.. عجبا لأمر ديفيد! كل ضغط مهما بلغت شدته قاصر عن النيل من خياله، ذلك المارد ذو الجماح الشارد.. سلاحه في ذلك ذاكرة حديدية، وقلب سليم.. أو عليل، بحسب موضع الناظر، إذ يصعب حسم ماهية الرقم الشهير بين شخصين، أستة هو أم تسعة!
لقد وجد ديفيد متسعا وسط تركيزه الشديد، وصرير قلمه الذي يقفو أعقاب أقوال هذا الجالس أمامه، مع ما يفرضه ذلك من فك شيفرة وإعادة ترتيب الأسئلة أو تعديل صيغها، ليعود بعيدا إلى الماضي متذكرا لعبة "الإجابات والصفعات"! يقرر صبيان اللعب، من يُجب يَصفع، ومن يَعجز أو يُعَجز يُصفع.. على أن الأمر لا يدوم طويلا، إذ سرعان ما تشب نار الخلاف بين الضحية والخصم الذي تقمص دور الحكم، فتستحيل الصفعات لكمات، وتختلط الأمور، وينضم المتفرجون للعراك، ثم ينتهي كل شيء.. كذلك "الطبيعة البشرية" كما قال عنها كوفيد، وبلا شك أن للمقابلة هاته نهاية.. لكن السؤال الصحيح الصريح هو: ماذا عن الوضع ككل؟
سحيقة هي الهوة التي يهوي إليها هذا الثلاثيني حتى يتسنى له معالجة الواقع، والواقع أنه منذ دخل الغرفة لم يعد يسمع شيئا آخر مما خلف الباب المغلق.
صحيح أن ذاكرة الأماكن عند ديفيد شبه خربة، لم تسعفه يوما أو تغنه في شيء.. كان عليه أن يمر من الطريق عشر مرات، ثم أن يطلب حظه العاثر ألا يخطئه في المرة الحادية عشرة، ولطالما سخر منه زملاؤه بسبب ذلك وتنذروا طويلا فقد اعتبروا الأمر نقطة ضعف معيبة جدا. لكن، إن استثنينا هذا النوع من الذاكرة وانصرفنا عنه لتفقد بقية أنواعها فسنرى عجابا: ذاكرة تحفظ الأسماء ووجوهها، والألحان وملحنيها، والأصوات وأصحابها، والعبارات وكاتبيها، والأطعمة وأطبقاها. بل حتى إنه كان يتمتع بأنواع غريبة من الذاكرة، كذاكرة الروائح، فإن صادف خيشومه رائحة سبق وأن شمها، وإن كان ذلك قبل عشرين سنة أو يزيد، تذكرها جيدا، وليس هذا فحسب، بل وتذكر تفاصيل تلك اللحظة، وكل ما قيل خلالها من كلام، وكل الأحاسيس التي تنازعته حينها.. وإلا، كيف تظنون أنه كان لينجح في ضبط ذلك؟! هنالك كان زملاؤه يخرسون، فيكتفي بابتسامة رضى وشيء يسير من سخرية إذا لاحظ أحد زملائه وهو يجد صعوبة في تذكر شخص رآه، أو في نسبة قول ما إلى صاحبه. فكان يغيثه مجيبا بسلام داخلي، تماما كذاك الذي عبر عنه أعمى لم يتحرج ديفيد في سؤاله ذات يوم عن الطريق فدله بدقة عليه كأي مبصر أو حتى أفضل، فكان يذكر تعابير وجهه بكل دقة وسرور.
حين دخل ديفيد وألقى تلك النظرة الأولى على مخاطبه سجلت ذاكرته فورا شيئا ما، وبدأت للتو في استعراض الفرضيات.. وهذا لا يتناقض في شيء مع ما سلف، فقد كان "صاحب الجثة الجديد" ماكرا بما يكفي ليجلس والنافذة الزجاجية الكبيرة التي نزعت ستائرها خلف ظهره، تتواطأ أشعتها التي يستقبلها ديفيد بوجهه مع ضغط الحدث لتثقله عن تذكر صاحبها الذي استأنف حديثه بالقول:
- عددكم أصبح كثيرا جدا، وتثيرون ضجيجا أكثر!
- إن قضيت علينا جميعا فأنت وحدك من سيستمتع حينها بصوت الصمت!
- إنك يا سيد ديفيد تخاطبني بمنطق المحقق الذي يريد انتزاع اعترافات من مجرم ألقي عليه القبض.. ألا تملك منطقا غيره؟! فهذا لن ينفعك في شيء، لقد مرت شهور طويلة وأنا في الساحة، ولو كان ضجيجكم هو كل ما يهمني لقضيت عليكم في أيام فقط.. الآن بدأت فكرة كهاته تثبت في أذهانكم، ألا يوحي لك ذلك بشيء؟!
- استهانت أغلب الدول بالموضوع في بداياته، لكن العلماء الآن يقومون بأبحاث مكثفة وبصفة آنية لأجل...
- "إيجاد لقاح".. يقضي علي! دعك منهم، فكل ما يعرفونه وما هم مجمعون عليه هو أنهم لا يعرفون عني شيئا بعد. دعني "أعترف" لك بشيء، ما دمتم يا بني البشر تعشقون منطق الاعترافات، لا سيما وإن كانت قسرية.. أليس كذلك؟! اللعنة.. سأخبرك عن سر الرقم 19 اللصيق باسمي:
كنت، وأنا أصغر أفراد الأسرة، محط سخرية من أقراني، كنت حينها بريئا، أي مثلما تدعون أنتم الآن أنكم كذلك، فكانوا ينعتونني بـ"المدلل"، وأني أستقوي بأسرتي التي لا يجرؤ الكبار حتى على المزاح مع أفرادها الذين يكرهون، أشد ما يكرهون، إضاعة الوقت، فيلجؤون رأسا إلى سلب الحياة، وطبعا لا يمكن المزاح مع الموت ولا الغش فيه. فقلت في قرارة نفسي حينها: حسنا، إن كان هذا ما يعيبه علي الأقران سأريهم من أكون. فكنت أذهب بعيدا في المدينة، أقصد الأحياء التي لا يعرفني فيها أحد بعد وأفتعل شجارا ما، ثم أستمتع بإطالته وبمراكمة عدد الجرحى إلى حين موعد قدوم الشرطة، فأنسل وسط الزحمة قافلا. ليشيع الخبر في اليوم الموالي بين أقراني وهم يسمعون، لا يكادون يصدقون، كيف أن "غرا" ذهب فردا أعزل واستطاع مواجهة الفتيان والشبان وحتى الكبار المسلحين بالمِدى والعصي وكل أنواع الأسلحة، ما عدا النارية، فكل ما كنت أتسلح به هو ضمادات سميكة ألفها على أصابع يدي حتى لا تزف فتعيق عملي، فأنا أعشق الأعمال اليدوية، واستمر الحال بعدها على هذا المنوال إلى أن بلغت السابعة عشرة من العمر، وحينها كانت شهرتي قد طبقت أجواء المدينة لهذا السبب الأخير، وأيضا للسبب الأول، فكنت أجد صعوبة في تجديد "إثبات الذات". إلى أن جاء اليوم الذي سمعت فيه مصادفة عن الإخوة الثلاثة الذين سكنوا حديثا إحدى الضواحي القصية، كان ذلك من أحد الفتية الذي كان يخبر أبناء حينا عن قوة هؤلاء الأشقاء، وليصفها قال إن أصغرهم قادر بسهولة على
القضاء علي. فقلت وأنا أقف خلف الفتى، الذي أطلق ساقيه للريح فزعا ما إن استدار ورآني: جيد جدا، أضع الثلاثة في طبق واحد فأنا جائع! ثم توجهت في اليوم الموالي إلى تلك الضاحية، فوجدت بداية الأخ الأكبر جالسا في الطابق الأول من بيت قامت للتو دعائمه، يتقي شمس الظهيرة، فلقد كان يدير ورش بناء، فالتقطت حجرا لا بأس به وقذفته صوب وجهه، وقد كنت بارعا في التصويب، ليستقر كلكمة على خد الأخ الأكبر الذي كاد يقع من على كرسيه من شدة الضربة، وما كاد يبرز مطلا ومستشيطا حتى لوحت إليه بيدي قائلا بصوت عال ومستفز: أأقف هنا في الشمس وتجلس أنت في الظل.. أجبان ووغد في آن؟! فكاد يجن من شدة الغضب، إذ قفز مباشرة راكضا في اتجاهي، معرضا عن الدرج، وقد كان ضخما قوية البنية، فشتت توازنه بحركة جانبية من إن أراد استعادته بعدها حتى عاجلته بركلة قوية ومباشرة في الوجه تراجع بقوة من شدتها فعثر وأزاحت جثته الضخمة أحد الأعمدة فسقطت لبنة أعلاه رأسا على رأسه، فخر مغشيا عليه. وقد لاحظت أخاه بالجوار عند صراخي، فما إن رأى أخاه صريعا حتى ركض هو الآخر باتجاهي، وكان يشبه أخاه في كل شيء، عدا أن حركاته كانت أكثر رشاقة، فتطلب الأمر مني كثيرا من المراوغة ودستة من الضربات والركلات لأتركه في نهاية العراك شبه عاجز عن الحراك.. وأنا أستعد لأوجه له ضربة قاضية، تعرضت لدفعة قوية من الخلف، لأنزلق طويلا على الوحل الذي سببه صنبور ترك مفتوحا، لدرجة أني وجدت حيزا كافيا لأتوقع أن الأخ الثالث قد وصل أخيرا، وكذلك كان. لقد كان أقل شبها بأخويه وأصغر سنا منهما إذ كانا في نهاية العشرينات، بينما كان هو في مثل سني، وذا بنية تستبطن القوة أكثر مما تظهرها، وما إن بدأنا العراق حتى تبينت السبب، فغريمي ملاكم محترف، وما إن أوقف الجدار تزحلقي بارتطام عنيف حتى نهضت متوجها إلى غريمي، الذي كانت ملامحه تحمل لمحة خاصة من القسوة، أذكت نارها كراهية متقدة على هذا الغريب الذي قضى في وقت قياسي وبمفرده على أخويه، فحييته ساخرا وممتنا في آن: أصيل أيها النبيل! فقد كان بإمكانه القضاء علي بضربة غادرة، لكنه اكتفى بدفعي، ولولا الأرض الزلقة لما أصبت بخدش، غير أنه لم يكن لنبرة صوتي أثر يذكر على ملامحه المتوعدة لي بالويل، فانطلق في هجوم محموم ومتقن، ولم أتلق قبل ذلك اليوم ولا بعده كل ذلك القدر من اللكمات، ولولا سرعتي التي ساعفتني في اجتناب بعضها، وبنيتي التي ساعدتني على تحمل أكثرها، لقضى علي. كانت لكماته قاتلة، وقد استطاع إصابة وجهي ثلاث مرات، فقلت في نفسي إني لن أنجو في مجاراته، وإن علي إيجاد نقطة ضعف لدى هذا الخصم الشرس، وأنا مكب على حماية وجهي بذراعي من سيل اللكمات هذا، وإذ بفكرة تبرق في ذهني استجمعت لها كل سرعتي وقوتي، فقمت بحركتين جانبيتين حادتين، وما إن أراد الملاكم مجاراتي في الثانية حتى أمسكت ساقه وأزحت الأخرى عن الأرض بقدمي فسقط على ظهره، وكنت مدركا أنه إن وقف مرة أخرى سأكون في عداد الأموات، وكان لدي ثانيتان فقط لا غير وأنا ممسك بساقه، فركزت كل قوتي عكس اتجاه طي الرجل فخلعت ركبته، ليطلق صرخة مدوية وأنا أشدها ملقيا به جانبا وهو يتلوى من شدة الألم، أما أنا فقد كنت ألتقط أنفاسي محاولا كف النزيف الذي لم يتوقف من جانب عيني اليسرى، ومن أنفي، وحين أردت التوجه إلى غريمي، الذي لم يعد قادرا على الوقوف، قصد رد الدين وتزين وجهه الذي ظل سليما، إذا بيد ثقيلة تقع على كتفي وصاحبها يقول لي بغلظة: توقف. لقد وصلت الشرطة. ومن المخفر إلى المحكمة، وبين هذا وتلك حاولت أسرتي إصلاح ذات
البين مع الإخوة الثلاثة الذين رفضوا ذلك رفضا باتا، إذ لم يفق الأخ الأكبر من غيبوبته إلا يومين فقط من إصدار الحكم الذي قضى بسجني سنة نافذة، إضافة إلى ثلاثة أشهر من الأعمال الاجتماعية.
وإلا، فقد كنت سأزوركم صيف سنة 2018 وعمري 18 سنة، وليس نهاية 2019 وعمري 19.
- من تأمل في هذا سيقول إن "مجيئك المتأخر" هذا هو امتداد لتصريف عقد نشأتك النفسية؟
- تخليك عن منطق المحقق، وتبنيك منطق المحلل النفسي، لن يغير شيئا أو يكشف لك عن أي شيء. صحيح أن عوالمنا متشابهة، غير أنها متوازية فقط، لا تلتقي، وإن توهم نظرك ذلك.. هو خداع مفاهيمي، كما الخداع البصري في اتصال خطي سكة الحديد، دون التفكير في أن ذلك خروج عن بدهية المسافة بين عجلات القطار، والذي لن يصل إذا التقيا!
- وصفت، مُجمِلا، السلوك الإنساني الجماعي بالسخف. معترفا إلى ذلك بوجود نماذج منيرة ضمنه تصنع التميز والاستثناء، أفلا يكون هذا العقاب الجماعي الذي تسلطه علينا ظلما لهم، ويكون بذلك هذا الظلم سُخفا منك؟
- يكون كذلك بمنطقكم أنتم، والسؤال هنا هو: متى كان منطقكم سويا صالحا للاعتداد به؟! قلت إن عددكم كبير وضجيجكم أكبر. ولكي أبدأ الدرس، كان لا بد أن يغادر البعض الفصل الذي لم يعد يسع الجميع! بعدها علي إخراس البقية الذي جاهروا بالسخرية مني، بل وبنفي وجودي حتى! بعد ذلك أبدأ، فأنا لم أبدأ بعد.. وعلى ذكر العلماء، والذين لا يسلمون هم أيضا من تسفيهكم إياهم، فقد صرح البعض منهم أن ضجيجكم لن ينتهي قبل سنة ونصف أو سنتين.
- ما قيمة درس ثمنه حياة من لا ذنب لهم؟
- القيمة والثمن والحياة.. حسنا، إن البشر يميلون إلى كراهية ما يجهلون.. بدل أن يحاولوا الفهم، والفهم قيمة عليا في حد ذاته لو أنكم تعلمون. ماذا عن قيمة الإنسان فيكم يا بني البشر؟! لقد أصبح مجرد رقم مضاربة لدى سماسرة الاقتصاد. ولكي تنتبهوا للدرس، وحتى تميزوا معنى كلمة "ذنب" فإن روحكم ليست أبدا غالية كما تحسبون.. ودعني من ادعاءاتكم، فإن كل ثانية في هذا الدرس الإجباري ثمينة جدا، ليست أبدا روح أحدكم أغلى منها. أما الحياة- حياتكم- فإنها وإن كانت في الغالب تبتدأ بقبلة، فهي دائما ما تنتهي بقبر.