يُمثِّل كتاب "اللغة المنسيَّة" لإيريش فروم (ترجمة حسين قبيسي) مدخلاً إلى فهم الأحلام والحكايات والأساطير، واعتبارها لغةً واحدة. حيث يرى كاتبه بأنَّ اللغة الرمزيَّة هي اللغة الإنسانيَّة الوحيدة الجامعة، والتي يجب أن تُدرَّس في المدارس والجامعات، شأنها في ذلك شأن دراسة اللغات الأجنبيَّة. أحد الشواهد على شموليَّة وعالميَّة هذه اللغة هي الأحلام. فالأحلام لا تخضع لمنطق فكرنا المستيقظ، ولا تحترم الزمان والمكان (بدمجها لشخصين في شخص واحد، وجعلها الشخص في مكانين مختلفين في آنٍ واحد!). وعلى الرغم من لامنطقيتها هذه، إلا أنها تكادُ تُشعرنا بواقعيتها عندما نشاهدها! وفي هذا الصدد يقول فروم: "إن الحلم هو اختبارٌ راهنٌ وواقعيّ، إلى درجة أنه يثير فينا التساؤل المزدوج: ما هو الواقع؟ وكيف يتسنَّى لنا أن ندرك أن ما نراه في الحلم لا يتصف بالواقعية".

والأساطير كالأحلام كُتبت بلغةٍ رمزيَّةٍ؛ لغةٍ يتمُّ الإفصاح بواسطتها عن الخبرات الحميميَّة والمشاعر والأفكار كما لو كانت خبراتٍ مُعاشةً في العالم الخارجي الواقعيّ. الأحلام والأسطورة وحكايات "الجنيَّات"، هذه الأخيرة التي تُمثِّلُ أعمق وأغنى الأشكال التعبيريَّة التي تفتَّق عنها الذهن البشريّ، جميعها ذات منطقٍ مختلفٍ عن المنطق المتداوَل. منطق لا يعتبر الزمان ولا المكان ركيزتَيْه الأساسيَّتَيْن، بل الترابط والشدَّة والرمز. وللرمز ثلاثة أنواع يستعرضها فروم تباعاً: الاصطلاحيّ والعرضيّ والجامع. الرمز الاصطلاحيّ وهو الرمز المُقتصِر على مجموعة من الأفراد الذين يتداولون الاصطلاحات المجتمعيَّة نفسها في ما بينهم، ويعني إقامة الصلة بين الكلمة والشيء. وهذا النوع من الاقتران معتمدٌ على الاصطلاح، غير أن هناك كلمات لا يقتصر الإقران فيها على الاصطلاح فقط. إن جميع الكلمات نتجت، بطبيعة الحال، عن صلةِ تلازمٍ متبادلة ما بين الرمز والمرموز إليه. والصور تماماً كالكلمات رموزٌ اصطلاحية، كالشعار الذي يرمز إلى نادي كرة

قدم معيَّن على سبيل المثال. أمَّا الرمز العرضيّ (الشخصيّ) فهو نقيضُ الرمز الاصطلاحيّ، وذلك على الرغم من أنه يُشاركه خاصيَّة غياب الصلة الجوانيّة مع ما يرمزان إليه. ومثال ذلك: شعورك بالسعادة لدى ذِكر أحدهم لمدينةٍ سبق أن عشتَ فيها لحظاتٍ سعيدةً. فالمدينة هي المدينة ليست رمزاً للسعادة أو للبؤس، وإنما الأمر مرتبطٌ بالتجربة الفردية فحسب. أمَّا بالنسبة للرمز الجامع فهو الوحيد المشروط بوجود علاقة داخليَّة ما بين الرمز وما يمثِّله. ومثال ذلك رمز النار؛ الرمز المتجذِّر في قاع التجربة الإنسانية ككلّ. وهذا النوع من الرموز مختلفٌ عن سابقَيْه، فهو شيءٌ يشبه البكاء لحظة الشعور بالحزن، لا يحتاج إلى تعَلُّم. ودليلُ ذلك أنَّ كثيراً ممن لم يسمعوا بالتفسير العلميّ للأحلام، تمكَّنوا من تفسير رمزيَّة أحلامهم لاشعوريَّاً، وذلك عندما كانوا خاضعين لتأثير "التنويم الإيحائي". ولدى استيقاظهم عجزوا عن تكرار ذلك!

يؤكّد فروم على ضرورة عدم الوقوع في شرك التنميط، من خلال تفسير الرموز. فدلالة الرمز المخصوصة لا يمكن لها أن تتحدَّد إلا بناءً على السياق العام الذي يندرج ضمنه هذا الرمز.

فعلى سبيل المثال فإنَّ رمزيَّة الوادي، والذي قد يبعث شعوراً بالراحة والاطمئنان من خلال الاحتماء بين جبلَيْن، قد يبعث في معرضٍ آخر شعوراً بالضيق والسجن والانغلاق! وعلى صعيدٍ متصل يتناول الكاتب قصة النبي يونس بطريقةٍ سيكولوجيَّةٍ، تميط اللثام عن غناها الفاحش بالرمزيَّة. حيث نقرأ مثلاً بأن الصعود إلى السفينة، والمكوث في قعرها، والسقوط في البحر، والبقاء في بطن الحوت، جميع هذه الصور كانت تعبيراً واضحاً عن الحاجة إلى العُزلة والانطواء والهروب من تأدية الواجب، بتجاهُلٍ تامّ لصوت الضمير في البداية، قبل الانقلاب على الذات والإتيان بالفعل العظيم.

باحث سوري في علم النفس التحليلي.