&

ترجمة حسونة المصباحي
&
كان بيار باولو بازوليني (1922-1975) متعدد المواهب.فقد كان شاهرا مجيدا،وروائيا مثيرا للإهتمام،ومخرجا سينمائيا قديرا،وناقدا مرموقا،مسموع الكلمة والرأي .وقد جلبت له مواقفه الجريئة متاعب وخلقت له اعداء ألدّاء خصوصا في ألأوساط اليمينيّة والفاشيّة.وكانت الكنيسة تهاجمه بآستمرارمعتبرة ايّاه"شيطانا من شياطين النصف الثاني من القرن العشرين”.وكانت أقواله وكتاباته ومقالاته اللاذعة التي كانت تنشر في كبريات الصحف والمجلاّت تثير فزع ألأحزاب اليمينية والمسيحية .ومثلما يقول الناقد فيليب جافي فإن بازوليني كان واحدا من القلائل الذين "آبتكروا أسلوبا جديدا للمثقف الملتزم"إذأن الالتزام لا يعدّ بالنسبة له مجرّد ولاء لحزب أو قضيّة ،وإنما هو بالأساس "أسلوب وطريقة تعبير".لذا كانت مقالاته تنزل على ظهر مجتمع الفساد والرشوة والرذيلة بمثابة السياط الموجعة.وكان هو يفكر بصوت عال.وقد لا يكون ذلك المراهق الشاذّ هو الذي قتله في الليلة فجر الثااني من نوفمبر-تشرين الثااني 1975، وانما ايطاليا التي قال عنه ذات مرّة:”ان ايطاليا الصغيرة كانت بلد الشرطة.وهي التي أوقفتني وحاربتني وطاردتني وعذبتني ومزقتني طوال عقدين كاملين تقريبا"...
&
وقد كتب بازوليني قصائد يستحضر فيها ذكريات طفولته في الريف حيث ولد.وفي واحدة من هذه القصائد، كتب يقول:
&
كنت "شاعرا في السابعة من عمري"-مثل رامبو-لكن في الحياة فقط.

الآن ،في قرية

بين البحر والجبل ،

حيث تنفجر عواصف مطرية كبيرة ،

في الشتاء تمطر كثيرا

في شهر فبراير تلوح الجبال صافية مثل البلور،

هناك خلف الأغصاان االرطبة ،

ثم تولد ازهار الربيع ،صغيرة ،بلا رائحة،

على الحفر،

في الصيف ،قطع ارض صغيرة ،من الذرة الصفراء،

تتناوب مع االأخضر الداكن للبرسيم

ترتسم على خلفيّة سماء بلون البستل

مثل مشهد شرقي غريب.

وفي قصيدة:”أنا حيّ" التي كتبها بعد الحرب الكونية الثاانية،يستعيد بازوليني ذكريات طفولته مستعرضا بشاعرية عالية تفاصيلها التي ظلت راسخة في ذاكرته حتى اللحظة الأخيرة من حياته ….


في الناحية السفلى المشمسة في الصمت

المألوف للريف الأبيض

أهدهد نفسي بوحدة قاتلة

في الصباح القاتل ،الذي دائما

يبيّض بنوره الريف الحادّ.

لكن تحت هذا النور الرتيب (حيث أحلم)

يصفّر خيط من الريح ،والذهب يلتهب

في أوراق أشجار الدردار البعيدة .

أنتظر؟لا شيء

في هذا الفضاء المفتوح الذي أواجهه

هذه الصحراء الشاسعة،هذا النور الذي خارج نفسي،

لا شيء غير حلمي حتى الأفق،

وخلف كل هذا،كل شيء أبكم.

طفل يصرخ،أحلم؟يصرخ أم يغنّي

يصرخ في الريف الأبكم ،أنا حيّ ،

طفل يصرخ.

في عينيّ،وفي شعري

المبعثر على جبهتي ،أنت أيها النور الصغير،

لامباليا تحمّر ورقتي.

مراهقا كنت أتلف ليال بأكملها بنورك الباهت ،وكان من الغريب

سماع الريح ،والجداجد المتوحدة بنفسها.

في هذا الوقت ،في الغرف،تنام العائلة المسلوبة من الذاكرة ،وأخي

يظل ممدّدا في الناحية الأخرى من الستار.

والآن حيثما يكون ،أنت أيها النور الأحمر

من دون أن تقول شيئا ،تضيء ،والجدجد

يتأوّه في الأرياف الساكنة ،

وأمي تسرّح شعرها أمام المرآة ،

عادة قديمة مثل آلتماعتك ،

مفكرة في آبنها الذي فقد الحياة.

أمي التي كانت لا تزال شابة ،على ضفاف "ليفنزا"

تقطف زهرة الربيع

منتصبة غريبة...وال"الموري دوصاسيل"

يدقّون في الهواء الشديد الصفاء

ساعة الظهيرة ...وقميصي الخفيف ،قميص الطفل ،

والسحاب الذي بلا شكل في السماء الزرقاء ،

ورائحة الحقول غير البالغة

مثل صرخة صامتة...كل شيء يندفع نحوي

مثل طيران خطاف.

وهناك في العشب ،جامدا،مرة اخرى

لا يتبقى مني غير قلب خافق.

ينبوع"فيشيلريدو" الصافي ،

مياه معتدلة،خشب مفعم باللطف،

اليوم في سنّ العشرين ،أراكم وأسمع

غليانكم الأبديّ اللامبالي .

في المرج ،ينبثق الماء عند قدميّ ،ويطير ،ثم يستعيد مجراه

وبعيدا يعيد ثانية تلحين نشيده.

هذه الموجة تغني لي:غير أنني لا أعبأ

بفرحها العميق،وبآبتسامتها الطريّة ،

غير أني أظل أنظر اليها بإصرار،وفجأة :أكتشف

فتيات سماويات ،وألعابا قديمة ،

وسباقات ،وأصوات....آه،مع ذلك لا شيء من كل هذا

في النواحي المجهولة

في التمتمة الهادئة للمياه.

عند بلوغي حافة النهر ،أسمع

الجداجد وهي تهذي،مشتّتة،لتقول

إنه لا شيء يسعد بعودتي .

أمضي وحيدا.عندئذ من وحدته السريّة

يلتحق بي لبقمر الساكن ويعبث قليلا

بشعري ،وبوجنتي،وجنبي القوي.

أين أذهب الآن؟وما جدوى

العَلَف القديم في أول جليد

والنجوم القاتمة ،ليس هناك غير صحراء

مرعبة ،بلا نهاية...

السحب الرائقة تسقط في

مستنقعات السماء الساخنة

والأغصان تضيع في الشمس.

ها وقت ضحكاتي ،ودموعين

ها وقت الغفران المنتظر ،

ها وقت السعادة ،

ها وقت تيهي في الحقول ،

ها الوقت الذي فيه أنظر الى السماوات،

(هل صرخت ؟ألن يتوقف الصدى؟

وهل صراخي سيقترب من

السحب؟لا استطيع أن أخنق

فرحتي الساذجة،المعتدلة).

وحيدا ظلّ ال"كارنيا" يخترق

بنقّاراته السحب الشاحبة .

وها الحد الأقصى للسماء .

في مكان آخر،حيث أمدّ بصري ،

لا ينتظرني غير الفراغ ،

والأزيز الأصمّ لطائرة تعلّم سماوات أخرى.

بعد هذا الصمت الذي يعمي ،أرفع رأسي :

على الجسر الصغير قطار يحرث

السماء،من دون ضجيج ...صرخة تولد

في داخلي (كل طفولتي التي تعود)،

صرخة بإمكانها أن تدمرني .

أسكتها،ومرة أخرى ها أنا خاضع.

…..........................

ساعات متشابهة ،السماء نفسها.

وفي الهواء الفارغ من العطر ،

رمز يكاد يُنسى ،

الطائرة الشاحبة من جديد

تزمجر فوق المنازل الوديعة .

هنا في هالة السلام العاجز

خيث منذ سنين عدة التقي بنفسي من جديد ،وحيث

أعرف،من دون أن أتذكر.ماضيّ يمتدّ

حولي مثل مساء صافية.

السماء الشفافة تبعث لي بإشارة

خفيفة …

ليست غير ظل ابيض

سحابة.(أتعرف على هذا الظلّ للكلمة الدقيقة عن الوصف...الجرح …

آه،وعيي،وحيدا مثل السماء).

مستودع الحصيد وأحجار اللاط تعكس في العيون

النور المزرقّ للقمر.

من الذي يواجهني بحياتي بمثل هذه الطريقة؟

وكانت نسمة سماوية قد كنست

السحب التي فوقي:لا ظلّ

في السماء العارية.

غير ثابت الرأي،أسمع وانا أستيقظ

الوقع الواضح لخطواتي ،ثمّ أتردّد

أمام النوافذ الكئيبة المغلقة .

(في أيّ جوّ بديع يتسلّل النور الأبيض؟وبكل ذلك الحزن؟).

حائرا أفتح البلكون:السماء تطبع

صمتا صاعقا على الحقول.


و...إذا ما كانت حواسّنا محقّة،ثم في البعيد

حافلة عفيفة بالكاد تمزق

الصمت ،من ناحية البيوت الموحشة.

والأزيز الفاتن يتلاشى .

وأنا دائما هناك منحنيا على أوراقي ؟

آه يا للصور الباعثة على الياس ،آه اليقين

بأنه ليس شيئا آخر غير شبح

في النور...

ربيع بلا حياة يحترق.

مشوشا وقرفا ،أكتب

على أوراق حيث،بيضاء ،

تدوم مراهقتي التي شاخت....

متمرّسا بكل الإغتباطات!مع ذلك كما لو أنه جديد

يخفق قلبي في مخمل

صوت مزهوّ...

وكم من ذكريات آصطناعية لجداول

صيفية ،ويا له من ظهور جديد وفجئيّ

للنجوم المرعبة.


غير أنني لا أريد

أن أستسلم .الربيع إذن

والغروب الحزين ،والمغارة حيث ترقص الأفيال ،عندما طفلا

أحسّ بين يديّ،العطر الحزين

لغصن تقشّر لحاؤه.وتكفيني

زهرة بنفسج (أعرف ذلك ولا أخفيه)

لكي يفتض بكارتي قلب طفل...

آه ليس لي هذا الجمال ،

جمال الكريستال ،وهذا الربيع المرّ:

صرخة،حتى ولو كانت صرخة فرح،وأكون قد آنهزمت.

(أغلق النوافذ وأترك العالم

وحيدا ،مع سمائه التي من فضّة).


القمر يداعب بالزبد النديّ

جدران غرفتي الفارغة،

الفراش المدنّس،والظل الدافئ

للبراعم يجزّعان الهواء الهشّ.

ثم صوتان،فجأة،يتحوّلان

الى تنهدات محبوسة...الى ضحكات ،وحتى

الى ضحكات تختلط بالجوّ

الأسمر،

في الدفء الليلييّ.

ربما خلف الأسيجة ،مستندان الى جذع،

شابان يملآن بفرح

هذا الفضاء المرعب الذي يفتحه

الربيع من جديد.


مثل غريق نجا من الموت أستدير

وأرى خلفي ،متأثرة بالماضي،محيطات من اازهار البنفسج النادرة،

من أزهار الربيع الصامتة.

غير أنّ هذا المشهد لهذه النباتات اللازورديّة

التي يجعلها ابريل أكثر لطافة

هي حلم أكثر بعدا من السماء.

الزمن يتلاشى من دون موج:

فراشات بطيراان خجول،

أزهار عنيفة،سلام منتفش...


وهل سأرتعب مرة أخرى

إذا ما صوت أفسد الموسيقى المرتّبة

للحقول ؟هل سأرفع بصري مثل طفل

تخيفه المهاوي السماوية

التي يحجبها المجرى الهادئ للسحب؟

وإذا ما أطلق في السماء القاحلة

العندليب نشيده النهاريّ

فسوف أنصت إليه بحرارة وخشوع ،لكن من دون أمل.

أنا لا أحلم،لا أسهر.

غرفتي لها فتنة نخلة.

السرير الأبيض النقيّ،غير مرتب،

الكراسات البريئة:حضور هذا الفرح الطبيعي في داخلي

والذي تمنحه الحياة التي تعيش لذاتها.

ثم تتفرق طيور الدوري مثل

طيران مضطرب للفراشات .الأرض،في الشمس

المبتهجة واللامبالية...


وفي الكروم اتي أحرقتها الشمس

والمنازل ذات الطلاء المتوهج،

رنة ناقوس ملحة.


تحت الإمتداد اللامع للسماء

اتمسك بحياتي ،البعيدة جدا

بأناشيد جداجدها ،وسحبها ،

وهي تقودني ،دائما الى حافة المخاطرة

والحدود اللانسانية ،بآتجاه مناطق

مجهولة أكثر ،وأكثر غموضا...

فزعا

اشعل المصباح من جديد...آه كم من مرة سمعت من الماضي

تلك الذبابة التي أيقظها النور

الذي يموت باثا أشعته في صمتي!

أوه يا للصمت الكئيب للعندليب

مفعما بأصوات طيور الخطاف الحادة والصافية!

أنظر الى صورتي على الفراش

المتعفن ،والصورة البريئة التي تحتضنني...وحدها

نوستالجيا الذنب تشيع الدفء فيّ...


وفي المنزل الميّت

في "كازارسا" ،أنت تبستم ،وأنت واع جدا،

وفي نظرتك الثابتة،نظرة الممسوس،

أنا أقرأ تاريخي.وها

الغرفة القبر لدفء جسدي ووحدته،

والمرآة التي أتملّى فيها بمهارة العارف

مختلف جوانب وجهي،الفراش من دون آستيهامات ،عاريا،

والذي يمنحه النور الساطع بياض الجبس،

ويعلقه ضكك في الماضي.