في حفل اختتام الدورة الثانية لأيام قرطاج الشعرية التي انتظمت في مدينة الثقافة بالعاصمة التونسية من 22 إلى 29 مارس من هذا العام، فاز الشاعر محمد العربي مناصفة مع الشاعرة سلوى الرابحي بجائزة الشعر، ليكونا حجة دامغة على أن البعض من الشعراء الشبان في بلاد الشابي يمتلكون مواهب جديرة بالاهتمام والتقدير.

وكان محمد العربي قد فاز الصيف الماضي ومناصفة أيضا مع الشاعرة المغربية نسيمة الراوي بجائزة بلند الحيدري التي يمنحها منتدى أصيلة. وإلى حد الآن هو أصدر ثلاثة دواوين هي على التوالي:" حتى لا يجرحك العطر"(2014) الصادر عن بيت الشعر التونسي، و"القتلة ما زاولوا هنا" (2016)الصادر عن أروقة للنشر والتوزيع بالقاهرة، "وحين تحدثينني عن الحب" الصادر مطلع هذا العام عن دار "ميارة" ، والذي بفضله أحرز على جائزة أيام قرطاج الشعرية.

ما يلفت انتباهنا في هذا الديوان هو أن الشاعر محمد العربي عارف بفنيات قصيدة النثر، ومتقن لها بحيث تجنب في كل القصائد السقوط في حبائل اللغو والتبسيط الأجوف، واللعب على هامش الشعر من دون عناية بموسيقاه وبرنته الخاصة به وحده. &ومنذ البداية هو يعلن تمرده على القواعد الصارمة، والرؤى الثابتة، واختراقه لكل ما هو متداول ومتعارف عليه، وبه يتشبث المشدودون إلى الماضي ورواسبه ولغته الجافة المحنطة. فالشعر عنده هو "اطلاق نار عشوائي في شارع عام"، وهو ليس "مقدسا" كما هو عند الأقدمين، بل له "ذنوب كثيرة"، وهو ذلك "الرخام في عيني بسام حجار"، وهو و"مركب سركون بولص"، و"رسولة أنسي الحاج". ومعنى ذلك أن محمد العربي ينتصر لرموز قصيدة النثر ليكون وريثا لهم، مكملا لمغامرتهم الشعرية التي بدأت في منتصف القرن الماضي لتتمكن في العقود الأخيرة من فرض قصيدة النثر التي اكتسحت المشهد الشعري راهنا، مُتَحَدية كل المحاولات التي بذلت لضربها، واخراجها من مملكة الشعر.

وبالنسبة لمحمد العربي، أصبح شعراء اليوم &ينفرون من تلك الفخامة، ومن تلك البطولة ، ومن كل مظاهر الأعداء التي كان الشعراء الأقدمون يفاخرون ويتباهون بها. وهم لا يخشون الاعتراف بأنهم "مساكين"، تكفي نظرة عابرة أن "تعبث بحياتهم". كما يمكن لكلمة جارحة أن "تجعلهم يختفون إلى الأبد". وهم "بارعون في الخسارة"، و"يهذون دائما بكلام غامض"، و"يبيعون الريح للمراكب". ومن كثرة ما رفست عظامهم، لم يعد باستطاعتهم رفع أعناقهم إلى السماء". & والشاعر اليوم لا يتردد على مجالس الملوك والأمراء وأهل النفوذ، ولا يتمسح بأعتابهم، بل هو يهيم على وجهه في "مدينة بلا قلب"، و"يجوب الشوارع كل مساء كومة من رماد" ليرتاد الحانات القذرة، ويجالس السكارى تحت الأضواء الباهتة. وفي النهاية، متعبا ومحبطا يحتمي بركن ليكتب قصيدته بينما الليل يرحل مثقلا بالهموم والأحزان. وأثناء ذلك قد "يخرج الدخان من أذنيه"، ومن فمه "يتصاعد صراخ المحترقين".

وفي أعياد رأس السنة، قد يجد شاعر اليوم نفسه وحيدا، بلا أصدقاء، وبلا &حبيبات. وفي غرفته الضيقة الكئيبة، هو لا يسمع سوى" نباح الكلاب، وورقة توت تسقط فوق حجر مهمل، ودودة تتمشى وسط خزانة فارغة". وقد لا يكون طعامه في تلك الليلة غير "بقايا طعام على ظهر نملتين تدخلان من ثقب جدار".

والشاعر في قصائد محمد العربي كائن مهزوم دائما. لكنه ليس "خجولا بهزيمته"، بل &هو "يرفعها عاليا" &ل "يلوّح بها لرفاق مخذولين &يعبرون ذاكرته". ومن &قاع بئر سحيقة، يتعالى صدى صرخاتهم.

وهذه القصيدة التي يكتبها شاعر اليوم لا تستمد مادتها من بطولات فردية أو جماعية، ولا من مغامرات خارقة، ولا من أساطير موروثة من ماض سحيق، بل من عذاباته ومن تأملاته اليومية. وقد تكتب هذه القصيدة من وحي ّرياح عاتية"، أو من "زوبعة كلام فارغ"، أو من" شتائم متبادلة" بين شاعرين لا يجمع بينهما سوى حب الشعر في بلاد تقتل شعراءها، أو تشردهم، أو تجوّعهم.

وتخلو قصائد محمد العربي من مفاهيم الحب القديم، ومن مفاهيمه الرومنسية. والحبيبة هنا تقاسم الشاعر حياته الصعبة. وفي لحظة ما قد تفر منه هاربة، وتغلق هاتفها الجوال لكي لا تستمع إلى أعذاره الكاذبة. وأما هو فقد يحزن لحين من الزمن لفراقها، لكنه سرعان ما ينساها &لأن "الحب القادم قد يكون أجمل". أما الحب الذي ذبل فيتحول إلى" بركة عفنة &من مياه راكدة". &&
&