د. لطفي عيسى من أبرز أساتذة التاريخ الثقافي بالجامعة التونسية. وقد له صدرت العديد من البحوث والدراسات التاريخية في اللغتين العربية والفرنسية من بينها: "أخبار المناقب..."، ومميزات الذهنيات المغاربية..."، و"السلطة وهاجس الشرعية في الثقافة الإسلامية" (بالاشتراك)، و"مغرب المتصوفة" (في طبعتين)، و"كتاب السِّيَرِ..."، و"بين الذاكرة والتاريخ..."، و"في التَوْنَسَةِ"، و"أخبار التونسيين"... وغيرها من المؤلفات الأخرى.
كما نشرت له دراسات، وكتب جماعية، ومقالات علمية، وعروض نقدية، ووجهات نظر مواطنية، وحوارات مكتوبة ومرئية، ومقالات فكرية، بالعديد من الدوريات العلميّة والثقافية والصحف والمجلات التونسية والأجنبية. كما قدّم العديد من المحاضرات بدعوة من جامعات أجنبية. وإلى ذلك يساهم منذ سنة 2011 في تأثيث مدوّنة رقمية تُعنى بتاريخ المغارب الثقافي وبواقعه الراهن السياسي والفكري والفني. عن الجوائح والكوارث كان لنا مع د. لطفي عيسى هذا الحوار:

سألت د. لطفي عيسى: عرفت البلاد التونسية العديد من الجوائح خصوصا خلال القرن التاسع عشر. وقد اقترنت تلك الجوائح بأزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية ... كيف كان ذلك؟
فأجب قائلا :هذا صحيح تماما، فقد شهد تاريخ البلاد التونسية عدة جوائح خضع معظمها إلى تلازم الأوبئة مع المساغب والحروب، وهو ما نخل معظم الفئات الاجتماعية والعُمرية، وحال دون حصول نُقلة ديمغرافية تسمح بالخروج من واقع الهياكل الديمغرافية الطبيعية، وذلك حتى موعد حضور إدارة الحماية الفرنسية وإنفاذ الإجراءات الصحية التحفظية قبل إنجاز أول إحصاء للسكان منذ قرن أو يزيد، في حدود سنة 1922.
فقد عاين القرن التاسع عشر ما لا يقل عن أربع جوائح صحية متعاقبة، تلتها مجاعة صادمة بقي صداها المرعب قائما في الذاكرة الجماعية للتونسيين حتى زماننا الراهن. وانطلق ذلك بـ "الوباء الكبير" لسنة 1784م، فطاعون الريح الأصفر (أو الكوليرا) الوافد من الحجاز سنة 1849م، ثم طواعين سنتي 1856م و1867م ومجاعته القاتلة والفاحشة"...
ويواصل د. لطفي عيسى حديثه قائلا :غير أنه يمكن العودة بتاريخ الأوبئة تونسيا إلى حملة لويس التاسع الصليبية على تونس سنة 1270م، وطاعون سنة 1348م الأسود أو الأسمر، الذي تلته لاحقا موجتان وبائتان في حدود سنة 1468م وخلال سنة 1494م. ليعيد الوباء الكرة مجدّدا سنة 1573م وسنة 1592م، وتعرف بقية الفترة الحديثة عدة أزمات صحيّة طوال القرن السابع عشر على غرار: "وباء بوريشة" سنة 1605م و"وباء أبو الغيث القشاش" سنة 1622م. فأوبئة سنوات 1642م و1643م و1650م و1663م و1676م و1689م و1701م و1705م، قبل أن تعاين البلاد هدنة وبائية امتدت على معظم القرن الثامن عشر، لم يقطعها سواء "الوباء الكبير" بداية من سنة 1784. وهو وباء معضل عاين ثلاث موجات حصلت ثانيها سنة 1794م وثالثتها سنة 1800م.
ولم تمر مختلف هذه الأزمات دون صراعات سياسية حادة نجمت عنها اضطرابات كبيرة بين مختلف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين أيضا. كما احتدت خلالها تأثيرات عسكر الأتراك بالجزائر السلبية على واقع التونسيين الصعب، حتى التصق بمخيلتهم الشعبية أن كل ما يفد من التخوم الغربية للبلاد لا يمكن إلا أن ينتهي بدمارها: "إلي يجي من الغرب ما يفرّح قلب". فقد تعاقبت على البلاد التونسية الأزمات السياسية والاجتماعية بين سنوات 1591 و1614و 1628 و1675 و1702 و 1728– 1756 و1814 و1835 و1864 وغيرها كثير...

وكان سؤالي الثاني للدكتور لطفي عيسى هو:
كيف كانت مواقف رجال الدين منها؟

فأجاب: لم تخرج مواقف رجال الدين عن نظرة التسليم بالقضاء مصداقا لما جاء في الحديث النبوي "إن هذا الوباء رجس أهلك الله به بعض الأمم وقد بقي في الأرض منه شيء يجيء أحيانا ويذهب أحيانا...من مات به فهو شهيد مآله الجنة شريطة أن يكون مُسلما". كما نهى المشرع عن الهروب منه فقد "صحّ النهي عن الخروج من البلد الذي وقع فيه الطاعون...[لذلك] فالأولى فيه التسليم وامتثال ما أمر به النبي". لأن المرء "لا يُصبه إلا ما كتب الله له". وبما أن الطاعون قد عدّ مرضا من الأمراض فالدعاء والتضرع إلى الله كفيل برفعه.
وبالمقابل عاين الأطباء القدامى أعراض الوباء، معتبرين أن من أسبابه "فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومَدَدِه". كما وصفوا بشكل دقيق مختلف أعراضه وأشكال تطوّرها، غير أنهم لم يميّزوا بشكل دقيق بين "الطاعون" و"الريح الأصفر" أو الكوليرا، تلك التي استبدت بجوائح القرن التاسع عشر تونسيا.
ومهما يكن من أمر فإن الجدل حول أشكال الوقاية أو التحوّط من المرض قد أخذ وتيرة عالية منذ بداية القرن السابع عشر، حيث احتلت مسألة العزل الصحي وحجر الوافدين الأجانب ومراكب نقل الحجيج موقعا بارزا ضمن ما تناقلته المصادر التاريخية وكُتب الفقه أو "النوازل" وآداب التصوف والمناقب أيضا، وذلك في أنظار صدور أوامر البايات الحسينيين لاحقا بالالتزام بالحجر أو "الكرنتينة"، وحرق أمتعة موتى الوباء وكسوة بيوت ضحاياه، وغسل الغرباء بالمقابر، وسجن المرضى بمخازن الفخاريين أو "القلالين" بمدينة تونس"...

أما عن الطرق التداوي عن الأوبئة فيقول د. لطفي عيسى :
تمّ التعويل في التداوي على "القيء والحجامة واستنشاق بخار النباتات الفائحة". ولما "اشتد الخطب بالناس، ونزل بفقراء اليهود، وفرّ القريب من قريبه، أحضر لهم [الباي] القشلة (أي الثكنة)، ونقل إليها المرضى وأجرى عليهم الجرايات وتطوّع لمداواتهم الأطباء" مثل الإسباني "مصكرو" والقرنيين (نسبة إلى ليوفون الإيطالية) "يونس فايس" و"مُنياييني". كما شمل الوباء سنة 1867م العسكر، وخاصة "محلة زروق"، وهي فرقة عسكرية وجبائية عقابية وَلَغَتْ بإفراط لا حدود له بجهات الساحل التونسي. و"اشتد الخوف والذعر بأهل هذه الإيالة، التي "ابتلاها الله [وفقا لما حملته شهادة مؤلف الإتحاف ابن أبي الضياف] بالخوف والجوع ونقص في الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين".
فقد عاينت سنة 1867 المكناة ضمن كتاب الأخبار بـ "السنة الشهباء" حلول جحافل "العربان" المحسوبين على قبائل الدواخل وعروشها بالحاضرة تونس، فغصّت بهم الشوارع، وتفرّقوا على المزابل يلتقطون الحشيش (أي الأعشاب)"، فتكدّر عيش أهل المدينة و"حنّت لهم قلوب الوافدين من النصارى وأكثروا من الصدقة عليهم". و"هجم البرد عليهم وهم حفاة عراة حتى قيل لهم: "الله يعرّي من عرّاكم"، و"فشا فيهم الموت بالطرقات وتعفنت البلاد". وجاء أمر الباي بنقلهم إلى ما بقي من خرائب قصور ضاحية المحمدية قرب تونس.
"ومات [وفق ما نقله صاحب الإتحاف دائما] نصف أهل الإيالة بل ثلثاها، جوعا وعفنا، حتى عجزت الناس عن مواراة الموتى، فصاروا يجعلونهم في مطامير خزن الحبوب لفراغها، دون ما أكلته الوحوش والكلاب"...

سألت د. لطفي عيسى:
ما هي أهم الدروس التي استخلصت من تلك الجوائح، فقال :

ليس هناك ما يدل على اتسام تصرّفات الحكام ورعاياهم بحضور اتعاض حقيقي ممّا شهدته البلاد طوال تاريخها من الإحن أو الشدائد، إذا ما استثنينا طبعا الإجراءات التي رافقت مراحل حكم بايات الإصلاح الثلاثة (أحمد، ومْحَمد، والصادق)، وخاصة الدور المحوري الذي عاد للنخبة الإصلاحية بقيادة خير الدين التونسي (1820 – 1890). كما العمل الرائد الذي عاد للمجلس البلدي بتونس و"ضبطيته" في عضون ستينات القرن التاسع عشر.
غير أن ما أقررناه لا يعني غياب التحفظ بالكامل، فقد كشفت المصادر وفي أجناسها المتعدّدة عن حضور وعي حقيقي بضرورة الالتزام بالتباعد الاجتماعي والحجر الصحي وخاصة لدى أعيان البلاد ونُخبها، بينما اتسمت تصرفات غيرهم على الغالب بالتقصير واللامبالاة بالمرض والإصرار على نقل العدوى، كما لا نزال نعاني تبعاته غير المسؤولة راهنا"..
علينا أن نكف عن كتابة تاريخ تونس، ونعكف على كتابة تاريخ التونسيين

وكان سؤالي الأخير للدكتور لطفي عيسى هو :
تعيش تونس أوضاعا صعبة على مدى عشر سنوات الماضي، حتى أنه يخيل لنا أن التاريخ معطل أو هو يعود إلى الوراء...كيف ترى إلى ذلك؟

فأجاب: أنا من أولئك الذين يعتقدون أننا نعيش فرصة تاريخية ورطتنا فيه منذ عشرية أو تكاد وقائع سنة 2011 وما قبلها أيضا. وهو ما يقتضي بالضرورة تعهّد الحكاية الجماعية بالمراجعة واكسابها مضامين منسجمة مع النقلة التي استعصى علينا انجازها. فالمضمون السياسي للمرْوية الجماعية للتونسيين متّصل بمنجز الدولة البورقيبية أساسا، وهو منجز يُعلي من قيمة التدبير العقلاني للشأن العمومي إدارة، وجباية، وجيشا جمهوريا، وتقسيما إداريا، مع التمسك بتجميع الإرادات حول مشروع وطني موحد يحرّر الطاقات، وذلك ضمن تصوّر يلتزم باحترام المعايير والقيم الناظمة للذهنيات، تلك التي خضعت ولا تزال إلى علاقة عمودية بالشأن الروحي. في حين أن حاجيات المرحلة الجديدة المتصلة أساسا بضمان الحريات ومن أوكدها الحريات الفردية، تفترض رفع تحدي عويص من الصعب، حتى لا نقول من المستحيل رفعه، بالتعويل على نفس تلك المعادلة التي انتهى الفصل فيها ولم تعد قابلة لإعادة الإنتاج بشكل مستمر، بعد أن وصلت موضوعيا إلى حدود إيجابياتها. وهو ما يتعين الاعتراف به صدا لكل هروب إلى الأمام. فقوة الشعوب تكمن في تعويلها على فكرة نخبوية (بمعنى فكرة ملهِمة) يتمّ لاعتبارات متشعبة تبنيها من قبل قاعدة واسعة من الناس. لذلك ينبغي علينا التفطن لجميع أشكال النكوص أو الارتداد باتجاه إعادة انتاج مضامين "الحداثة التونسية" المعوّلة على فكرة "الأصالة والتفتّح"، وهي مضامين تحوّلت بالتقادم إلى ما يشبه الإيديولوجيا السائدة للدولة الوطنية. فكلّ قراءة لتاريخنا البعيد أو القريب يتعيّن أن تصرف همتها للكشف عن تاريخ التونسيين، لا مواصلة الحديث عن تاريخ تونس. وهذا من شأنه أن يفتح أمامنا إمكانية التقييم المبني على قاعدة المسافة بين ما جدّ ماضيا وما نحن بصدد عيشه حاضرا.
فكلّ حديث عن الفرد يقتضي موضوعيا أن نشتغل ومن وجهة نظر منهجية، على جملة من الأبعاد المتضامنة. أولها: ربط ردود الأفعال بعقلنة التدبير وعدم الاسراف في تحويل الفاعلين التاريخيين إلى أبطال خارقين أو تأثيمهم وتخوينهم على العكس من ذلك، واعتبارهم مصدرا لكل شرور العالم. هذا النوع من التقييمات بوسعه أن يفتح بصيرتنا على حقيقة لا تبدو ماثلة للعيان حاضرا، مؤيدها أنّ كلّ بطولة بالمعنى الذي حدّدناه بوسعها أن تنزع، - وهذا مُثبت علميا- إلى التعبير عن نفسها بطريقة مرضيّة. ومعنى ذلك أن كلّ ما يوضع في خانة البطولي لا يمكن أن يفهم إذا لم نُدرك أنه متفاعل بالضرورة أخذا وعطاء مع رصيفه المَرَضِي.
فبورقيبة مثلا لم يكن بطلا لمسيرة التحرير وبناء الدولة فحسب، بل كان أيضا إنسانا اضطرته هشاشته إلى اقتراف أخطاء فادحة. على غرار التسلّط، وتقزيم من أحاطوا به، واعتبارهم غير أكفاء. وذات الأمر قد يحيل عليه منجز البشير خريف، الذي صاغ مرْويتنا الجماعية من نافذة الابداع الأدبي، سردا وحكاية وشعبا وأمّة، وهو ما شفت عنه بطريقتها الخاصة رواية "بلاره"، باعتبارها نصا سرديا استعاد من خلاله من وسم بـ "أب الرواية التونسية" واقع البلاد أثناء القرن السادس عشر، أي إبّان أو قُبيل الحضور العثماني، حتى يمكّن التونسيين من تمثّل فكرة الخلاص من الهيمنة الإسبانية حال حضور العثمانيين. وهي فكرة توازي فكرة تخليص بورقيبة للتونسيين ثم بنائه لمشروع الدولة الوطنية على أنقاض دولة الاستعمار الفرنسية.
جميعنا يعلم أنّ رواية " بلارة " قد استعصت على قلم البشير خريف فلم يتسن له إكمالها، تماما كما استعصى استيفاء بناء الدولة الوطنية على فكر بورقيبة الحيّ، الذي انقلب بعد الدفع نحو تعيينه في أواسط السبعينات رئيسا مدى الحياة إلى مشروع وصل إلى حدود إيجابيياته كما أسلفنا ذكر ذلك. ولم يعد قادرا على إنتاج الدلالة عبر توليد مضامين ترقّي جديدة، تنطلق بشكل نخبوي ثمّ لا تفتأ أن تتحوّل لاحقا وباعتماد أدوات الاتصال وبيداغوجية الخطاب السياسي إلى مُقتسم جمعي.
الجانب الثالث من هذه الأبعاد المتضامنة هو توضيح مدلول الخصوصية، في ضوء هيمنة تسليع السرديات الوطنية الجماعية خدمة لاكتساح مضامين الليبرالية المعولمة؟ فمن المفيد في تصوري الشخصي أن تتوفر قراءة السردية الجديدة والمتجدّدة لواقع التونسيين على معطيات تثبت أنّ فكر الجماعة قد اعترف نهائيا بحقّ الأفراد كما الأقليات في تأكيد اختلافها مع جميع المحسوبين على ذات المرْويّة، ليس على صعيد الحريات الشخصية الضيقة فحسب، بل وعلى صعيد بقية مجالات التعيين الاجتماعية بمختلف مستوياتها. وعليه فإن المسألة مُتصلة في الأخير وبشكل بسيط بإعادة بناء الثقة بين الأفراد على قاعدة احترام الاختلاف والحاجة للتعايش أولا ثم العيش أو الاجتماع بذكاء.
غير أن ما يسوس علاقاتنا كتونسيين حاضرا هو سيطرة ردود الفعل الوجدانية على جميع ما سواها، بينما علّمنا التاريخ أنّ الشعوب التي تورّطت في الخروج عن السائد أو الانقلاب عليه ثوريا قد اُضطرّت إلى إعلاء ملكة العقل والمراكمة والتحصيل ونبذ ما يعيق هذا التوجه قولا وفعلا. ولا ينبغي أن نعتقد ببالغ السذاجة أنّ مثل هذا المسار لا يحتاج إلاّ إلى أطر ذهنية مفصولة عن الواقع المعيش. ففرنسا الثورة مثلا خاضت حروبا مريرة لتفهم في النهاية أنّ قدر انتقالها إلى دولة متقدمة (إلى حدود القرن 19 ميلادي %90 من الفرنسيين كانوا مزارعين وفرنسا لم تتخط حتى ذلك التاريخ موقع الدولة الريفية) مشروطٌ بامتدادها على حساب من هم أقلّ منها تطوّرا. وهذا ما أدّى في النهاية إلى وقوع أغلب بلدان شمال إفريقيا (أو مجال المغارب كما نسميه حاضرا) تحت نير الاستعمار الفرنسي. وهو نفس الحدث الذي نقل ذات هذه الشعوب من الزمن الأسطوري إلى الزمن الرياضي أو زمن الرزنامة. ولم يكن هذا الحدث منفصلا عن التحولات التي طالت المشهد التونسي حضريّا كان أو ريفيا بعد النجاح في تقليم أظفار البداوة. فمنجز "التهدئة" الفرنسية هو الذي أخرجنا من الزمن السرمدي، مُشكلا رجّة أو "صحوة" أو "صدمة" حداثة. وهذا أمر جابهه ما نسميه بالمجال العربي الإسلامي منذ أن وضعت فيالق الجند الفرنسي أقدامها بمرفأ الإسكندرية وانطلق نابليون بونابرت في حملته على مصر. لأن الذي دفع بونابرت إلى القيام بحملته تلك، وهي حملة سيتمّ استتباعها بحملتين أخريين واحدة استهدفت المجال اليوناني وأخرى طالت المجال الجزائري ومن ثمّ المجال المغاربي، قد اندرج بالكامل في نطاق ضرورة إجاد حلّ لـ"ورطة" الثورة من خلال التعويل على بناء قوة من خارج فرنسا وليس من داخلها، استندت على مُقدرات شعوب لازالت عندها تعيش ضمن تصوّر دائري لزمانها ولمرْويّاتها الجماعية أيضا، بينما بدا واضحا أنّ فرنسا الثورة قد بدأت تفكر من خارج الصندوق كما يقال حيث أضحت محتاجة إلى فضاءات حيوية لبناء مشروع حداثتها خارج إطار أوروبا التي لم يعد بالإمكان التوسع على حساب أُممها.
فجميع القيم المثلى حتى وإن حلّقت عاليا، على غرار مسألة الحريات الفردية، لابدّ لها من تمثّل دقيق أو عملي على مستوى الواقع المعيش. أي أنّ ما هو بطولي في كلّ ثورة بمقدوره أن يفضي إلى نتيجة تنقلب بمقتضاها نفس تلك القيمة إلى انزياح يشابه ذاك الذي جعل فرنسا تتوجّه وبعد إنجاز ثورتها إلى تبرير الاستعمار باعتباره ضرورة ومهمة حضارية سامية، فَهِمَتْهَا النخب التركية بالمدلول الخلدوني مستعملة لتعريفها لفظة "عمران"، بينما ترجم المصري رافع الطهطاوي مصطلح" حضارة " بمعنى "التمدين". فمن فرنسا إلى تركيا إلى مصر هناك إدراك مختلف لكلمة واحد. فكل من هذه المصطلحات له دلالته الخاصة. فالاستعمار يصبح "مهمة حضارية"، والتنظيمات العثمانية تصبح "عمران"، ومشروع محمد علي باشا بمصر يحيل في فكر المتنورين المُتبنين للـ "تمدين" أو "التمدّن"..
فكيف سيكون بوسع التونسيين الخروج ممّا "ورطوا" أنفسهم في إنجازه سنة 2011، والتفكير جدّيا في الطريق التي يتعيّن أن يسلكوها حتى يتعهدّوا عملية التفكير والتبصر بمُنجز الدولة الوطنية التونسية من نافذة الانتساب قولا وفعلا إلى الأمم الراقية؟