في مقهى"لو روستان"، قبالة حديقة"اللكسمبورغ" بباريس، التقيت بالشاعر الفرنسي الكبير ميشال دوغي الذي كنت تعرفت عليه مطلع الثمانينات من القرن الماضي بفضل الشاعر لوران غاسبار الذي كان يعمل آنذاك طبيبا جرّاحا في مستشفى"شارل نيكول" بالعاصمة التونسية. واللقاء الأول تمّ بيننا في شقته بشارع"فوجيرار". معه تحدثت لا عن الشعر فقط، بل عن الفلسفة التي هي اختصاصه الأصلي، وعن مجلة"شعر" الرفيعة التي كان يديرها، وفيها ينشر ترجمات مُوفّقة للشعر العالمي. وفي لقائنا الأخير ، جاءني ميشال دوغي بكتاب له يتضمّن رؤيته للشعر، وبمجلة تحتوي على نصوص لشعراء فرنسيين، ومن بلدان أوروبية مختلفة. كما جاءني بقصيدة ترجمت إلى 20 لغة، بينها العربية، وفيها يرثي الكاتب التونسي عبد الوهاب المدب الذي رحل عن الدنيا في شهر نوفمبر-تشرين الثاني عام 2014. في مطلع هذه القصيدة ، كتب ميشال دوغي يقول:

الموت على السرير يشوّه صورتك

في أيّ مكان يأخذ مكان جسدك

وجهك يتخلّى عن استحضار الغائبين

“زهو" ينحُفُ في ملاءة السرير

ثم لدقائق أطبقت علينا الوحشة. فقد أعلمني ميشال دوغي أن صديقنا المشترك رولان غاسبار أصيب بالزهايمر. وهو يقيم منذ سنتين في مأوى للمسنين. ومطلقا تنهيدة عميقة، أضاف قائلا :”إن أسوأ وأمر ما في حياة الإنسان هو أن تكون نهايته مؤلمة...وكثيرون هم الشعراء والمبدعون الذين لم ترحمهم الحياة في مرحلة شيخوختهم!”.

ولعلّ ميشال دوغي المولود عام 1930، هو آخر من تبقىّ من شعراء فرنسا الكبار بعد رحيل إيف بونفوا. وفي شبابه درس الفلسفة، وتأثّر بوجودية هايدغر. لذا لم ينجذب للسورياليين مثل أغلب أبناء جيله، بل جاءت قصائده مختلفة عنهم، وموسومة بما يسميه هو ب"التيقّظ". وهو يقول:” في سنوات شبابي لم أهتمّ كثيرا بعلم النفس الفرويدي، ولم أكن مَعنيا بتلك ال"أنا" المرجعيّة لدى السورياليين. وكان بروتون يهتمّ كثيرا بأحلامه الخاصة. وكان يقول :”أيها االآباء، أيتها الأمهات، ارووا أحلامكم لأبنائكم...ودعوهم هم يتبادلون معكم أحلامهم...”.أما أنا فلم أكن أريد أن أكون حالما، بل "متيقّظا”. واختياري هذا جاء بتأثير من بول فاليري. وفي البداية، أبدى السورياليون اهتماما بهذا الشاعر-المفكر، ثم هاجموه بحدة فيما بعد تماما مثلما فعلوا مع أناتول فرانس. وعندما سأله أحدهم :”هل ترغب في شيء آخر؟"، أجاب :”أرغب في أن أظلّ متيقظا". ويضيف ميشال دوغي قائلا بإنه معجب بشعر فاليري ، وخاصة بقصيدته الشهيرة :”المقبرة البحرية"، لكن "دفاتره" التي استعرض فيها أفكاره النقدية والفلسفية حول العديد من القضايا تشده هي أيضا. إلاّ أنّ هذا لا يعني أن ميشال دوغي يرى أن الشعر يمكن أن يكون "عقلانيا"، و"ديكارتيّا(نسبية إلى ديكارت). وعندما انتقد الشاعر الفرنسي الآخر برنار نويل "العقلانية في الشعر"، دافع هو عن ما سمّاه أبولينير ب "العقل المتأجج". لكن ماذا يعني بذلك؟ هو يعني أنه يتوجب استكشاف عقل مسكون بالشك لا باليقين، ودائم البحث عن حقيقة قد تدرك لحين، ثم سرعان ما تغيب. وهو لا يرفض الحلم، بل يعتقد أنه لا بد من ربط الحلم بالفعل ضمن "اتفاق أخوي". وكان فاليري يقول بإن الفكر يمرّ ب"الرؤيا". إلاّ أنّ الرؤيا هنا ليست الحلم.

وفي سنوات الشباب، لمم يتأثر ميشال دوغي ببول فاليري فقط، بل تأثر أيضا ببول كلوديل الكاثوليكي المفتون برامبو، وبالكاثوليكي الآخر شارل بيغي الذي أحب نثره، لكنه كان يشعر بالنفور من شعره. وعندما تعمق في دراسة الفلسفة، واطلع على الفلاسفة الإغريق، وعلى الفلاسفة الوجوديين الفرنسيين من أمثال سارتر ومارلو بوانتي، وقرأ مؤلفات هايدغر، بدأ يرى أن القصيدة لا يمكن أن تخضع للفلسفة، بل يمكن تكون الفلسفة مرافقة ومضيئة لها. وهو ما نلاحظه عند الإغريق القدماء الذين ظهروا قبل سقراط. حتى أفلاطون كان شاعرا رغم أنه أطرد الشعراء من جمهوريته. لذلك يمكن القول إن إستعارة "الكهف" التي بلور بها فلسفته كانت شكلا من أشكال قصيدة النثر قي الزمن القديم. وفي نص شعري له كتبه عام 2015، يقول ميشال دوغي :”في الأسطورة، نحن نخرج من الكهف. في القصيدة أو الواقع إذا ما أنتم فضّلتم ذلك، نحن لا نخرج منها. هناك إذن ثلاث مراحل للحكمة: الأولى الإقامة في الكهف التي قد يكون كانط لمح إليها في"البحث عن اتجاه" للذي يتلمس طريقه في الغرفة المظلمة. الثانية هي الخروج-تحديدا انطلاقا من أفلاطون الذي يثير الفكر. الأخيرة هي العودة ، ليس عودة من ينزل من جديد، وإنما عودة اليقظة التي تجعلنا نفهم أننا لم نخرج من الكهف، وإنما نحن نعيش في سجون متداخلة.

والقصيدة بالنسبة لميشال دوغي هي شكل من أشكال "النداء". نداء موجه إلى "شعبها" بحسب هايدغر الذي كتب يقول :”إلى متى أيها الألمان، تظلون صمّا لنداء شاعركم؟". ويمكن ألاّ يسمع "نداء" الشعر في زمن تكثر فيه الكوارث والمصائب مثلما هو حال العالم اليوم. إلا أن هذا لا يعني أنه لن يسمع أبدا. ويضيف ميشال دوغي قائلا:” نحن نعيش اليوم اضطرابات خطيرة سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية, وهناك حروب مدمرة في منطقة الشرق الاوسط. وهناك الإرهاب الذي بات يهدد كل الدول، وكل المجتمعات. لكن الشعر لم يمت. وهنا في فرنسا. يُحتفى بالشعر في كل ربيع. كما أن هناك العديد من المهرجانات الشعرية في كل فصول السنة، وفي مدن مختلفة، صغيرة وكبيرة. وفي هذه الأيام تعرض المكتبات الفرنسية دواوين شعراء فرنسيين وأجانب بأثمان شعبية. وأعتقد أن الإقبال عليها يؤكد مرة أخرى أن الحياة تكون كئيبة في غياب الشعر والشعراء".

وقد نقل ميشال دوغي إلى لغة موليير شعراء أجانب من القدماء والمحدثين. من بين هؤلاء يمكن أن نذكر بندار، ودانتي، وهولدرلين، وجون دن، ووالت ويتمن، وغونغورا، وآخرين كثيرين. وهو يرى أن الترجمة الموفقة تكون ثمرة قراءة معمقة لأعمال هذا الشاعر أو ذاك. وعملية الترجمة تجعله يشعر أن العمل المُترجم يصبح "ملكا للغة الفرنسية". كما أنه يعيش عملية الترجمة ك"قصة حب صاعقة" بينه وبين النص الشعري الذي يقوم بترجمته. لذا هو يهبه كل وقته. بل ويلازمه حتى أثناء نومه! وكم من مرة قفز من الفراش لأنه عثر على الكلمة المناسبة التي لم يتمكن من العثور عليها قبل ساعات، أو قبل أيام.

وخلال مسيرته الطويلة، انشغل ميشال دوغي بمجلة" شعر" التي تعتبر من أرقى المجلات الفرنسية. وهو يقول:” في الحقيقة أن أعشق المجلات. لذلك حرصت على نشر نصوصي في كبريات المجلات الفرنسية. ولا زلت ملازما لذلك. وقد سمحت لي مجلة "شعر" بالانفتاح على التجارب الشعرية المهمة لا في فرنسا وحدها، وإنما في جميع أنحاء العالم. لذلك يمكن أن أقول بإن هذه المجلة كانت ولا تزال مرجعا أساسيا للشعر الفرنسي والعالمي. وأنا فخور جدا باكتشافي لشعراء كانوا مجهولين أو شبة مجهولين عندما نشرت قصائدهم، &ثم أصبحوا يتمتعون بشهرة عالمية واسعة".

قبل أن أودعه، سألت ميشال دوغي:”أية قصيدة من قصائدك تستحضرها في هذه اللحظة؟"

فكر قليلا ثم أنشدني هذه القصيدة الصغيرة التي كتبها من وحي عاصفة في قرية بشمال فرنسا:

عندما تنهبُ الرياح القرية

لاوية الصّرخات

يُغوّر الطائر في الشمس …


&