خالتي ساميّة


كان جدي يرفض ان تُنادى ابنته ، خالتي ساميّة بتشديد الياء و يقول انما ساميَة بفتح دون شدة و انها من السموّ. روت ذلك لي امي بثينة عزيز المحمود الذي سمى الثالثة ليلى فجمع جميل و قيس المتواريان ، اذ تزوجت بثينة ابي حميد ناجي و ليلى تزوجت صبري و بقيت سامية بدون زواج و ذابت بنا، نحن ابناء اختها الذين لم نسمِّها ابداً خالة انما هكذا حافياً "ساميّة" و بتشديد الياء على عناد جدي..ابتسامتها الدائمة و قلبها المتسامح و هدوءها جعلنا نعتبرها طفلة مثلنا.
بقيت سامية تراعينا كأم و نحن أخذناها بداهة ان لا تتزوج و لا يكون لها اطفالها. و هي ماذا فكرت ؟
انا ضبطتها مرةً متلبسةً تغني "انه من اگولنه آه و اتذكر ايامي" بشجن.
الان اترجمها: ما اعتبرناه بداهةً لم يكن بداهةً على الإطلاق .&
لم تكن سامية ملحقا لحياتنا رغم انها جلبت لنا السعادة بجمالها الخارجي و الداخلي و طيبتها التي لا تقاوم .
اتذكر انها في العام ١٩٥٧ ذهبت مع امي الى بعقوبة لشراء ماكنة خياطة سنگر و حين لم تجد منها اشترت ماكنة نوع بترفلاي. و خاطت لنا ما شئنا.&
و حين فتحوا مدرسة للمتقدمات في السن سجلت و انتظمت.&
كانت تعرف مباديء القراءة هي و امي على طريقة جدي المله و كما درجت حينها "زي زبر دلبشتو".
انتظامها في المدرسة و شرائها ماكنة الخياطة كانت محاولة متأخرة لتأسيس الذات.
في زيارتي الاخيرة كانت سامية قد فقدت الذاكرة بسبب الزهايمر . بيتنا الذي جُدد امّحى من ذاكرتها و لم تتآلف معه.
تقول: هذا ليس بيتنا ، ماذا افعل هنا؟ خذوني لبيتنا.
نأخذها امتار قليلة خارج البيت الى راس العگد فتتذكر المكان و تقول اعيدوني.
رحلت سامية التي كانت ساميةً بكل ما فيها من طيبة و جمال و انا هنا، في المانيا.
تحية لذكراك!

عتاب

اليوم خرجت من البيت صباحاً محملاً بجدول عمل. سيكون اليوم مشحوناً. عليّ اولا ان اذهب الى بلدية تيمبلهوف لانجاز مجموعة اوراق و من ثم الى مكان آخر لشراء مواد فنية و بعدها الى مشغلي لمواصلة عملي.
اخذت الحافلة ثم قطار الانفاق بعدها ، نزلت في المحطة القريبة من مقصدي. صعدت السلم و سرت نحو الهدف. لم يبقَ بيني و بينه غير شارع فرعي اجتازه و اصل. اذن كل شيء حسب الخطة و في الوقت المناسب.
ما ان عبرت الشارع حتى رأيت رجلا نحيلا يرتعش و ينظر الى الجانب الاخر من الشارع بخوف.
التقت عيني بعينه، كان فيهما توسل و ذلة. قال:
ـ هل تستطيع مساعدتي؟
ـ بالتأكيد!
ـ اريد ان اعبر الشارع و انا مصاب كما ترى بالباركنسن...
ـ كيف أساعدك؟
ـ ضع يدك تحت ابطي و اسندني.
عملت مثلما اشار علي و عبرنا الشارع الفرعي الضيق
ـ امسكني جيدا …. قد اقع!
- اطمئن انا ممسك بك&
كان يرتعش و يصاب احيانا بما يشبة النوبة و يستطيع بالكاد القيام بخطوة واحدة.
- امسك بي جيدا
- لا تخف انا ممسك
- ربما ليس لديك وقت ولديك مشاغل و انا اصرفك عنها؟
- عندي وقت كافٍ حتى تنجز كل مشاغلك
قطعنا عدة خطوات بمشقة و كان الى يميني حاوية قمامة برتقالية اللون&
- قرِّبني اذن من حاوية القمامة
كان يحمل بيده منديلا ورقيا . كنت انا من جهة صندوق القمامة اخذته منه بعد ممانعة و رميته في الحاوية....
قال: هذه سُتحفظ لك و تنفعك...
(فكرت: هل لديهم نفس المعتقدات؟)
عاد و سألني مرة اخرى: هل لديك وقت؟
- عندي كل الوقت الى ان تنهي اعمالك.
- انظر ، هناك ، اترى تلك اليافطة الخضراء؟
- نعم اراها، ما بها؟
هناك حلاق ... اود ان احلق رأسي.
كانت المسافة قصيرة و لكننا قضينا وقتا طويلا نسبيا لقطعها و في كل مرة كان يؤكد علي: امسكني جيدا و كان علي في كل مرة ان أطمأنة ، كان مرعوبا من فكرة السقوط..
في محل الحلاقة كان ثمة شباب اتراك ساعدوني على اجلاسه ... سألني احدهم:
كيف يحب ان تكون حلاقته؟
قلت له: لا ادري
ـ الا تعرفه؟
ـ لا ، التقينا تواً
انحيت على الرجل الذي جلس الان مرتاحا على كرسيه و سألته: هل تحتاجني بشيء؟ اذا احتجتني سابقى معك.
قال: شكراً لك، اتعبتك.. الشباب سيقومون بالمهمة
ربت الشاب التركي بود على كتفي ، سلمت عليهم مودعا و خرجت…
….
في الخارج كانت السماء مغطاة بالغيوم... تذكرت كلمات الرجل "ستُحفظ لك"
&ثمة فسحة بين الغيوم لقطعة سماء زرقاء ما زالت تلوح ...نظرت خلل الفتحة و سألته: هل رأيت؟
ثم عاتبته على امورٍ قديمة بيننا و واصلت مسيري.
&