كان ماكس كومريل ()1902-1944 مُتخصصا في التاريخ الأدبي. وكان شاعرا أيضا. وفي بداية مسيرته، انتسب إلى حلقة الشاعر ستيفان جورج()1866-1933 الذي تميز بدفاعه المستميت عن الفن للفن، رافضا كل الحركات الطلائعية والحداثية التي برزت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي العقود الأولى من القرن العشرين. وفي غموضه كان ستيفان جورج ذو النزعة الارستقراطية في الحياة، وفي الفن، قريبا من الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه، لذا كان يتردد خلال اقامته في باريس على "سهرة الثلاثاء" التي كانت تنتظم في بيت هذا الأخير.
وأول لقاء بين ماكس كومريل ومارتين هايدغر تمّ في شهر أغسطس-آب1941. وإثر ذلك اللقاء، تبادلا رسائل ركزت بالخصوص على الشاعر الألماني الكبير هولدرلين الذي أمضى الشطر الأكبر من حياته غارقا في الجنون، وهاذيا في شوارع مدينة توبنغن.
وكان ماكس كومريل قد اكتشف هولدرلين في سن الرابعة عشرة بعد أن قرأ روايته الشعرية "هيبيريون". وخلال الفترة التي انتسب فيها إلى "حلقة ستيفان جورج"، كان يبدي مثل كل أنصار هذه الحلقة ، اهتماما خاصا بهولدرلين، مفضلا إياه على بقية شعراء المانيا، وفي شعره عثر على ما يمكن أن نسميه ب"مسار خال من أي ارتباط". ولعله هذا ما دفعه إلى التمرد على سلطة ستيفان جورج مُنهيا علاقته بحلقته.
وقد خصص ماكس كومريل العديد من المؤلفات القيّمة لهولدرلين ظلت إلى حد هذه الساعة مراجعَ أساسية حول شخصيته، ومسيرته. وفي نصه الأخير الذي خصصه له بمناسبة مرور مائة عام على ميلاده، والذي كتبه قبل أشهر قليلة من وفاته، لخص ماكس كومريل مُجملَ أفكاره ونظرياته عن صاحب "هيبيريون". وفي مطلع الأربعينات من القرن الماضي، قام بإرسال البعض من كتبه إلى مارتين هايدغر الذي كان في تلك الفترة منشغلا أيضا بهودرلين، محاولا أن يبرز من خلاله العلاقة بين الفلسفة والشعر. وحال انتهائه من ذلك بعث بدوره نسخة إلى ماكس كومريل. وكان واضحا أن هذا الأخير انشغل بنص هايدغر عن هولدرلين، وتفحصه بفطنة وذكاء، ودراية بمفهوم الشعر، وبرسالة الشاعر . وهذا ما تعكسه الرسالة التي أرسلها في الثاني والعشرين من شهر ديسمبر 1941 إلى الفيلسوف هانس غيورغ غادامار، والتي جاء فيها ما يلي:" ارسل لي هايدغر دراسته، وهي عبارة عن حادث سكة حديدية مُثْمر، أمامه يتوجب عل حراس حواجز التاريخ الأدبي أن يكتفوا برفع أيدبهم إلى السماء (بقدر ما تقتضيه نزاهتهم). (...) ويعطي هايدغر لهولدرلين أهمية بالغة، وهو بالنسبة له مصير أكثر من أن يكون شاعرا يمكن ادراك عالمه بعد الاطلاع على رفوف من كتب التاريخ والأدب. وليس علينا نحن أن نخضع لهذا التأويل خضوعا تاما، لكن يجدر بنا أن نعتبر كلامه المثير للاهتمام كدافع (حتى ولو كان ذلك بطريقة سلبية) لكي يواصل تأثيره علينا بهدف أن نكتشف من نحن، وما هي ماهيتنا. وقد أجبت على رسالته بشكل إيجابي".
وفي دراسته، يسعى هايدغر إلى طرح قضية هامة للغاية، لا تتعلق فقط بطبيعة العلاقة عنده بين الفلسفة والشعر، ولا بتأثير الشعر على مسيرة فيلسوف، وإنما بعدد التأثيرات المحتملة للشعر على كل مسار مهما كانت نوعيته وأهدافه. لكن هل كانت قراءة صاحب "الكينونة والزمن" لهولدرلين مثاليّة؟ وماهي مميزات الأفكار الجديدة التي طرحها؟ جوابا عن هذين السؤالين، وغيرهما من الأسئلة، هناك كلمة تتردد في رسائل ماكس كومريل لكل من هايدغر وغادامر، ألا وهي: مصير. وقد كتب في ذلك يقول: "لقد أصبح هايدغر مصيرا لا مفرّ منه". ثم يضيف مخاطبا هايدغر :" ما نحن نتعلمه منكم هو أن هولدرلين مصير بحدّ ذاته". ويعني ذلك أن قراءة شاعر بحجم هولدرلين هي مصير بالنسبة لمن يقوم بها:" إن سحر قصائده (يقصد هولدرلين) لا يتأتّى من التأكيد على ذاته، وإنما لأنها شاهدة على تهشم الشكل الإنساني لوحدة الحياة مع نفسها، ولوحدة الشاعر مع كل ما يعيشه". ولأن الشعر تشكيل للحياة، وليس مجرد نسخ لمعرفة ما حتى ولو كانت إلاهية، فإن قراءته لها ضرورياته الخاصة به وحده. وهو لا يمكن أن يبلغ معرفتنا بالعلم دون أن يغيّر علاقتنا بمجمل ما يحيط بنا. وهو لا يستطيع أن يفصل المعرفة عن الحياة، ولا يمكن أن يحقق أهدافه الجوهرية إلاّ حين يكون قادرا على تغيير طريقتنا في الحياة، وفي التفكير، وفي الكتابة أيضا. وأن يكون المصير أمرا لا مفر منه يعني بالدرجة الأولى أن اللقاء مع الشاعر لا يمكن بأيّ حال من الأحوال ان يتقلص إلى دراسة دقيقة ومفصّلة ومتطورة لعمله، وإنما الهدف الأساسي منه تدمير كل ما هو غريب عن الحياة الشعرية بعد القراءة. ويكتب ماكس كومريل قائلا:" وكتابة قصيدة يعني أنه كان يتعلم تسمية الحياة، لكي تكون في تفتحها العابر، حياة حرة، وروحانيّة، ولكي تكون حياتنا نحن أيضا ككلمة يمكن للجميع ادراكها. ونحن نمسك بهشاشة هذا الوجه الإنساني الجميل ونقول: هو لم يُجْعلْ للحياة".
ويعتقد ماكس كرومريل أن اللغة التي استعملها هايدغر في الدراسة المخصصة لهولدرلين مختلفة عن لغته في "الكينونة والزمن" . لذلك هو يطرح الملاحظة التالية:" كيف يمكن لهذا الفيلسوف (يعني هايدغر) أن يرى نفسه داخل هذا الشاعر(يقصد هولدرلين) ليس فقط من خلال العالم الذي أهمله، وإنما أيضا من خلال العالم الذي يبحث عنه وبنوع من الانتحار السامي في لحظة تصبح فيها معرفته في أقصى اتساعها فارغة من أية إشارة، أن يكتشف الإشارات من دون فجْوَة، إشارات يُسْمَحُ له باستعادتها، والتي في حال عجزه عن ذلك، تمنحه تلك الإشارات القدرة على استنباط إشارات جديدة تكون في هذه المرة اشاراته الخاصة". وبالنسبة لماكس كرومريل يمكن لمثل هذه العملية من جانب هايدغر أن تُفْقدُ الشعر جوهرَه، لكي يتحول إلى وسيلة لخدمة أغراض أخرى غير تلك التي يسعى إليها. وهذا ما يُشَكّلُ خطرا جسيما على الشعر بحسب كرومريل لأن اللقاء بين الفيلسوف والشاعر، أي بين هايدغر وهولدرلين لم يكن لقاء حقيقيا، بل قد يكون مصطنعا، ومُلفّقا، وربما يكون عنفا مسلطا على هولدرلين، وعلى رؤيته الشعرية، ومفهومه للحياة من خلالها. ويضيف ماكس كرومريل قائلا:" ليس هناك عنف أشد من ذلك الذي يُسلط على شاعر حين يتمّ الاستناد إليه كسلطة لتكون هذه السلطة في خدمة سلطة أخرى. ويحدث هذا عندما تقوم حلقة من المطلعين على شعره، بالاستحواذ على موروثه. وهكذا فإن الزعم بامتلاك شاعر مّا، يمكن لصاحبه أن يفترض أن لهذا الشاعر سلطة كتلك التي لدى الأنبياء، واستغلال هذه السلطة ل لتقوية ودعم سلطته الخاصة". ذلك ما يخشاه ماكس كرومريل الذي كان عانى هو نفسه من "الديكتاتورية الروحية" لستيفان جورج. كما يخشى أيضا أن يُستغل شعر هولدرلين لأغراض قومية شوفينية، وكانحياز لمفهوم محدد للغة الألمانية، ولمصير ألمانيا، ولرسالة الشعب الألماني بصفة عامة.
عقب وفاة ماكس كرومريل في سن الرابعة والأربعين، كتب هايذغر يقول:" قبل ثمانية أيام، توفي في "ماربورغ" ماكس كرومريل. وفي واقع الحال هو أستاذ في مادة الأدب الألماني. وبصفاء ذهني هو كان مُلمّا بالأسئلة التي يُحتّمها مثل هذا الاختصاص. وقد كان إذا ما سمحت لنفسي بأن أقول ذلك عرضا، الوحيد من بين أهل اختصاصه، الذي تمكنت من أن أفتح معه جدلا مثمرا حول الفكر والقول الشعري. وربما ضلّ ماكس كرومريل وجهته مرات كثيرة، ويمكن أن يضلّ وجهته، إلاّ أن ذلك لم يكن يمنعه من الانصات إلى الآخرين. وما هو سعى إليه، وما ابتكره يظل قابلا للجدل والنقاش. وهذه اشاره بأن شيئا ما يَصْدُرُ ، وينْبَعُ منه. لقد كان ماكس كرومريل رجل تدريب. وقد توفي وهو على هذه الصورة. وكان مكاس كرومريل رجلا ضروريّا. وكان يقتصّ أثرَ الضرورة، وبهذا المعنى كان ذلك ضروريا بالنسبة له. ثمة فراغ منذ أن رحل عن الدنيا".