان بإنسان". أي كلّ إكتساب للغة جديدة يكسبك إنسانا جديدا. وينسب لمحمد أنه قال:”اطلبوا العلم ولو في الصين"(بلغة أهلها طبعا).
ويعود العفيف الأخضر إلى القضية اللغوية في المغرب العربي لينتقد الفرنكفونيين وما يسميهم بالضاجفويين قائلا:”صيغ مثل"الناطقين بلغة المستعمر" سجاليّة، بل أصولية لا تليق بقلم حقا حديث. لا ترمي الطفل(الفرنسية) مع ماء غسيله الوسخ( الفرنكفونيين). هؤلاء مرضى جديرون بمصحّات الأمراض النفسيّة. مثل المؤدب(يقصد التونسي عبد الوهاب المؤدب صاحب كتب كثيرة عن الإسلام) كتب غداة حرب الخليج، لاعنا الغرب الذي "يهدّد العرب بالإنقراض ل الحضاري وحسب بل الجسدي".وهو هذيان لا يصدر إلاذ عن عُظامي Paranoiaque سريري. لكن لم تكد تمضي شهور على عودته الهاذية لنرجسيّة القبيلة حتى تنكّر لها، ورفض في مئتمر بألمانيا التوقيع على "رفع الحظر الإجرامي المضروب على شعب العراق"! إدعاؤه بأنه" الوحيد الذي يمثّل الأدب التونسي"(في الحقيقة لقلة الأدب التونسي) أن صحّ شهادة إضافية على عُظَامه. تشتكي في رسالتك من صمت الكتاب الناطقين باللغة الأم أمام "صولات وجولات" الفرنكفونيين. أعتقد أنك تعطي لهؤلاء الأقزام أهميّة لا يستحقونها، وتنسى قول الشاعر العربي الحكيم:ولو أن كل كلب عوى ألقمته حجرا لأصبح الحجر مثقالا بدينار! بل ربما بدولار! الكلمة اليوم خاصة، كالرصاصة لا ينبغي أن تطلق بطيش أو على الدواجن بدلا من إطلاقها بتصميم وعلى الضواري!
ولا يغفل العفيف الأخضر في رسالته عن الإشارة إلى المخاطر التي أصبحت تهدد حياة البشر بسبب تلوث البيئة، وفي ذلك يكتب قائلا:” ذات مرة سؤل نهرو عن رأيه في وجود الله فأجاب:”عندي في مشاكل الأرض ما يغنيني عن مشاكل السماء". ونحن عندنا من مشاكل النوع البشري المهدد في مجرّد بقائه ما يغنينا عن مشاكل الفرنكفونيين والضادفويين الزائفة. استهولتَ هذيان قوم تذروها الرياح. لكن لا يهولك إختفاء العسل الطبيعي المجنى من رحيق الأزهار لا من الغابات النائية عن الحقول...لأن النحلة باتت تمتصّ مع الرحيق المبيدات الحشرية فتموت! لذلك غدت تحبس وتطعم السكر الصناعي لتنتج مشهد عسل لا أثر للعمل فيه؟ أيَهُولك هذيان المؤدب الذي لا يقلّ خطرا عن" بصّ الكلاب"، ولا يهولك إختفاء الحليب الصالح للإستهلاك في العالم كله، بسبب تلوثه بمعدلات مسرطنة للكبار، ومميتة للصغار، من المبيدات والأسمدة الصناعية المسرطنة التي تعلف للأبقار؟ ألا تفزع عندما تعلم أن المياه الجوفيّة الكونيّة أصبحت منذ أوائل السبعينات غير صالحة للشرب لتسمّمها بالنترات، وبكوكتيل من المبيدات؟ والأدهى من هذه أن المياه مهددة بالنضوةب في مستقبل منظور بسبب الجفاف الكوني القادم الذي بدأ فعل منذ عقد ونصف. عندما تواجه الأنسانية قاطبة تحديات البقاء والفناء، لا يبقى متسع من الوقت للجدال في جنس الفرنكفونيين، وتبدو معارك الديوك صغيرة وصَغارا!
ويتحدث العفيف الخضر في رسالته عن التدهور الحضاري والثقافي الذي تعيشه البشرية قائلا:"النوع البشري يواجه خطر التفكّك الذي طوى في رماله المتحركة، الحضارات السالفة بما فيها الحضارة العربيّة-الإسلامية. العلم، البحث عن الحقيقة ، تفكّك إلى تكنولوجيا مرصودة أساسا لخدمة التجارة والحرب. الثقافة، التي هي في الأصل نشاط إبداعيّ ونقديّ لا يخضع لغير قوانينه الخاصة، تفكّكت إلى سلعة خاضعة، كأيّة سلعة، لقوانين السوق: العرض والطلب. في أوائل الثمانينات، كشف رئيس تحرير "لوموند الثقافي" Le Monde des livres بمناسبة الموسم الأدبي آليات إنتاج السلعة الثقافية: بعد انتهاء كلّ موسم أدبي، تطلب دور النشر الكبرى، من معاهد إستطلاع الرأي العام، إستطلاع طلب المستهلكين للرواية في الموسم القادم، لتطلب بدورها من روائييها اسستلهام طلب المستهلكين -بدلا من استلهام فانتازماتهم التي هي أساس الإبداع الفني والأدبي-لهذا السبب تكون روايات كل موسم متماثلة التيمات. روايات الموسم المذكور كانت مُتَمَحْورة حول موضوع السيرة الذاتية، والتجارب المثلية الحقيقية أو المدعاة، تلبية لطلبات القراء! في كتابه"خصام ونقد" ، ساق طه حسين الواقعة التالية: ذات مرة، وشى أحد حسّاد الحريري(يقصد صاحب المقامات) به للوالي(الذي كان وما يزال في عالمنا الإسلامي الغبي والمستبد حَكَما أعلى في كلّ شي بما في ذلك الإبداع الأدبي) مدعيا أنه انتحل المقامات.، فحسبه السيد الوالي أسبوعا كاملا ليكتب مقامةواحدة في سجنه يفنّد فيها ما زعم خصمه، لكن دون جدوى. فضربه الوالي وأشاع في الناس أن الحريري مُنْتحل. يعقّب طه حسين، معرضا بالرقابة الناصرية، بأن الذي كان يكتب مقامات الحريري، ليس شخصه، بل حريته. فلمّا اعتقلها الوالي، نفاها، ونفى بالتالي إبداعها. فأيّ حريّة تبقى اليوم لفنان يكتب تحت طائلة قوانين السوق الحديدية؟ البئة، أمّنا الأرض، بهوائها وسمائها، تتفكك مما جعل الكارثتين الأيكولوجية والنووية أقرب إلينا من حبل الوريد. يقول تقرير الأمم المتحدة: سيحيلُ الجفاف الكوني القادم بسسب ارتفاع درجة حرارة الأرض بفعل التلوث ، بلدان البحر الأبيض المتوسط إلى صحاري محوّلا الأراضي الزراعيّة في كوكبنا إلى فيافي قاحلة، وستتفاقم العواصف الإستوائية مكتسحة القارات والبحار برياحها العاتية التي ستدمر مدنا بأكملها في سويعات، ناشرة الأمراض الخطرة مثل الملاريا والكوليرا. كما ستندثر الغابات التي تزود الأرض ب 25 بالمائة من الأوكسيجين، وستجف بعض الأنهار...في ثلاثينات القرن الواحد والعشرين، ستذوب الثلوج القطبية بفعل حرارة التلوث، وسترتفع مياه البحار بضع سنتمرات لتُغْرق المدن الساحلية، وثلث الأراضي الخصبة في العالم ، وتصبح الأرض كما لو كانت وسط طنجرة مضغوطة Cocotte minute -على نار قوية. سينضب الأوكسيجين في أربعينات القرن القادم بفعل تلوث المحيطات التي تقدم للأرض 75 بالمائة منه! يوجد اليوم في العالم كلهبين 15 و20 مفاعل نووي في حجم تشرنوبيل تتصدع كلّ يوم، ويمكن أن تنفجر بين لحظة وأخرى. إنفجار أقل من نصفها يجعل الحياة إشكاليّة! بين 45 و85 ’ارتفع معدل الإشعاعات النووية 49 ألف مرة. يوجد منها في البحار والمحيطات-حيث لم تعد توجد إلاّ سمكة واحدة على ثلاثة صالحة للإستهلاك الآدمي-من الإشعاعات ما يكفي لقتل 50 مليار إنسان! النظام الدولي يتحوّل كلّ يوم أكثر إلى فوضى دولية دامية بسبب العجز البنوي عن حلّ الأزمة الدائمة التي أنشبت أظافرها في عنق حضارة السلعة والموت منذ الحرب الكونية الإمبريالية الأولى. النسيج الدولي يتفكّك بتفكّك الإمبرياليتين الغربية والشرقية اللتين كانتا تفرضان عليه انضباطا حديديّا. النسيج الدولي يتفكّك في القارات الثلاث، وبلدان الكتلة الشرقية سابقا بحروب أصوليّة، وميكرو قوميّة أو قبلية مما يبشر بلبننة العالم. النسيج الإجتماعي داخل كلّ دولة شرقا وغربال، شمالا وجنوبا، يتفكّك بفعل الأزمة الشاملة التي جعلت النخب الرأسمالية السائدة عاجزة عن دمج الأيدي العاملة بالعمل المأجور-وسيلة الدمج الإجتماعي الأساسية- مظاهر هذا التفكك مقروءة في انتشار اليأس من المستقبل(لعلك لاحظت في مدن الغرب No Futur مكتوبة على ظهور قطعان الشباب التائهة، في تعاطي الكحول والمخدرات ، في استفحال الإجرام المنظم (المافيا التي استولت الآن على الحكم في إيطاليا) والمجاني(القتل للقتل بسبب الفصام المعمم (منذ بضع سنوات ،وسائقو عربات الإسعاف في واشنطن مزودون بصدريّات مضادة للرصاص)، في انتشار ضروب التدمير والتدمير الذاتي بسبب تغلغل إلى جميع زوايا وخبابا المجتمع الدولي، في انتشار الأمراض النفسيّة (60 مليون أمريكي يدخلون سنويا مصحات الأمراض العقلية ليوم أو يومين في الحياة. عشت في لبنان 8 سنوات لا أذكر أني رأيت فيها مجنونا يهذي في الطريق. أمّا اليوم فبإمكانك أن تصادف أكثر من مجنون هاذ في اليوم الواحد)، بسبب تفكيك السلعة للعلاقات الإنسانية، وتحويل المجتمعات إلى صقيع، في انتشار الأوبئة والمجاعات على نطاق غير مسبوق، في تفكك جميع لاالقيم لصالح قيمة واحدة وحيدة ،النقود التي هيمنت على جميع مظاهر الحياة، او بما هو أدق اللاّحياة، اليومية في العالم كله، في تفشي الحروب الإقليمية، المحلية والأهلية والإرهاب الديني والدنيوي، في احتمالات تنامي الفاشية الجديدة في الغرب، الأصولي الدموي في العالم الإسلامي، الميكروب قومية في روسيا وأوروبا الوسطى والشرقية والقبلية الهمجية في إفريقيا. مذابح رواندا ليست إلاّ المذاق الأول.، في بطالة حاشدة Massif لم يعرف العالم نظيرا لها في تاريخه المكتوب. لقد عجزت الرأسمالية المنحطة على استغلال نصف الأيدي العاملة في العالم. أكثر من 75 بالمائة من شبان العالم مهمشون لأن أبواب اندماجهم في المجتمع بالعمل المأجور سدّت أمامهم. المهمشون مستقبلهم هو الجنوح أي أن يكونوا قتلة وقتلى. عولمة الإقتصاد بتحويل الأرض إلى منطقة تبادل حر للسلع والرساميل ، وبالتالي جعل الحرب التجارية العالمية ضارية فوضى على الرأسمال، تشغيل الآلات بدل البشر لأنها اكثر إنتاجية منهم، وترك هؤلاء لمصيرهم دون سند أو وعين! ماذا يبقى من الإنسانية في الإنسان العاطل؟ تقريبا لا شيء. وماذا أبقت الرأسمالية في إنسانية الإنسانية الي طال ليلها وعذابها؟ أقلّ من لا شيء!
ويختم العفيف الأخضر رسالته قائلا:”هذه هي بعض المشاكل الحقيقية التي يمر بها صنّاع المشهد الإعلامي والثقافي، مفبركي الرأي العام،ومضللي وعيه، مرّ الكرام. لأن تحليلها الموضوعي يقود إلى اكتشاف السبب فيها، أي الحضارة السلعية السائدة التي تنتجها،وتعيد إنتاجها بشكل موسّع أكثر فأكثر، ومريع أكثر فأكثر. ولا يسع الذين يفكرون بأنفسهم لا بالموضات السياسية -الثقافة إلاّ أن يقفوا بها وقوف شحيح ذاب في التّوب خاتمه...
 
دُمْ واسلمْ من الأذى
العفيف