بقلم محمد جهاد إسماعيل

الديبوك في فكر الكابالا، أو الفكر اليهودي الباطني، هو روح الميت التي تتمرد على عالم الأموات وتعود مرة أخرى للحياة، لتسكن وتستوطن في جسد إنسان حي.
لم يكن الديبوك عنواناً لمسرحية آنسكي فحسب، بل كان أيضاً موضوعها الرئيس، والمحور الذي تدور حوله غالبية أحداثها.

كانت بطلة المسرحية (ليئة) تتهيأ لحفل زفافها الباذخ، وسط فرحة الأهل والأصدقاء، فأطبق عليها الديبوك فجأة، من دون سابق انذار، لقد استلبستها روح الحاخام الشاب (شانون)، الذي كان يحبها قبل موته وطالما تمناها زوجة له. نجح الديبوك (روح شانون) في تخريب حفلة العرس، ليفرق بين ليئة، وعريسها القادم لتوه بصحبة أهله وموكب العرس.
أصابت والد العروس حالة من الصدمة والجنون، فحمل ابنته، وقصد الحاخامات الكبار، كي يعالجوها ويطردوا من جسمها الديبوك.
أخذ الحاخامات يبذلون كل ما بوسعهم لسلخ روح شانون عن جسد ليئة، واستمروا في جهودهم ومحاولاتهم حتى نهاية المسرحية، دون أن يصلوا لنتيجة نافعة.

تتلبد أحداث المسرحية بقدر هائل من الأفكار اليهودية ذات الطابع الخيالي الميتافيزيقي، التي تتناول الغيبيات، والروحانيات، والأمور السحرية. ولا يخفى على القارئ للمسرحية، ذلك الشغف الكبير لآنسكي بفكر الكابالا، وفرقة الحسيديم، وشيخها المؤسس بعل شيم توف. أيضاً ظهرت في أحداث المسرحية - وإن كان بشكل خافت متناثر - بعض الدلالات والإشارات الصهيونية. لقد أرادها آنسكي مسرحية عميقة مشحونة بالفكر، والفلسفة، والخيال، والتصوف، ولم يردها مسرحية سطحية ساذجة.

الكابالا والتلمود
دارت داخل الكنيس حالة من الجدل، بين شانون وشينوك، حول الكابالا والتلمود. فقد وصف شانون التلمود بأنه كتاب جاف، جامد، يجعل الإنسان مكبلاً بالأرض وأسيراً لها لا يفارقها، بينما الكابالا تسمو بالإنسان، وتحرره، وتطير به إلى السماوات العلا والجنان، ليشاهدها بعينه.
شينوك لم يعجبه هذا الكلام، فقد تحدث عن الكابالا ووظيفتها، بشيء من الاستخفاف، وقال إن التلمود هو أساس الإيمان القويم، لأنه يحصن الإنسان المؤمن، ويلبسه درعاً فولاذياً، يصونه ويحميه من الزيغ والضلال.
إذن هو نقاش أو جدل بين عقليتين مختلفتين. عقلية صوفية، ترى أن الكابالا تثري الجانب الروحي، وتخفف من جمود الدين. وعقلية سلفية أرثوذكسية، تنحاز للتلمود، وترى فيه الحارس الأمين للإيمان والعقيدة.

الخطيئة والقداسة
شهدت أحداث المسرحية جدلاً آخر بين شانون وشينوك، لقد تجادلا هذه المرة حول علاقة الخطيئة بالقداسة، فدار بينهما الحوار الآتي:
- شانون: ليس هناك داع لشن الحروب على الخطايا، بل علينا أن نصفيها وننقيها من الشوائب، لنتخلص من جزيئاتها الخبيثة ونبقي على جزيئاتها المقدسة. يجب علينا أن ننقي الخطيئة ونصفيها، تماماً كما يفعل الصائغ عندما ينقي الذهب بتعريضه للهب، أو كما يفعل الفلاح، حين ينظف الحبوب من القش والحصى.
- شينوك: قداسة داخل الخطيئة!!، ما هذا الذي تقوله ؟.
- شانون: كل شيء خلقه الله ينطوي ولو على قدر ضئيل من القداسة.
- شينوك: لكن الشيطان هو الذي يخلق الخطيئة، وليس الله، فكيف تكون في الخطيئة قداسة ؟.
- شانون: ومن الذي خلق الشيطان ؟، أليس الله ؟، ما دام الشيطان من صنع الله، إذن فستكون فيه ولو ذرة صغيرة من القداسة.
- شينوك: قداسة داخل الشيطان ؟، لا أستوعب ما تقول، هذا جنون!!.

رجل المعجزات
تحدث أحد النساك العاكفين على الصلاة داخل الكنيس، عن رجل خارق، مذهل، برتبة حاخام، يقطن في قرية كراسني الأوكرانية. فقال إنه بوسع هذا الرجل أو الحاخام الخارق، أن يصنع أعتى المعجزات. إذ يمكنه اشعال النار بحركة سحرية يصنعها بيده، ويمكنه أن يرى بعينيه أشياء تبعد عنه مئة ميل، كما ويستطيع أن يخرج النبيذ من داخل الحائط بنقرة واحدة من بنانه، وباستطاعته إحياء الموتى، وأن يجعل نفسه غير مرئياً فلا تدركه الأبصار.

دموع الرب
تعجبت ليئة عندما رأت جدران الكنيس متسخة، فسألت مربيتها (فرايد) لماذا لا يهتمون بتلميع الجدران وتبييضها ؟. أجابتها فرايد أن ذلك محرم، فلو اقترب أحد من جدران الكنيس وهم بتنظيفها، ستصب عليه الجدران جام غضبها، وستقذفه بحجارتها. لأن الاتساخ الذي يغطي الجدران هو اتساخ مقدس، هو ببساطة دموع الرب. فالرب يأتي إلى الكنيس يومياً، عند الفجر تقريباً، ويبكي بكاءً حاراً على الهيكل الذي تدمر. لا يبكي الرب في هذا الكنيس وحسب، بل يبكي في كل الكنس وينثر دموعه على جدرانها.

قدس الأقداس
جلس الحاخام عزريل خلف طاولته الطويلة، وأخذ يخطب في عدد من تلامذته وأنصاره. قال الحاخام أن العالم به سبعون أمة، وإسرائيل هي الأفضل بين هذه الأمم، وسبط لاوي هو الأفضل بين أسباط إسرائيل، والكهنة هم الأفضل بين أبناء سبط لاوي، والكاهن الأعلى هو الأفضل بين سائر الكهنة.
أضاف الحاخام أن العالم كله مقدس، وأقدس بقعة في هذا العالم هي أرض إسرائيل، وأقدس مدينة في أرض إسرائيل هي أورشاليم، وأقدس موقع في أورشاليم هو الهيكل، وأقدس ركن في الهيكل هو قدس الأقداس.

الرقص عند قبر العروسين
في بلدة برينيتز هناك قبر مقدس، يدعى قبر العروسين الشهيدين، بداخل هذا القبر جرى دفن عروس وعريسها قتلا معاً، في يوم زفافهما، وهما بثياب الزفاف. حدث هذا الحدث المروع على أيدي القوزاق أتباع خميلنتسكي، الذين هاجموا اليهود وأبادوا الالاف منهم في عام 5408 يهودي، أي 1648 ميلادي.
منذ ذلك الحين وقبر العروسين الشهيدين له قدسية، ورمزية خاصة، لدى يهود برينيتز. فقد أصبح من ضمن عادات الزواج المتوارثة عند يهود البلدة، أن يذهب الناس وقت أعراسهم، للرقص عند القبر المقدس، لأجل نيل بركته، وإسعاد العروسين الشهيدين بداخله.
لقد كان من المفترض أن يذهب المدعوون لعرس ليئة، للرقص عند القبر المقدس، شأنهم شأن غيرهم في هذه العادة، لكن الديبوك تدخل وأفسد العرس من بدايته.

طرد الديبوك
اجتهد كلٌ من الحاخام عزريل ومساعده ميتكويل في محاربة الديبوك، لأجل طرده من جسد ليئة. فقد استخدما كل ما في ترسانتهما من أسلحة، في حربهما مع ذلك العدو الخفي، القادم من غياهب المقابر. لقد استعانا بعشرة رجال، واستعانا بشمشون حاخام مدينة ميروبول، وأمرا بإشعال الشموع السوداء، والنفخ في الأبواق، وترتيل الآيات من لفائف التوراة.
لكن هذا كله لم يجد نفعاً، فقد أخفقا، بل أخفقوا جميعاً، في تحرير الفتاة من براثن الديبوك، ولم يفلحوا في إرجاعها لعريسها، وأهلها، وصديقاتها، وحفل زفافها الذي لم يكتمل.
حمل الديبوك ليئة، مستسلمة، متدثرة في ثوب عرسها الأبيض، وطار بها بعيداً... بعيداً ... بعيداً، نحو عالمه الذي جاء منه.


كاتب فلسطيني