يقدم هذا الكتاب دراسات مختارة لعدد من المنظرين الغربيين عن تقنيات الأدب ما بعد الحداثي، تضع القارئ العربي في سياق النقاشات والأفكار التي تتناول أدب ما بعد الحداثة في الغرب، وقد انتقيتها بعناية وحرصت على تنوعها واشتمالها على الجانبين التنظيري والتطبيقي وترجمتها الباحثة والناقدة أماني أبي رحمة. حيث يطرح في الدراسة الأولى مجمل التحولات التي وسمت ما بعد الحداثة/ الحداثية. ثم دراسة تحدد ما وراء القص وأغراضه. ثم سمات القصة ما بعد الحداثية، ثم يقدم موضوعين مهمين عن "ما وراء القص التاريخي"، ثم دراسة تطبيقية عن رواية "امتلاك" لأنطونيا سوزان بيات وأخرى عن رواية "رواية لم تكتب بعد" لفرجينا وولف. ثم يطرح دراستين فريدتين عن علاقة ما وراء القص وعلم النفس بشكل عام والذهان والبارانويا والنرجسية على وجه الخصوص.

ضم الكتاب الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والنشر والترجمة مقدمة للمترجمة شكلت دراسة لمناقشات المنظرين الغربيين لمصطلح ما بعد الحداثة و11 دراسة مطولة تعرضت للأمر بالتحليل، وقد رأت أبو رحمة أن "ماوراء القص هو تلك الكتابات الأدبية التي ظهرت في سبعينيات القرن العشرين وارتبطت بظواهر ما بعد الحداثة. وهو في تعريف شديد التكثيف السرد النرجسي الذي يتضمن تعليقا على سرده وهويته اللغوية كما عند ليندا هتشيون. أو كما عرفته باتريشيا واو: كتابة رواية تلفت الانتباه بانتظام ووعي إلى كونها صناعة بشرية وذلك لأنها تثير أسئلة عن العلاقة بين الرواية والحقيقة. إذ جاءت رواية ما بعد الحداثة ـ كما ترى هتشيون ـ لتساءل منظومة المفاهيم المترابطة بمجملها التي ارتبطت مع ما أطلقنا عليه اصطلاحًا الإنسانية المتحررة: الاستقلالية الذاتية والسمو واليقين والسلطة والوحدة والشمولية والنظام والكونية والمركز والاستمرارية والتقنية والخاتمة والتسلسل الهرمي والتجانس والتفرد والأصل".
وقالت "إن ما وراء القص هو ردة فعل، كما يقول تيري إيجليتون، على الاستقلالية المتزمتة والصارمة للحداثة الصارخة عن طريق الاعتناق الفج للغة والتجارة والسلعة. وموقفها من التقاليد الثقافية واحد من الآثار الأدبية المتسمة بعدم التوقير. كما أن سطحيتها المبتكرة تقوض كل الرزانة الميتافيزيقية عن طريق الجماليات الوحشية للصدمة. إلا أنه يجب الانتباه إلى علاقة (ما وراء القص) بـ(ما بعد الحداثة) ذلك أن ما وراء القص ليس هو النوع الوحيد لرواية ما بعد الحداثة، وكما أنها ليست نوعا ما بعد حداثيا بصورة حصرية.

وأوضحت أبو رحمة أن ليندا هتشيون ميزت بين ظاهرتين في كتابات ما بعد الحداثة: ما وراء القص، وما وراء القص التاريخي. وجاء في تعريفها لما وراء القص التاريخي:إن ما وراء القص التاريخي هو أحد أنواع الرواية ما بعد الحداثية التي ترفض إسقاط المعتقدات والمعايير الحالية على الماضي, وتؤكد على خصوصية وفردية الحدث الماضي. كما أنها تقترح تمايزا بين الأحداث والحقائق التي نادرا ما يميز بينها العديد من المؤرخين؛ لأن الوثائق أصبحت دلائل على الأحداث التي حولها المؤرخون إلى حقائق كما في "ما وراء القص التاريخي"،. والهدف من هذا أن الماضي كان موجودا يوما ما, ولكن معرفتنا التاريخية عنه قد انتقلت لفظيا أو سيميائيا، وهنا يشير ما وراء القص التاريخي إلى الحقيقة الكامنة في توظيف الاتفاقيات المناصية للكتابة التاريخية من اجل تسجيل وتقويض سلطة وموضوعية المصادر والتفسيرات التاريخية.&

&
وفي دراسته "من ما بعد الحداثة إلى ما قبل الحداثة.. أحدث التغييرات في الأدب والفن والنظرية" رأى هيربرت غريبز أن الأدب والفن والنظرية &تغيروا كثيرا منذ بواكير ما بعد الحداثة المذهلة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. وقال "كانت هذه التغييرات شديدة الوضوح حيث طرحت أسئلة متعلقة بمداها الحقيقي ونوعيتها وأسبابها الافتراضية وتبعاتها المميزة. وقد استدعى مدى ونوعية هذه التغييرات في حقول الأدب والفن والنظرية الانتباه. وتمظهرت هذه التغييرات بشكل جلي عند مقارنة حالة الأدب والفن في ستينيات القرن الماضي مع الحالة في ثمانينياته فصاعدا.&
وأضاف "يبدو التغاير والاختلاف بين الأعمال الجديدة وتلك التي في الستينيات والخمسينيات من القرن الماضي عظيما جدا لدرجة تجعل أغلب النقاد والمنظرين يتحدثون الآن عن مرحلة ما بعد الحداثة بطريقة تفيد أن مرحلة الحداثة قد انتهت. حقل الفنون البصرية هو الأنسب للحديث عن مدى ونوعية التغيرات، لأن الظاهرة هنا واضحة لا يخطئها الإدراك. لقد دخل مصطلح ما بعد الحداثة إلى وعينا من خلال أعمال" تشارلز جينكيس" في الفن المعماري المعاصر بوصفه مجالا بصريا أساسيا. يقول جينكس في تعريفه لفنون ما بعد الحداثة في كتابه "عمارة ما بعد الحداثة" "هي المزج بين مختلف الطرز في مقابل الطراز الكوني الأوحد ـ وهى الشعبي والمتعدد في مقابل المثالي والثابت ـ والشكل السيميوطيقى في مقابل الشكل الحتمي ـ والتعبير عن المضمون وتنامي اللغة مع إيحاءاتها الوظيفية". لقد تغيرت وجهة نظر الفنان في فترة ما بعد الحداثة عن كل ما كان يعتبره من المسلمات سواء على مستوى المعايير الجمالية أو الموروث الأكاديمي. هناك تناقض عظيم بين اللوحات الأنيقة للمدرسة التعبيرية التجريدية في أواخر مرحلة الحداثة، وبين العرض الجديد للأجسام المبتذلة اليومية الاستخدام بخلفية توضح طبيعة هذه الأشياء كمنتجات ضخمة لثقافة استهلاكية مثل "علبتا بيرة ـ 1960" لجاسبر جون، أو "صندوق بريلو ـ 1964" لأندي وارهول وتأريض طبيعة مثل هذه الأشياء بوصفها منتجات جماهيرية للثقافة الاستهلاكية كما في عمل وارهول الأيقوني الشهير "حساء كامبل".

ورأت فيكتوريا اورلوفسكي &في دراستها "ما وراء القص" أن توظيف مصطلح ما وراء القص خلق للإشارة إلى الأعمال الحداثية التي تعد انعكاسات ذاتية راديكالية بالتساوي مع الأعمال التي تتضمن بضع سطور من الانعكاسية الذاتية، غموضًا. ففي مراجعتها لكتاب "ما وراء القص: النظرية والتطبيق ـ 1984" لباتريشيا واو, تقول آن جيفرسون إن "المعضلة هي أن باتريشيا واو لا تستطيع أن تحتفظ بالأمرين معا؛ أن تعرض ما وراء القص بوصفه خاصية متأصلة في الرواية السردية واستجابة للرؤية الثقافية والاجتماعية المعاصرة".
وأوضحت "يوظف منظرون آخرون التعريف الثنائي لما وراء القص أيضا، الأمر الذي يجعل من الصعب أن نعرف ما إذا كان تعريفهم يشير إلى ما وراء القص المعاصر أو إلى جميع الأعمال التي تتضمن انعكاسية ذاتية. وقد ساهم "جون بارت" بتعريف غامض لما وراء القص كونه" الرواية التي تشبه الرواية بدلا من العالم الحقيقي". وتعطينا (باتريشيا واو) تعريفًا شاملاً عندما تصف ما وراء القص بأنه"كتابة روائية تلفت نظر القارئ منهجيًا وعن وعي ذاتي كامل لحالتها بوصفها صناعة بشرية من أجل أن تطرح قضايا عن العلاقة بين الحقيقة والخيال. يعمل ما وراء القص، كما اقترحت، كهؤلاء الذين"يكشفون نظرية كتابة الرواية تطبيقيًا بوساطة كتابة رواية". ويلقي "مارك كيوري" الضوء على ميل ما وراء القص المعاصر نحو النقد الذاتي عن طريق تصويره بوصفه خطابًا حدوديًا, ونوعًا من الكتابة التي تموضع نفسها على الحافة بين الرواية والنقد، إذ تأخذ الحافة تمامًا مثل المواضيع التي تطرحها.إلا أنه أيضًا يطوق الأعمال التي هي بالكاد ما وراء القص عندما يقول" عندما ترى السارد أو الروائي الذي جرت مسرحته بوصفه آليات ووسائل السرديات الكبرى يعني أنه بإمكانك أن تفسر جزءًا كبيرًا ومهما من التخييل بوصفه قصًا ما ورائيًا".&

وأشارت فيكتوريا إلى إن معظم المنظرين يتفقون على أن ما وراء القص لا يمكن أن يصنف جنسًا أدبيًا أو صيغة تعريفية لرواية ما بعد الحداثة. يقترح المنظرون أيضًا أن ما وراء القص يعرض "انعكاسية ذاتية يحفزها وعي المؤلف بالنظرية التي يرتكز عليها بناء الرواية " دون فصل ما وراء القص المعاصر عن الأعمال الأقدم التي تحتوي أيضًا على تقنية الانعكاسية الذاتية".
وقالت أن خصائص ما وراء القص تتنوع تنوع طيف التقنيات الموظفة فيها، إلا أنه يمكن تحديد ملامح مشتركة لما وراء القص. تظهر التقنيات بمصاحبة الملامح العامة أيضًا, ولكنها يمكن أن تظهر منفردة. توظف رواية ما وراء القص مرجعيات تناصية وتلميحات عن طريق: فحص الأنظمة الروائية ـ دمج جوانب النظرية والنقد ـ خلق سير ذاتية لكتاب متخيلين ـ عرض ومناقشة الأعمال الروائية لشخصية متخيلة.&
وينتهك كاتب ما وراء القصة المستويات السردية من خلال: التطفل بالتعليق على الكتابة ـ توريط نفسه مع الشخصية الروائية ـ مخاطبة القارئ مباشرة ـ استجواب الفرضيات والاتفاقيات السردية بوضوح وكيف أنها تحور وتنخل الحقيقة لإثبات أن لا وجود لحقائق أو معاني فردية استثنائية في النهاية.&
وتوظف سرديات "ما وراء القص" تقنيات تجريبية وغير تقليدية بوساطة: نبذها الحبكة التقليدية ـ رفضها محاولة أن تصبح"حياة حقيقية"ـ تدمير الاتفاقيات لتحويل الحقيقة إلى مفهوم مشتبه فيه بدرجة عالية ـ التباهي وتضخيم أسس عدم استقرارها ـ عرض الانعكاسية (البعد الحاضر في كل النصوص الأدبية ومركز التحليل الأدبي أيضا), الوظيفة التي تمكن القارئ من أن يفهم العملية التي تمكنه من قراءة العالم بوصفه نصًا.

ولفتت شاون فايدمار في دراسته "التجريب في الأدب: يقظة من الافتتان.. دراسة في "ما بعد الحداثة" إلى أن كتابات ما وراء القص توظف أشكالاً من التلاعب لتخفيف حدة الدهشة من تغير القصة الأصلية. ينتج توظيف الشعر والتجاور والشكل والجناس وما شابه قصة لم يرَ القارئ مثيلاً لها بالرغم من وعيه العالي بالحكاية العتيقة التي سمعها بالتأكيد. كما يوظف كتاب ما وراء القص التورية والتلاعب اللفظي المحكي بالعامية وكلاشيهات الوعي الذاتي لتقسيم وكشف الحكاية القديمة وفي نهاية المطاف إبراز الاستجواب الوجودي. تتخلل الجمل الشعرية نصوص كوفر وكارتر وبارثليم على سبيل المثال. جميعهم يوظفون التلاعب بالكلمات في نصوصهم وإن كانوا لا يصنفون جميعًا بوصفهم كتاب ما وراء القص بل كتاب ما بعد حداثيين. إن ما وراء القص ليس الأداة الوحيدة التي يوظفها كتاب ما بعد الحداثة في رواياتهم الإبداعية. ذلك أن سمة أخرى غالبًا ما تقف تحت مظلة ما بعد الحداثة ألا وهي النسوية.

وقال شانون وليامز في دراسته "القصة وما بعد الحداثة" "بما أن رفض الوسائط البنيوية التقليدية هو السمة الأساسية لأدب ما بعد الحداثة، فإن أي تعريف لهذه الحركة لا بد أن يكون متعارضًا مع هدف الحركة. ذلك لأن التعريف، بالضرورة، يفرض حدودًا على المعنى. لكن ومن أجل فهم أفضل لأجندة هذا الجنس الأدبي، نجد من الضروري أن نحدد أدب ما بعد الحداثة من حيث خصائصه. واحد من الأساليب الاستفزازية لفعل ذلك يتضمن تحليل كيف يتباعد أدب ما بعد الحداثة عن أدب الحداثة. ويكمن التمايز الحاسم بين الاثنين في وظيفة القصة.&
وأضاف "تزود القصة الحداثية الكاتب بفرصة خلق كون منظم يسمح لنا باستخلاص عبارات عن الخبرة الإنسانية من تعقيدات الوجود الحداثي. يشبه مفهوم القصة مفهوم مالينوفسكي عن الأسطورة باعتبارها شخصية اجتماعية تؤسس وتعزز نظام المعتقدات العامة الذي يتركب عليه المجتمع. تحاول كلٌّ من الأسطورة والرواية الحداثية أن تخلق نظامًا، وتطلق بيانات حول حالة البشرية، ولكن القصة الحداثية تعمل أيضًا على شجب كثير من العناصر التدميرية في الأسطورة. وبالرغم من أن القصة الحداثية تحاكي تقنية الأسطورة، فإن شكلها في النهاية يعزز فكرة أن محتواها في الأساس يهدف إلى الانتقاد. وبالمقابل، وبدلاً من محاولة خلق نظام، فإن أدب ما بعد الحداثة يطبق فوضى الوجود المعاصر على أشكاله ويسعى إلى تفكيك اتفاقيات القصة من أجل فضح زيف الأسطورة التي تروج لنظم عقائدية مستندة إلى الوهم. تجعل قصص ما بعد الحداثة القارئ على وعي بالوسائط البنيوية للقصة والأسطورة وبالتالي فإنها تشكل تحديًا لتكامل النظام".
&