كل مرة ازوره احرص على تدوين بعض مقولاته او عناوين الكتب التي ينصحني بقرائتها او المقطوعات الموسيقية التي يتكلم عنها بشغف ومعرفة او حتى تدوين المفردات والامثال المتداولة التي اكتشف اصولها في اللغات القديمة او تلك المفردات التي انتقلت الى الانكليزية.&
علي الشوك على مشارف التسعين، رغم تقدمه في السن فهو حاضر البديهية ويزخر كما البحر بالنفائس العلمية والادبية ويجود بذكرياته عن الاماكن التي عاش بها والاصدقاء الذين عاشرهم والتقلبات السياسية التي شهدتها المدن التي عاش بها: بغداد، بيروت، بيركلي، براغ، بودابست ولندن.
حين سألته ما الصفة التي يحب ان يوصف بها وهو من مزج الرياضيات بالأدب واللغة بالميثولوجيا والاساطير وكتب الرواية وبحوث الموسيقى وتلاقح الحضارات، في جعبته 22 كتابا بدءا من الاطروحة الفنتازية 1970 وانتهاءا بالكتابة والحياة 2018. &
"كاتب" أجابني، "كنت اتمشى وحدي في حرم الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1947 وقررت في تلك اللحظات ان اصبح كاتبا"، هذا بالضبط ما دونه في كتابه الاخير(الكتابة والحياة) وكيف تداخلت حياة علي الشوك الشخصية مع كتابته حتى لا نكاد نفصل بين فعل العيش وفعل الكتابة لديه، في الحقيقة هو كاتب حتى عندما يتحدث او يتذكر. كتابه الأخير اشبه ما يكون بالسيرة، يصرح فيه باعترافات تجعلنا لا نصدق ان كل ذلك حدث في بلد شرقي مثل العراق، ويكشف عن ضعفه الانساني حينما تعرض للاعتقال والتعذيب.&
لا يمكنني البقاء محايدا امام الجمال
سألته بعفوية اني اراه متجسدا في شخصيات بطلات رواياته أكثر من ابطاله؟&
- لا يمكنني البقاء محايدا امام الجمال سواء كانت امراة ام كتاب ام شجرة او قطعة موسيقية، وكنت شغوفا دوما بعشق النساء الجميلات. لكن الجمال ليس جمالا بلا نقصان، كما ان تأثير الجمال عليّ يشبه المسّ الكهربائي الذي يتركني مصعوقا بلا حراك. المرأة هي شغل حياتي الشاغل ولولاها لكانت حياتي عبثا، كنت ابحث عن الحب وعثرت عليه مرتين، كما اني كنت اربط بين كتابتي الروائية والعثور على الحب الحقيقي لاني لم أكن اريد &اختلاق الاشياء والمشاعر وكنت أريد كتابة رواية عن تجربة حب حية وعن امراة مذهلة لكني كنت اريد الوقوع في حب امراة كهذه اولا. بطلات رواياتي (تمارا، شهرزاد وداليا) هنَّ مزيج من المخيلة والنساء اللواتي تعرفت عليهن في حياتي، شخصية شهرزاد مثلا حاولت ان اجعل منها شخصية نسائية متميزة، لأني رأيت ان كل الصفات الانثوية مطروقة من قبل فاصبغتُ عليها صفة النبوغ في الفيزياء، لان هذا العلم شغلني فترة طويلة، وأنا من مؤيدي مبدأ الحتمية، اي ان للعالم هدفا ما سيتحقق على خلاف مبدأ اللاحتمية الذي ينادي به أغلب مفكري العالم وعلمائه الان.
- انتميت الى اليسار في بداية حياتك واعتُقلتَ واخترتَ المنفى الطوعي، هل تعتبر نفسك مناضلا من اجل قضية ما؟&
نعم في بداية شبابي انتميت الى اليسار، لكني كنت يساريا متفرجا فقط، بمعنى اني لم اشترك بمظاهرة سياسية ولا اي نشاط سياسي، اما قضية حياتي فهي ان اكون كاتبا، فالكتابة كانت بشكل ما يوتوبياي، وهي الان علاجي من كآبة التقدم في العمر، وانا كأي شخص لي يوتوبيات خاصة بي مثل الموسيقى، الحب، الرواية والرياضيات. واعتقد اني استطعت تقديم اضافة الى الفكر الانساني بكتاباتي، وان الذي كتبته يعبر عن وجودي ككاتب وكانسان.&
- من زرع بعلي الشوك بذرة الاختلاف؟&
الاختلاف كان نوع من القناعة الذاتية، لكني لا اعتبر نفسي عبقرياً بأي شكل من الاشكال، بل احيانا اكون اقرب الى الغباء، خصوصا عندما اعجز عن حل مسألة رياضية، رغم اني درست الرياضيات اكاديميا لكني لست رياضيا ورغم شغلي كمدرس للرياضيات سنوات طويلة في المدراس العراقية، كان طلابي يحبونني جدا رغم صرامتي العلمية. انا مثقف منذ نعومة اظافري ومنذ دراستي في جامعة بيركلي ولم يكن هناك شيء في الثقافة لم اطلع عليه وكنت احب الافلام الامركية والروسية. الثقافة بمعناها الشامل كانت عالمي.&
-هل شعرت ان بيئة العراق كانت ضيقة على علي الشوك وثقافته الموسوعية لذلك اخترت المنفى؟&
نعم كان عندي وعي مبكر اني لا انتمي للواقع الشرقي، ولدت في بغداد عام 1928 وعشت طفولة سعيدة في الفترة الذهبية في بغداد حيث البراءة والنقاء، لكني اعتقلتُ لمدة سنتين وعذبتُ عام 1963 وهذا ترك جرحا نفسيا غائرا في داخلي وسردتُ هذه الفترة من حياتي في روايتي الثانية (السراب الأحمر). كما ان دراستي في الجامعة الامريكية في بيروت وبعدها في احدى اكبر جامعات امريكا وهي جامعة بيركلي (1949_ 1952) ساهمت بتكويني المعرفي وبالتالي غربتني عن واقعي المحلي.&
&
- من الذي أثّرَ في شخصية علي الشوك من المثقفين العرب؟&
الدكتور أنيس فريحة الذي درسني مادة التاريخ الاسلامي في الجامعة الامريكية في بيروت، كان يستطرد استطرادات لغوية ويعيدنا إلى اصل المفردات. وهكذا قربني جدا من اللغة وانصرفت للبحث في المفردات والاساطير أكثر من 20 سنة من عمري، وهذا قادني الى البحث عن جذور الكلمات في اللغات المختلفة وتجرأت على البحث في أصل الأقوام السامية والهندواوربية وما كتبته من بحوث وكتب مثل (جولة في اقاليم اللغة والاسطورة) و(ملامح التلاقح الحضاري بين الشرق والغرب)و ( الاساطير بين المعتقدات القديمة والتواراة) هي اضافات جيدة للمكتبة العربية.&
- كتابك الاول( الاطروحة الفنتازية) الصادر عام 1970 كان جديدا في وقته ولا يزال فهو قد مزج بين الرياضيات والشعر، بين الموسيقى والرسم وبين الحكاية والتأمل؟
هذا صحيح فهو كتاب عن كل شيء وهو كتاب عن مكوناتي الثقافية وعن علاقتي بالاشياء التي كنت أجيد التعبير عنها بلغة المعادلات الرياضية، هو ملخص لطرائق التفكير في ذهني.&
- الحب، الرواية، الأسطورة، اللغة، الفيزياء، الرياضيات، الموسيقى، اين تسكن روح علي الشوك في بيوت المعرفة هذه؟&
بيتي هي الموسيقى، أينما أذهب فاني اعود دوما الى بيتي وهي الموسيقى، والموسيقى تستهلك عمرا بأكمله كي يستطيع الانسان تأملها وتذوقها، وعلاقتي بالموسيقى وفهمي لها لم تأت مرة واحدة بل هي رحلة على امتداد عمري بأكمله، بدأت بالاستماع الى الموسيقى منذ ان كنت مراهقا غضا في بغداد وبدأ هذا الاهتمام يكبر معي، والموسيقى لّمت شملي وأدامت حياتي. وكانت اجمل هدية تلقيتها في حياتي هي جهاز بيانو من صديقي نوري السعدي كان ينتظرني في بيتي بعد خروجي من السجن كنوع من المواساة. وهنا يزورني الاصدقاء احيانا للإستماع للموسيقى اولا ثم الكلام.&
الموسيقى أولاً ، الرواية هي التالية، بعدها العلم
- أما زلت تقرأ؟ وما نوعية الكتب التي تستهويك بعد مشوارك المعرفي هذا؟
نعم اقرأ، واخر كتاب قرأته عن سيرة حياة شوبان. الكتب التي تستهويني هي كتب الموسيقى اولا وبعدها الرواية ثم الكتب العلمية عن الفيزياء والرياضيات.&
- من هم الكتاب العرب الذين قرأتهم، وكيف كانت علاقتك بجيل الحداثة وأعني رواد الشعر الحر بالعراق؟&
&قرأت روايات توفيق الحكيم وأحببته كذلك طه حسين ونجيب محفوظ الذي أُعجبتُ جدا بثلاثيته التي اعتبرها رواية كلاسيكية عالمية من الطراز الاول، ومن مجايلي كنت احترم كتابات جبرا ابراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف، اما فؤاد التكرلي فقد كان صديقي وهو من حاول مساعدتي في فترة اعتقالي وكذلك ارتبطت بعلاقة صداقة مع عبد الملك نوري. اما شعراء حركة الشعر الحر فأذكر اني التقيت ببدر شاكر السياب عدة مرات وكان ذا شخصية رائعة لكنه كانسان كان مسحوقا لان شكله سبب له عقدة نفسية كبيرة ثم مرضه. لم التق بنازك لكن البياتي كان من معارفي.
-هل مازلت تحن للعراق؟&
خرجت من العراق سنة 1979 ورجعت بعد عشر سنين عام 1989 بزيارة خاطفة بإلحاح من الاهل والاصدقاء، وليس لدي اي صلة بالعراق في الوقت الحاضر، واعتقد ان العراق الحالي محترق وتتقاسمه مشاكل لا حصر لها، لازلت اؤمن بنظرية المؤامرة وان هذه مؤامرة هدفها سحق العراق وابنائه وتشريدهم. وقد نجحوا نوعا ما. انا اخشى متابعة اخبار العراق الحالي، ما وصل اليه حال العراق كان مقصودا كما اسلفتُ. كما ان العالم العربي يمرّ بمرحلة ظلام وقد اثبتت الايام خرافة ماسميّ بالربيع العربي.&
- هل كيف تتواصل مع قرائك؟&
لا أجيد التعامل مع الوسائل التكنولوجية وليست لي صلة مباشرة بالقراء، لكن ابنتي زينب احيانا تنقل لي انطباعات القراء عن رواياتي وكتبي ومقالاتي، احدى القارئات كتبت لم اقرا شيئا لعلي الشوك الا وأذهلني.&
لقد وجد هذا العارف الذي يشرف على العقد التاسع من عمره سلوانه بالرواية وعزائه عن غربته وشيخوخته بالموسيقى والبحث. تمنيت له يوما سعيدا وودعته على أمل زيارته في اقرب فرصة.&
&
التعليقات