الرسمة: البحيرة الطويلة عند الغسق – فلاح الجاهري- ستكهولم 96

لا صوت لا همس للريح في هياكل الاشجار والعرائش والاكمات حول (البحيرة الطويلة ) الضيقة..
من الجانب البعيد لضفافها تلوح بين عتمات الاشجار الضبابية مخايل لابنية كالحة تبدو مقفرة وكانها هجرت من ازمان بعيدة..
..امشي دون أن احس لا بضربات قدميّ ولا بهسهسة الواح الممشى الخشبي الطويل المرفوع فوق مياه البحيرة..
..اصل الى نهايته واتكيء على السياج الخشبي وانظر دون مرمى او هدف غير ما يتراءى امامي من اشباح وهياكل وظلال ضبابية دون لون او شكل مميز.
..الصدر يضيق والنفس يعسر، وكأن كماشة ضخمة تهصر، لا هيكل الاضلع وحدها، بل الروح الذي تضمه..
.. افتح ازرار القمصلة على سعتها وكذا ياقة القميص رغم برد صباح الربيع السويدي القارس واتزحزح من مكاني الى موقع اخر متشبثا بحاشية السياج لعلي اجد نسمة هواء ادفعها قسرا لتفك حصار الكماشة الخفية من على طوق اضلعي.. افلح في مسعاي اخيرا.. اطلق زفرة عميقة فاحس بارهاق شديد يدفعني الى الالقاء بنصف جسدي فوق حافة السياج..اتشبث بالسياج كيلا ينزلق جسمي كله الى مياه البحيرة تحتي.. بعد لحظات يرخي هذا الوضع المعلق من توتري..
..ارى لمعان اشرطة الضوء المتكسرة فوق مرآة المياه وهي تعكس صورتي المقلوبة المتموجة مختلطة بخيالات الدعائم الخشبية الضخمة الرجراجة.. استعيد وضعي السابق لاتكيء على حافة السياج..
..بي رغبة عارمة للبكاء دون ان اجد سببا يبكيني ولا منطلقا لعبرة حرة تجد مسالها في عينيّ.
..يعاود ضغط الكماشة فعله التدريجي فوق صدري فافتح ازرارا جديدة من القميص واوسع ياقته وابعدها من على رقبتي..اتشبث بالسياج من جديد جاهدا لادفع نفسا من الهواء الساكن الثقيل الى صدري.. اشعر بارهاق شديد فانزلق مستلقيا على الواح الممشى الخشبية العريضة..اسمع صريرها المتأوه من تحتي واتكيء بظهري على السياج من خلفي.. اروح في اغفاءة قصيرة كالغيبوبة.
..كالحلم، يلوح من اول الممشى الخشبي ظلال شبح يتحرك ببطء صوبي.. انهض من نصف رقدتي واقف مستندا على نهاية السياج..اتمكن بيسر اكبر من السابق في التنفس.. امعن البصر.. الشبح لامراة عجوز تدبّ مستعينة بعكازها ويكاد جسدها يطبق عليه بتقوسه.. ابدا بسماع صرير الواح الممشى الخشبية وهو يتوضح اكثر باقترابها.. هذا الجسد الذاوي الاعجف المتقوس والوجه الضاوي بعويناته السميكة لابد انه قد تعدى التسعين من العمر..بل ربما تجاوز المائة..
..انيقة الملبس كأكثر عجائز السويد، بقبعة تظهر معظم خصلات شعرها الفضي المعقوص الى الخلف.
..لا اريد ان اكون متطفلا في متابعة تقدمها البطيء..لابد وانها ستقول انذاك ( يافلا انفاندره را javla invandrera اجنبي لعين )، استدير لأعاود النظر في الفراغ الاجوف الممتد امامي وانا القي بثقل جسدي متكئا على حاشية السياج.
اسمع وقع دبي الخطوات وضربات العكاز الواهية يقترب.. احس بوقوفها على مقربة من ظهري..ثم بحركة تشبه التسلل تصبح على مبعدة ذراعين عن يميني.. اظل على سكون وضعي، مستندا بذراعيّ على السياج ومادا بصري الى الفراغ القاتم المجهول امامي..
.. تصبح فترة الترقب والصمت ثقيلة بعد حين، فادير راسي قليلا صوبها واسترق النظر..
..جسمها النحيف يرتمي بتقوسه على حافة السياج، عكازها الخشبي معلق على احد العوارض قربها.. وجه ضاوي بطيات من الغضون وراء عوينات سميكة متهدلة على الانف المقوس.. عينان شافتا الزرقة..رغم اثار معول الزمن فالوجه معتنى به بلمسات مكياج رقيقة.. الخامسة والتسعين..لا لا.. ربما جاوزت المائة، كل ذلك لم يستغرق عندي اكثر من لحظات من التمحيص الحذر مخافة الا تلحظ تلصصي..
..رحت اسرح ببصري في ضبابية المجهول من جديد وبدأت الكماشه اللعينة تعاود هصرها على صدري و كذا احساس الضياع ورغبة البكاء المتيبس..
- ايها الشاب..!
اهتز كياني كله وكأن الصوت مطرقة ثقيلة سقطت على مقربة مني.. لابد انني انا الشاب المخاطب فلا احد غيري هنا.
-..هل تأتي انت مثلي كل صباح الى هذا المكان، واصلت العجوز خطابها
- بين حين وآخر اجبت بصوت مرتجف مختنق.
- وهل تراقب مثلي كتاكيت البط الصغيرة، عومها في صف منتظم وراء امها، تبدل الوان زغبهم، التقاطهم لغذائهم، تغيّر علاقة الام بهم..كل يوم هنالك شيء يستجد فيهم..
-....
- ثم انظر كيف بدأوا يحاولون وبحذر في الغطس وراء عشبة او حشرة صغيرة.. ثم انظر! الماء والوانه والاعشاب الطافية والطحالب في الاعماق، مواقع زنابق الماء، وريقات اسهم الماء الطافية، وحتى البردي اليانع هنا وهناك من حولهم يتبدل كل يوم، بل كل ساعة..كل دقيقة!! يتبدل بتبدل شعاع الشمس الساقط او الغيمة العابرة.. هل ترى مثلي هذه التفاصيل وكيف تتغير..لا شيء ايها الشاب يبقى على حاله..لعل هذه الكتاكيت الصغيرة التي اراقبها تراقبني هي بدورها وترى التبدل الطاريء عليّ وما حولي.. يا لروعة الطبيعة!!.. يا لروعة الحياة..
-
-
.. تعاود العجوز متابعتها لتفاصيل البحيرة القريبة.. ثم تسرح ببصرها الى ابعاد البحيرة فتمسحها بسكون المتعبد
اسمع زفرة رضى طويلة التفت فارى العجوز تمسك بحافة السياج بكفيها لترفع راسها الى السماء قدر ما يسمح بذلك جسدها المتقوس، ثم بصوت مرتفع نشوان :
Tak goden for den extra momenten som jag liver

( شكرا لك يا ربي على اللحظة الاضافية التي اعيشها )
انتفض جسدي كله واخذتني رعشة احسستها تسري من شعر راسي الى قدميّ.. اصحو وكانما من غيبوبة كدرة لارى ضوء الشمس الباهر..اكتشف ضوء الشمس لاول مرة.

-الى اللقاء ايها الشاب
استدير فاحييها بابتسامة وانحناءة وهي تدب ببطء متجهة صوب مدخل الممشى
.. تابعتها حتى اختفت في غابة الزان وراء مدخل الممشى..اختفت كما بعصا ساحرة خفية كاختفاء احزمة الشمس المتسللة بين وشاحات وريقات الزان الطرية الخضراء المصفرة المتراقصة في الغابة.
..غشت عينيّ بهرجة الوان الغابة المتلامعة وانا لا ازال ماخوذا بالجنية العجوز القادمة من حكايات (اندرسون ) الاسكندنافية فعدت مبتسما الى موقفي السابق من السياج واخذت ادير بصري في مجالات البحيرة، يمينها بغابة السنديان الكثيفة المرصعة باكمات من الزعرور واوراد اشجار التفاح البري ثم لانتقل ببصري بدهشة الاكتشاف الاول..ها هي أحراش الجانب الاخر وغابته الصنوبرية عاتمة الزرقة تتسلق المرتفع الصخري..خرائط غيمات شافة تسبح فوقها..هنالك ابنية ملونة تتسلل من بينها لتطل على البحيرة تتلألأ نوافذها باشعة الشمس المنعكسة.. انها بعض مساكن الصفوة الموسرة.
..سطح البحيرة سماوي الزرقة تتخله خرائط زرقة داكنة وبقع ارجوانية تطفو كالنمش فوقه.. كل شي ساكن فوقها..
..يتصاعد ضجيج خفق بجعة وانتفاشتها وطرطشتها للمياه تحتها..يرتفع جناحاها كشراعين ابيضين منتفخين برياح الاقلاع.. يمخر قارب البجعة بجلال وتصميم صوب انثاه العائمة قرب الضفة الاخرى.
.. نوارس تحوم مطلقة نداءاتها بصخب واخرى تستجم في خمول على الضفاف.

-..كواك..كواك..كواك..
البطة ذات الصدر الكستنائي والجناحين المخضرين المزرقين الزمردين، ومن وراءها كتاكيتها الزغبية اللعوبات السابحات خلفها بصف منتظم، تسأل بغضب من تحتي :
_ كواك ؟ كواك ؟..اليس لديك شيء يرمى للاكل ايها المشاهد البخيل..هل هو عرض مجاني ؟!
_ آسف ايتها الغادة الحسناء.. لقد كنت غبيا اذ لم احمل معي إلا حبوب علاج الكآبة.. اعدك اني سآتي غدا وبعد غد..بل كل يوم ومعي ما يلذ ويطيب..
..تستدير البطة وتتجه صوب الجرف وخلفها الصف المنتظم السابح بعبث..عند الجرف الاعشاب والعناكب والحشرات الطافية اكثر كرما من هذا البخيل المتطفل!
اراقب بتمعن مسيرة البط وهي تتسلل بين سيقان القصب والصفصاف المائي الطري وبين الزنبقات البيض واسهم الماء الكبيرة الخضراء..تلوح من تحتها الطحالب والاشنات الملونة التي تقضم في شعيراتها الرجراجة اسماك صغار..بعضها يتلاصف بالوانه فيضيع في المهرجان المائي العميق.
لا اعرف كم قضيت من الوقت وانا مسحور بما ارى تحتي وحولي قبل ان اعود الى سكني،ولا اعرف لم كان علي ذلك، اتكئت على السياج ومسحت بعيني وروحي الجذلى، البحيرة وتفاصيلها بنظرات سريعة..
.. اخرجت من جيبي حفنة من حبوب مضادات الكآبة..
..بدأت القيها واحدة تلو اخرى الى مياه البحيرة وانا اضحك
_ لعل هناك سمكة غبية كئيبة تحتاجها!
خطوت بعزم ونشاط فوق الممشى المعلق صوب غابة الدردار وانا ادندن بنغم سويدي مرح، حين وصلت لنهاية الممشى، اتجهت الى اقرب جذع كبير، استدرت واتكئت عليه والقيت نظرة اخيرة على (البحيرة الطويلة ) وصرخت بصوت عال نشوان :
_ Tak goden for den extra momenten som jag liver