في كتابه "عصر الغضب"، يقول بانكاج ميشرا إنه في خضم التحديث الذي فرضته العولمة على هذا العالم، ولأن من وعد بالحرية والاستقرار والازدهار عجز عن الوفاء بوعوده، صار الجميع أكثر عرضة للشعبوية والديماغوجية وكراهية الآخر. إنه الحاضر بكل غضبه تعصبه وحروبه.

إيلاف من بيروت: الخاسرون في التاريخ، في الهند كما في بريطانيا ما بعد بريكست&وأميركا في عهد دونالد ترامب، يتحدّون النظام العالمي الذي يهيمن عليه الغرب.&

فلم يمضِ وقت طويل بعد سقوط جدار برلين في عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفياتي حتى نشر فرانسيس فوكوياما، العالم السياسي الأميركي، المنتمي إلى تيار المحافظين الجدد، كتابه "نهاية التاريخ والرجل الأخير"، الذي أعلن فيه أن الديمقراطية الليبرالية تنتصر في جميع أنحاء العالم، لتصبح الشكل النهائي لسلطة الحكم البشري، وتضع حدًّا للتاريخ.&

الحاضر هو زمن الغضب والتعصب والشعبوية

واعتبر أن نجاحها مدفوع بالانتصار الحتمي لرأسمالية السوق، وسيجتاح اقتصادات الدولة الاشتراكية السابقة في روسيا وأوروبا الشرقية. وخلافًا لما قاله بعض نقاد فوكوياما، فإن نموذج عالم ما بعد التاريخ لم يكن الولايات المتحدة، بل الاتحاد الأوروبي، لأنه مثل انتصارًا لقانون عابر الحدود الوطنية.
&
أزمة عالمية
لم يتوقع فوكوياما حدوث هذه التطورات على الفور. فانتصار الديمقراطية الرأسمالية السوقية يستغرق وقتًا، ربما عقودًا أو قرونًا، لكنه يستمر بلا هوادة حتى القضاء على أي شكل آخر من أشكال الحكم، ما يعود بالنفع على الجميع.

مع ذلك، في ربع قرن بعد نهاية التاريخ، كما يقول الكاتب الهندي والروائي بانكاج ميشرا في كتابه "عصر الغضب - تاريخ الحاضر" (Age of Anger - A History of the Present المؤلف من 416 صفحة، منشورات آلن لاين؛ 20 جنيهًا إسترلينيًا)، كل ما حدث تقريبًا يشير إلى أن الدولة الديمقراطية الموجّهة نحو السوق قد بدأت في التعثر.&

يضيف: لم نشهد انتشارًا منتظمًا للديمقراطية الدستورية التمثيلية، بل شهدنا "أزمة عالمية" ناجمة من الحرمان الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لأعداد هائلة من الناس المهمّشين بسبب عملية البحث القاسية عن ربح الرأسمالية العالمية، التي تم تحريرها بشكل كبير من قيود أنظمة الدولة.

يكتب ميشرا: "بعد فترة طويلة من التوازن غير المستقر منذ عام 1945، فسح النظام العالمي الذي هيمن عليه الغرب القديم الطريق أمام اضطراب عالمي ظاهر". دخلنا عصر الغضب، فقام الخاسرون في التاريخ بتحدّي أشكال السلطة والشرعية القائمة، التي أضعفتها قوى العولمة على نحو خطير. فنحن برأيه نشهد عنفًا مستوطنًا غير قابل للتحكم، تغذيه مجموعة من الأحقاد ضد المهاجرين والأقليات والغير، أصبحت الآن جزءًا من التيار السياسي.&

ردًا على ذلك، حدث تحول عالمي نحو الاستبداد والأشكال السامة من الشوفينية، وانخرطت المجتمعات التي نظمت من أجل تفاعل المصالح الذاتية الفردية، من طريق الدولة، في العنف العشائري وغير العقائدي.

تاريخ التحديث
في كتابه المحفز والمحزن، ما اقترح ميشرا أي حل فعلي لمأزقنا الحالي، بل كان هدفه، بدلًا من ذلك، تحديد موقع المشكلة في السياق الأطول أجلًا لآثار التنوير والإمبريالية والثورة الصناعية العالمية، بينما كانت عملية التحديث المولودة في أوروبا تستقر في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.

بدأت الثقافات غير الغربية في التحول باتجاه الخطوط الغربية. ومع ذلك، ميشرا يصرّ على أن "تاريخ التحديث"، هو تاريخ المجازر والدماء، بدلًا من أن يكون العملية العقلانية والمنظمة التي وصفها المبدعون الأميركيون، الذين أطلقوا هذا المصطلح في خمسينيات القرن العشرين وستينياته. وبعيدًا عن كون ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وروسيا الستالينية شذوذات وحشية، شكلت هذه العقائد في كثير من الأحيان التعابير المميزة لهذا التاريخ.

لم ترغب النخب الغربية في مواجهة هذه الحقائق، فأصيبت بالذعر ولجأت إلى الإسلاموفوبيا وكراهية الأقليات وتدمير الحريات المدنية في صراع مزعوم بين الحضارات تستسلم فيه لقوى الغضب والكراهية نفسها، التي تحرّك انتفاضة ضحايا التحديث.&

وهكذا، يتدهور الوضع لنصل إلى الغضب العارم "للحرب الأهلية العالمية" بين النخب التي تتمتع "بأفخر ثمار الحداثة"، بينما تستهزئ بالحقائق القديمة، والجماهير المشردة، التي عندما تجد نفسها مخدوعة بالثمار نفسها، ترتدّ إلى "التفوق الثقافي والشعبوية والوحشية المرسومة بالحقد".

يقول المؤلّف: "إنّنا نرى هذا الصراع يظهر بطرائق مختلفة، من الثورة الشعبية التي أدّت إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وأحضرت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، إلى التعصب الذي أثار الإرهاب في مدن أوروبا والحرب الأهلية في الشرق الأوسط. وقد تولى القادة الشعبويون والمستبدّون السلطة في المجر وبولندا وروسيا والهند وتركيا، باستخدام كراهية المهاجرين والأقليات الدينية للبقاء هناك، والتسبّب بانهيار سلطة الدولة على أي شخص يجرؤ على انتقادهم".

كيف حدث هذا؟
ينظر ميشرا في تاريخ الأفكار بحثًا عن تفسير، مخصّصًا فصولًا متعددة لتتّبع خط الفكر من جان جاك روسو مرورًا بالرومانسيين والعشائر الروسية وصولًا إلى غابرييلي دانونسيو والثورة المضادة للفكر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.&

لكن هل هذا مقنع حقًا؟، كثير من أوجه التشابه التي يرسمها بين المفكرين الإسلاميين الراديكاليين والنقاد الأوروبيين لعقلانية عصر التنوير تبدو متوترة، في أقل تقدير. وادّعاؤه بأن مصطفى كمال أتاتورك، الزعيم العلماني لتركيا بعد العثمانية، أصدر مرسومًا بإلغاء الطربوش، "كما لو كان يعبّر عن حساسية فولتير المفرطة تجاه الأتراك غير المتحضرين"، لا يثبت الصلة بين الأمرين على الإطلاق.

في نهاية المطاف، لا شيء من هذا يفسر الأزمة التي حدّدها ميشرا. فثمة كثير من المشكلات في الحجج التي يقدّمها، ولا سيما إهمالها الكلي للماركسية والديمقراطية الاجتماعية، بوصفهما بديلين من النظام الاقتصادي والسياسي الليبرالي والنيوليبرالي.&

وقبل كل شيء، ثمة امتدادات طويلة للكتاب تمثّل ما يسمّيه الألمان إدينغيشيخت Ideengeschichte (أي تاريخ الأفكار)، وهي طريقة للاقتراب من الماضي الذي يعامل المفكرين البارزين كممثلين للاتجاهات التاريخية الأوسع، ويفسر الحاضر من خلال أصول كتاباتهم بدلًا من وضعها في السياق المادي والثقافي الخاص بحقبتهم.

من الصعب أن نرى أهمية مناقشة ميشرا المطولة لروسو وسياسة يومنا هذا. فهو يتجاهل الفكرتين اللتين يشتهر بهما روسو، أي العقد الاجتماعي، وهو شيء ينكره الشعبويون الجدد ضمنًا، والإرادة العامة، وهي التعبير عن الديمقراطية المباشرة، التي قد يتصور المرء أنهم كانوا أكثر تعاطفًا معها.&

من ناحية أخرى، لا يمكن المرء أن يتخيّل أن السياسيين الشعبويين يعرفون الفكرة الأولى عن روسو أو باكونين. والجدير بالذكر أن سخط المحرومين هو تأكيدات اقتصادية بشكل أساس، وثقافية إلى حد ما، لسياسة الهوية في مواجهة العولمة، ومن المؤسف أنه لم يركز على ذلك بشكل أكبر.

ما المقصود من هذا؟
يجمع ميشرا بين العنف الجذري للدولة الإسلامية والتطرف الإسلامي من جهة، وظهور مناصري ترامب والحق الشعبوي المناهض للمهاجرين من جهة أخرى، على الرغم من أنها ظواهر مختلفة تتطلب تفسيرات مختلفة. ينتهي خطابه بمبالغة في أبعاد المشكلة التي يحاول شرحها. وهو يريد أن يعرف لماذا يجذب "داعش" الشبان والشابات في الديمقراطيات الغربية. لكنه في الواقع لم يكن كذلك إلا بالنسبة إلى أقلية صغيرة.&

انتشرت الديمقراطية منذ سقوط الشيوعية، خصوصًا في أفريقيا وأميركا اللاتينية، وهما جزءان من العالم لا يمكن ميشرا أن يقول عنهما إلا القليل. وقد ازداد أمد العمر المتوقع ومحو الأمية، وغير ذلك من تدابير الازدهار.&

وقد تكون الشعوبية وكره الإسلام والعنصرية والتحيز ضد المهاجرين أشد وضوحًا مقارنة مع العقد السابق، وتحظى بمزيد من الدعم في عدد من البلدان، لكنّ نسبة التصويت للبريكست&لم تتخطَّ 37 في المئة من الناخبين البريطانيين، وخسر ترامب الانتخابات الشعبية في الولايات المتحدة بأكثر من مليوني صوت.&

ويحظى حزب البديل من أجل ألمانيا المناهض للمهاجرين بدعم كبير في دول شرق ألمانيا السابقة، حيث جذور الديمقراطية سطحية، والمقاومة الشعبية للسياسات الاستبدادية والمسيئة التي تمارسها الحكومة البولندية، تُعتبر قوية. إذًا، فالمستقبل ليس قاتمًا وميؤوسًا منه كما يعتقد ميشرا.

هنا نشير إلى الجانب السلبي "للتحديث"، بغضّ النظر عن الطريقة التي نشأ فيها هذا المصطلح: على وجه الخصوص التأثير العنيف والمتعلّق أحيانًا بالإبادة الجماعية الذي خلّفته الإمبريالية الأوروبية في أجزاء أخرى من العالم في القرن التاسع عشر، والفقر والاستغلال الذي ولّده التصنيع.&

وإذا كانت أوروبا القرن التاسع عشر سلمية بشكل عام، فإن السلام المخيّم عليها قد تخللته حوادث عنف متطرفة ودامية. لكنّ التاريخ ظاهرة متعددة الجوانب. لا يمكن في النهاية أن يكون مكرّسًا لخدمة مصالح تفسير الحاضر من خلال الحجج المريبة، التي يقدّمها ميشرا في كتابه المحرّك للفكر.


أعدّت "إيلاف" هذا التقرير نقلًا عن "غارديان". الأصل منشور على الرابط الآتي:
https://www.theguardian.com/books/2017/jan/25/age-of-anger-history-of-the-present-pankaj-mishra-review