بقلم سوزان سامي جميل

إلى سما، فيلم وثائقي 2019، من إخراج السورية وعد الخطيب والانكليزي إدوارد واتس.. ليست قصة بل توثيق حقيقي لأحداث شخصية متداخلة بأحداث عامة تنفث رائحة الحرب والحب والخذلان والخوف والجرأة.. فيها قيامة لم يُكتب لها أن تستمر وتعيش.. الفيلم كتب نفسه، واختارت الساردةُ وعد الخطيب أن تحكيه وتهديه لابنتها الأولى سما.
الفكرة (كما نعرف) هي أساس كل الخطوات والإنجازات بغض النظر عن حجمها وأمَدِها، وفكرةُ الساردة الشابة هنا &تبلورت في تسجيل وثائقي عفوي، ولخمسة أعوام متالية، عكَس حالة الحياة المبتورة القدمين واليدين في حلب، والتي عاشت فيها وعليها أجسادٌ وأفكار وقلوب، وتركتْ خلفها تاريخاً قاتماً ممدوداً شائكاً عصياً على الاستيعاب، وماتزال الأرواحُ في فضاء تلك المدينة تبتسم لأماكنها وأزمانها الراحلة وربما تأمل في العودة. الساردة تحمل الفكرة في عقلها وقلبها معاً وتتنقل بها بين عوالم تتطلب عميق رؤيةٍ ونَفَس، فتقفز في النور أحياناً ويسحبها الظلام بقوة في أحيان أخرى، فقد أرادت أن تبرهن للعالم أن السلطة في سوريا تستبيح دماء شعبها وعلى استعداد لمحو مدن بكاملها من أجل ديمومة سيطرتها وديكتاتوريتها. &
لم أجلب قهوتي (كما أفعل عادة) حين أشاهد الأفلام كنوع من الاستمتاع بالمشاهدة، بل جمعت حواسي وضاعفتها كي أدخل في الفيلم، وبدأت أشاهد. كلما فاتتني لحظة، أعود بالسهم الى الوراء لأعيشها بتفاصيلها الصورية والصوتية. لم أرد أن تفوتني شاردة أو واردة من الفيلم الذي كتب عنه الكثيرون والذي فاز حتى الآن بعشرين جائزة بريطانية وعالمية وصار حديث الساعة في مجال صناعة الأفلام الوثائقية. الفيلم نقل المُشاهد مباشرة الى حضن الحياة الحلبية خلال القصف الروسي والسوري على السكان المدنيين، وأظهر المعاناة التي جمعت الحلبيين في بوتقة واحدة وضغطت على أرواحهم وأجسادهم وأفكارهم فأزهقت البعض وشوهت آخرين وشرّدتْ من تبقّى.&
برأيي أن اللقطة الأخيرة من الفيلم كانت كافية لتوضيح فكرة الفيلم كاملة، وهي لقطة فيها مهنية من حيث التصوير والإخراج والدلالة، وعليه أظن أنه ليس من تصوير الساردة بل هو من عمل المخرج الانكليزي إدوارد واتس، والسبب هو الفرق الواضح في فكرة وزاوية الكاميرا في هذه اللقطة عن لقطات الفيلم الباقية، ففي هذا المشهد تظهر الساردة على صدرها ابنتها سما وهي تمشي مرتدية السواد بهدوء حزين وأمل مختبئ بين الأنقاض في حلب المنكوبة، والكاميرا التي تصورها بخط مستقيم تنتقل الى الأعلى وتبتعد تدريجياً حتى تتحول الساردة الى نقطة في هول الركام المروّع في المدينة، وهذا برأيي من أكثر المشاهد تأثيراً في تجسيد فكرة الفيلم.&
البداية لم تكن موفقة كما أرى، حيث المغالاة في الإطراء على الفيلم مقدَّماً (من قبل أكثر من شخصية) والذي ظهر وكأنه دعاية تجارية لاوجوب لها البتة فالفيلم في النهاية سيفرض موضوعه وصنعته إن كان جديراً بذلك، لأن هذه الدعاية في صناعة الأفلام تبلور فكرة الجودة في ذهن المتلقي مسبقاً وتضعه على الخط الذي يريده المنتج أو المروّج التجاري للفيلم.
&صممتُ مع ذلك على مشاهدة الفيلم للنهاية كي أمنح نفسي أوسع قاعدة ممكنة أعتمد عليها في صياغة رؤيتي عن الفيلم ومن ثم الكتابة عنه.
الملفت للنظر أن التصوير تم في أماكن شتى وفي أزمنة مختلفة، وهذا التكنيك أمدَّ المصوّرة الساردة بشئ من التطور النوعي في طريقة انتظار واختيار اللقطة أو الزاوية المناسبة للتصوير كما حصل في تصوير مشاهد المجزرة الجماعية التي تعرض لها طلاب الجامعة مكبّلو الأيدي، أو مشهد قصف المستشفى والغارات المتكررة أو حتى مشهد الطفلين اللذين يبكيان أخيهما الصغير الذي راح ضحية القصف، أو منظر الحياة شبه الطبيعية التي يعيشها الحلبيون رغم الحرب التي فُرِضَت عليهم، أو منظر الأم التي تبكي ولدها وتحمله ذاهبة به لتدفنه، أو إنقاذ المصابة الحامل ووليدها في المستشفى. &
الانتقال بين الأزمنة لم يترك للمُشاهد القدرة على ترتيب الأحداث والتعرف على حقيقة ما جرى بالتسلسل الزمني الحقيقي فترك بذلك فراغات ينشغل بها المُشاهد لملئها وربطها ببعضها واستخراج حقيقة الأحداث التي مرّتَ بثورة حلب. &
كذلك فأن العديد من المشاهد لم تكن فعّالة في حياة الفيلم نفسه، وباعتقادي أن الساردة التقطتها كأي فتاة أو أم شابة توثّق حالات مختلفة تمر بها خلال يومها كتوثيق سلوكيات العائلة والأصدقاء في الأمكنة والمناسبات والحفلات العامة المختلفة، فمثلاً مشهد الساردة في الدقيقة 3:03 وهي تتغنى بحبها لابنتها سما وتغني لها، ثم مشهد تفاصيل حمزة الطبيب الذي ترك زوجته وتزوج من الساردة، أو مشهد حديثها مع أهلها وهي مستلقية في الدقيقة 15 من الفيلم، أو حتى تركيزها المبالغ فيه على تصوير زوجها قبل وبعد الزواج في مشاهد غير ضرورية، أو حتى الحوارين المنفصلين زمنياً واللذين دخلتهما الساردة مع الطفل ابن صديقتها عفراء وطرحت عليه أسئلة لا أعتبرها مناسبة لطفل في هذا السن، أو مشهد ولادة سما الذي أخذ زمناً أطول مما ينبغي، أو حوار عفراء (صديقة الساردة) عن تبوّل ابنتها عليها، أو فرحة عفراء بثمرة الكاكي التي سمّتها المانجو أو المنجا بلغة عفراء، ومن حسن الحظ أن المترجم تدارك هذا الخطأ وكتب بالترجمة اسم الثمرة الحقيقي، أو حتى جلسة السادرة في حضن زوجها في الدقيقة 1:04، أو اعتقاد الساردة أن ابنتها ذات العام الواحد او العامين تفهم كل شئ مما يدور حولها! &
يقول المخرج إدوارد واتس أنه اختار هذه المشاهد رغم أن الساردة تحتفظ بمشاهد أخرى كثيرة تنفع لإضافتها للفيلم، ويقول أنه اختار أن تكون مشاهد الفيلم متناوبة بين الضوء والظلمة، بين الحياة والموت، بين السعادة والحزن كي يبين أن الانسان يعيش حياته الطبيعية رغم الحرب والدمار. & &
سبق وأن شاهدت أفلاماً وثائقية عديدة تفوق فيلم سما من حيث الإخراج والموضوع والعمق الفني كفيلم: حلب.. جمر التحرير 2016 وثائقي الميادين، أو فيلم: كنتُ هناك/ سقوط حلب 2016 وغيرها من الأفلام التي لم تحظَ بفرصتها العادلة لتنال الشهرة العالمية التي تستحقها، لكن نبقى متفائلين بجهود امرأة شابة قررت أن توثّق جرائم الحرب في حلب في كاميرا صغيرة ستعتبرها هي فيما بعد سلاحها الوحيد ضد النظام في سوريا. &

كاتبة ومترجمة/ كندا