عادةً ما يخلط الناس ما بين الشخص القابل للاستفزاز، والشخص المُضطرب عقليَّاً. وقد يعود سبب ذلك إلى السلوك المتهوِّر وغير المسؤول الذي قد يُبديه هذا الشخص لحظة شعوره بالغضب. أو ربما يكون سبب هذا الخلط هو ضبابيَّة مفهوم "العقل" في المنظور الشعبويّ، حاله في ذلك حال الكثير من المفاهيم الأخرى، كمفهوم التفكير مثلاً، والذي يعني "الحَصْر والهمّ" (عاميَّاً)، ولا يعني إعمال الذهن في تحليل قضيَّةٍ ما! لكن ما شأن الأهليَّة العقليَّة بالحالة الانفعالية للفرد؟! وما شأن المشاعر والطباع والحيِّز العاطفيّ للذهن بالعمليات العقليَّة؟! والحقيقة فإنَّ لهذا الربط الخاطئ جذوراً أقدم من الملاحظة العفويَّة للناس، حيث يعود هذا الالتباس إلى بعض فلاسفة اليونان القدامى، واعتقادهم المغلوط بحتميَّة العلاقة بين الغضب وفقدان "العقل"! لكن بعد التطوُّر الكبير الذي شهده مفهوم "العقل" وعلم الأعصاب، نستطيع الجزم بعدم وجود أي علاقة بين القابلية السريعة للغضب، وبين السلامة العقليَّة للإنسان.

ولتسليط المزيد من الضوء على هذا الموضوع، سنحاول تناوله على المستويين السيكولوجيّ والتشريحيّ: أولاً، الغضب من الناحية السيكولوجيَّة هو ردُّ فعل الجانب العاطفيّ من الإنسان على شعورٍ بالضيق جراء استفزازٍ ما. وذلك بتحويل المشاعر المُزعجة إلى شعورٍ هجوميّ، يُخلِّص الأنا من ضيقها. وليس من الضروريّ أن يؤدي الغضب إلى سلوكٍ عنيف. إذاً، وعلى المستوى النفسيّ، فالغضب هو سلوكٌ تحويليٌّ مقصود ومُمنهج، وليس سلوكاً اضطرابيَّاً وفوّضويَّاً. بل هو تغليب المنطق العاطفيّ على نظيره العقلانيّ في القرار.

ثانياً، الغضب من الناحية التشريحيَّة يتلخَّص – بحسب عالِم الأعصاب لودوكس - بأنَّ المنبِّه الخارجيّ الذي يمنحنا شعوراً بالتهديد أو بالتعرُّض للهجوم (الجسديّ أو اللفظيّ أو التعبيريّ.....) أو المنبِّه الداخليّ (الحصر) يخلق لدينا تيَّاراً كهربائيَّاً كردِّ فعلٍ طبيعيّ. ولهذا التيَّار وجهتان اثنتان لا غير:

الوجهة الأولى تُمثِّل مساراً عقليَّاً أقصر باتجاه منطقة تُسمَّى "الأميجدالا"، ويُطلَق عليها أيضاً مُسمَّى "منطقة الأعاصير"، فهي مصدر الهيجان العاطفيّ وبراكينه المُلتهبة. وفي هذه الحالة يأتي الردُّ عنيفاً، على قاعدة المثل الشعبيّ

القائل: "فلانٌ بابُ نارهِ قريب"! أمَّا الوجهة الثانية، والطريق العقليّ الأطوَّل، فتكون باتجاه لحاء المخّ، حيث المناطق الأكثر "تعقُّلاً". وبعد مسيرٍ طويل يكابدهُ التيَّار، تأتي الاستجابة فاترةً وليِّنة ومتأخِّرة. والحقيقة أنَّ لودوكس لا يُقدِّم لنا تعليلاً واضحاً لتبرير سلوك التيَّار الدماغيّ، وسبب تفضيله لخيارٍ على آخر. أو بالأحرى لا يُخبرنا عن المسؤول الذي يقوم بإدارة القاطعة، غير أنَّ التربية المُعنّفة للطفل، واضطهاد المرأة، والعُنصريَّة، والظلم الأُسريّ أو الاجتماعيّ، هي أسبابٌ كافيةٌ لضبط "بوصلة" التيَّار باتجاه الدرب الأقصر.

باحث سوري في علم النفس التحليلي.