في الثالث من شهر فبراير -شباط الحالي، توفي في بيته كامبريدج الناقد والمفكر الموسوعي الكبير جورج شتاينار عن سن تناهز التسعين عاما، تاركا للمكتبة العالبمية عشرات الكتب البديعة في مختلف مجالات المعرفة، خصوصا في الفلسفة والنقد.

وكان جورج شتاينار يتمتّع بجنسيّتين:الفرنسيّة والبريطانيّة، وبطلاقة يتكلّم أربع لغات:الهنغارية،والفرنسيّة،والألمانيّة،والإنجليزية. كما أنه ظل طوال مسيرته المديدة يتنقّل بيسر بين الثقافات القديمة والحديثة، وبين الأدب والفكر والتاريخ ليبلور أفكاره ورؤاه بخصوص العديد من القضايا المتصلة بالخصوص بأوروبا المتحضّرة و"البربريّة" في نفس الوقت.أوروبا التي عاشت أهوال حربين عالميّتين ،وكوارث ومجازر أخرى كادت تقودها إلى الدمار والإنقراض.

وقد ولد جورج شتاينار في فيينا عام 1929.والواضح أن التأثيرات الأولى جاءته من جانب والدته التي تنتمي الى واحدة من أرقى العائلات في العاصمة النمساويّة.وهو يتحدث عنها قائلا:”عبقرية أمي هي التي حدّدت مسار حياتي.فقد كانت تتكلم لغات عدّة مثل الفرنسيّة والهنغاريّة والإيطاليّة والإنجليزيّة.وكان بإمكانها أن تبدأ جملة بهذه اللغة لتختمها بلغة أخرى من دون أن تعي يذلك.وكان لها كبرياء جنونيّ خاصّ،وثقة عالية بالنفس".أمّا والد جروج شتاينار المدعو فريديريك فقد كان محاميا لدى البنك المركزيّ النمساويّ .وكانت له علاقات وثيقة بالبعض من مشاهير الفكر والثقافة في فيينا.ويوم حفل زواجه تلقى برقية تهئنة من سيغموند فرويد.كما أنه كان يكنّ إعجابا كبيرا لكافكا، بحيث لم يكنّ يملّ من إعادة قراءة مؤلفاته. وعندما بدأت النازيّة تهدّد ألمانيا مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، هاجرت عائلة شتاينار الى فرنسا لتسقر في باريس. وكانت الحرب الكونيّة الثانية على وشك الإندلاع عندما شاهد الطفل جورج من شرفة الشقة التي كانت تقيم فيها عائلته،تظاهرات شوفينيين فرنسييّن كانوا يدعون الى مناصرة النازيّين.وفي لحظة ما اقترب منه والده ليهمس له يهدوء:”هذا يسمّى التاريخ..وليس عليك أن تخشى ما أنت ترى!”.وفي ما بعد سيقول جورج شتاينار:”بصفاء ذهنيّ ،توقّع والدي كلّ ما سيحدث في ما بعد.ولم يتفاجأ بأي حدث من الأحداث الرهيبة التي عاشها العالم خلال الحرب الكونيّة الثانية".

وعندما كان النازيون يعدّون العدّة لاحتلال باريس، انتقلت عائلة شتاينار للعيش في الولايات المتحدة الأمريكيّة. وفي نهاية الحرب الكونيّة الثانية ، عبّر الفتى جورج عن رغبته في العودة الى باريس لمواصلة تعليمه، غير أن والده نصحه قائلا:”أنتبه يا ولدي العزيز....المستقبل للغة الإنجليزيّة...وإذا ما أنت فكّرت في أن تكتب ذات يوم كتابا مهمّا فعليك ان تكتبه بلغة شكسبير وليس بلغة موليير!”. وقد استجاب الإبن الرصين لنصيحة والده. وأول كتاب ألفه كان باللغة الإنجليزيّة، وكان عن تولستوي ودستويفسكي.أما كتابه الثاني :”موت التراجيديا" فقد سمح له بأن يحتل مكانة بارزة في مجال النقد الأدبي لا في أوروبا وحدها،وإنما في الولايات المتحدة المتحدة الأمريكيّة أيضا.وفي هذا الكتاب هو يبحث إنطلاقا من أعمال ابداعيّة قديمة وحديثة ،عن الجوانب البربريّة في الحضارة الأوروبيّة التي أشعّت على العالم بعد القرون الوسطى.

انطلاقا من الستينات من القرن الماضي، ويفضل الشهرة التي أصبح يتمتع بها، عيّن جورج شتاينار أستاذا كرسيّ في جامعة "كامبريدج"، ثم في العديد من الجامعات المرموقة الأخرى، مُواصلا الكتابة في النقد، وفي التاريخ ، وفي الفكر الفلسفي. ومحدّدا رؤيته الفكريّة هو يقول:”أنا حتما إبن المفكر الفرنسيّ باندا صاحب كتاب "خيانة المثقفين"،وكتاب "نهاية اللانهائي" الذي أعتبره أجمل وأروع من الأوّل.وهم يقولون بإن إصلاح خطأ في مخطوط لباندا أهمّ من الحيلة ذاتها.وغريزيّا أنا اؤمن بهذه القصّة الحمقاء. هناك رجال ونساء يمتلكون عيقريّة . وفي الآن ذاته هم يعرفون كيف يكونون مبدعين أو مفكرين، وكيف يظهرون قوّة أخلاقيّة وسياسيّة كبيرة. أعلم أنه لن يكون باستطاعتي أن أفعل شيئا للميؤوس من شفائهم، وبالتالي ليست لي القدرة على أن أمسك محتضرا بيدي.وأنا لم أعمل قط في قسم خاصّ بالمعوقين.أمام "طبيب بلا حدود" فقد يكون قد اختار هذا المسار عوض أن يصبح مرشحا لجائزة نوبل للطب، أنا أصمت ، وليس لي الحق في أن أفتح فمي إذ ليست لي القوة، ولا أمتلك الذكاء الذي يحتّمه العمل من أجل إسعاد الآخرين. الذكاء ليس الكلمة المناسبة.أفضل "الغيريّة".في مكتبي الخاص،يحتلّ أرخيميدس مكانا مفضّلا .وقد حذّروه بأنه يمكن ان يقتل.وكان باستطاعته ان يهرب ، إلاّ أنه ظلّ يعمل لحلّ مشكلة لم تحل الى حدّ هذه الساعة .وكان يقول:”آتركوني أعمل في سلام!”.وهكذا قتل".وبعد أن أصدر فوكاياما، المفكر الأمريكي من أصل ياباني ،كتابه الشهير"نهاية التاريخ" ،وذلك عقب إنهيار جدار برلين، علّق جورج شتاينار على ذلك قائلا:”النظريات بشأن نهاية التاريخ تبدو لي عبثيّة، وغير مجدية .نحن حيوانات جدّ عنيدة وجدّ صلبة. ونحن نعاني من كوارث، ونتكبّد خسائر في الأرواح .هذا صحيح.لكن الشيء المدهش هو أننا بعد 100 مليون ضحيّة في أوروبا بين شهر أغسطس -آب 1914 وشهر مايو-أيّار 1945،لانزال هنا جالسين مع بعضنا البعض، معافين تقريبا. ولا تزال الحياة متواصلة الى حين نحن نقول:إنها النهاية.غير أن المؤكد هو أنّ التاريخ يتقدم بسرعة على المستوى العلمي والتكنولوجي لكنه بطيء التقدم في النواحي الأخلاقيّة. مع ذلك هناك عدد كبير من الناس يموتون بالسرطان وبأمراض أخرى.ولا يزال الزكام شرسا مثلما هم حاله في عهد يوليوس قيصر الذي كان يعاني من زكام شبه دائم.ما الذي تغيّر؟ وفي أيّ وقت؟ مع ذلك حين أقرأ مع طلبتي نشيدا من أناشيد هوميروس، أو قصيدا من قصائد باندار، أو مسرحيّة لإريستوفان ،أشعر أنا وهم أننا نعيش نفس الزمن الذي كانوا يعيشون فيه، ومعهم نضحك ونبكي. وإذن يمكن القول ان هناك تغيّرات حدثت لكن على مستوى السطح فقط، أما الروح البشريّة فلم تتغيّر!”.

ويشأن الجانب البربري في الحضارة الأوروبية،يقول جورج شتاينار:”الى حدّ هذا الوقت لا تزال أوروبا ترفض مواجهة جذورها البربريّة .الحديقة الاسرة لغوته تقع بجانب معسكر "بوخنفالد" الرهيب الذي قضى فيه الكثيرون خلال الحقبة النازية. وإذن علينا أن نتساءل عن العلاقة بين تاريخنا الثقافي الهائل، والكبرياء الذي بلا حدود لحضارتنا، وبين البربريّة .وأنا أعتقد أن أوروبا المجسّدة في فلورنسا، وفي سانت بطرسيورغ ، وفي فايمار حملت في طيّات تاريخها السري والعلني بذورا لا إنسانيّة عميقة تتوجب دراستها ،وإستجلاء خلفياتها وتبعاتها".

وإلى جانب الترجمة واللسانيات،والتلاقح بين الثقافات واللغات، إهتمّ جورج شتاينار بالفسلفة، مُركزّا بالخصوص على هايدغر الذي يعتبره من أعظم فلاسفة القرن العشرين ،ومن أكثرهم تأثيرا في التيارات الفلسفية الحديثة. وهو يفسر خطأ إنزلاقه الى النازية على النحو التالي:”عندما علم كارل ياسبرس بأن صديقه هايدغر أصبح من أنصار النازية مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، اندهش ،وصاح فيه:”كيف يمكن وأنت صاحب العقل الجبّار أن يحكم ألمانيا هذا الرجل الخشن؟(يقصد هيتلر).فرد عليه هايدغر قائلا:”دعك من الثقافة ….انظر الى يديه كم هما ناعمتان!”.والحقيقة أن تحمس المفكرين والفلاسفة والمثقفين لمناصرة الطغاة والمستبدين ليس جديدا.فقد تردّد أفلاطون أكثر من مرة على جزيرة صقلية آملا أن يكون في خدمة حاكمها الطاغية، محاولا أن يعثر على تبريرات فلسفية لسياسته،ولقوانين دولته.وأعتقد أن العديد من المثقفين يطمحون ألى أن يكون لهم نفوذ يتجاوز مجالهم المعرفي،ويحررهم من أبراجهم العاجية..لذا هم يتحولون إلى خدم للأنظمة السياسية، غاضيّن الطرف عن جرائمها ومظالمهما.و مسرحية "الدرس" ليونسكو التي تنتهي بأن يقوم الأستاذ بقتل تلاميذه تعكس ما أقول.ولعل هايدغر كان يرغب في أن يشعّ خارج المجال الجامعي الضيق .لذا ارتمى في احضان النازية معتبرا إيّاها "إنطلاقة " الى مستقبل أفضل، وولادة جديدة لألمانيا التي كانت تعاني من نكبة الحرب الكونية الأولى، ومن هزيمتها المرة في تلك الحرب. وعلينا ألاّ ننسى أن الفلسفة في ألمانيا تحتل مكانة بارزة.لذا يمكن القول بإنها بلد افلاطوني ،أي انها بلد يطمح فيه الفلاسفة والمثقفون إلى أن يكونوا فاعلين في السياسة.ولكن لا بد من ان أشير إلى أن السلطات النازية كانت مرتابة من هايدغر.وفي تقرير لاجهزة المخابرات ،نقرأ ما يلي:”هايدغر يظهر تحمسا للنازية لكنه ليس صالحا لها، ولا يمكن أن يفيدها في شيء!”.والمؤكد أنه-أي هايدغر-فقد أمله في النازية فترة وجيزة لا تتجاوز التسعة أشهر.غير أنه لم يتحلّ بالشجاعة لانتقادها علنا.وحتى بعد انهيارها، لم يشأ أن يتدخل في الجدل الذي اشتعل بخصوص إتمائه للنازية".ويضيف شتاينار قائلا:”على أيّة حال ،هايدغر ليس الوحيد الذي أخطأ .فقد التقيت في الصين بمثقفين وجامعيين كانوا يعانون من تشوهات وعاهات جسدية بسبب ما تعرضوا له من تعذيب خلال ما يسمى ب"الثورة الثقافية" التي أطلقها ماوتسي تونغ.وكانوا قد وجهوا في ذلك الوقت رسالة الى سارتر يطلبون منه التدخل لدى السلطات الشيوعية لكي تكف عن المظالم المسلطة عليهم .غير أنه لم يفعل ذلك. بل أنه اعتبر التقارير والشهادات التي أدانت فظائع "الثورة الثقافية " ومجازرها مزورة ،وملفقة ،بل ومن وحي المخابرات الأمريكية!لذا يمكنني أن أقول بإن أخطاء سارتر كانت أشنع من أخطاء هايدغر!”