يخطر في البال كتابان ادبيان احدهما كتب له الشهرة وحصد جائزة كبرى وكان فيما قبل، في السنوات الماضية، قد أجج في مصر ردود أفعال نمّت في اكثرها عن انحسار رؤية وموقف مسبق كشف عن سلوك حمل دلالة لا يمكن نكرانها على استعباد العقل، والكتاب الآخر معاصر مغمور ( طرقات على باب اللحظة السريالية لأنه لم ينشر بعد) ومنفي حتى إن وقع في احسن الأحوال، في المستقبل، بين يدي القارئ أهمله ذلك إن لم ينظر إليه النظرة الدونية على أن كاتب هذا الكتاب متوسط الموهبة او ضعيفها.
نجيب محفوظ ولطيفة حليم، للأول رواية "أولاد حارتنا" وللثانية "نيران طرفي النهار".
في العادة يضع الراوئي على الطاولة مخططه ذلك قبل البدء في الكتابة، وما افتتاحية الرواية الا نافذة على هذا المخطط في صورة مركزة مرمزة. لا يغيب عن البال أن المخطط عائم تتناقله الامواج وربما في أشواط من الكتابة يتغير ويشمل عوالم تتوالد دوما، لم تكن موجودة في ذهن الكاتب، حتى ليحسب المرء أنه في النهاية لا حاجة به للمخطط وهناك من فعل ذلك في أعمال كبرى نفى عنها الدراما وأشاح بوجهه عن تركيز يشد القارئ ويجذبه الجذب الكلاسيكي المألوف.
لا علم لي إن كانت المغربية د. لطيفه حليم قد استنجدت بمخطط وطريق واضحة لدفع الافكار والصور في رواية "طرفي النهار" موجز مطول مفصل عن حوادث يوم واحد من شدة طوله يتمدد ليشمل فكرة الحياة الراهنة دونما اهمال التاريخ والسياسة والحب وشغل المرأة المستمر في التنظيف. البطلة تقضي يوما كاملا امام مكتبة (زوجها) تنظف الرفوف وتمسح الغبار عن الكتب التي ربما لم تسمع بأحدها او لم يخطر في ذهنها انها موجودة بين الرفوف.
وما يوحى من قراءة العمل ان الموضوع ليس التنظيف ولا يمكن ان يكون في جانب منه العرض الموجز عن الكتب التي تقع بين يديها، فهذا الجانب، جانب العرض، من اختصاص فرع آخر لا يمت الى الفن الأدبي إلا بصلة طفيفة قد يهمل ثم لا يحفز الانتباه لاشادة بناء روائي. الذي يدفع شوط العمل الى مداه المقبول هو التفاصيل المتسللة إلى المتن، ان الصفة التي تتبعها في جميع اعمالها هي الاسترسال غير المنتمي لتيار الوعي الشائع، استرسال يحركه على الأرجح اللهو الفني الذي يمكن ان تلمس تفاعيله في جلسة سمر يديرها ذكاء واحد على أن تطول هذه الجلسة وتتكرر الحوادث مرات لتؤخذ من باب آخر وزاوية لم تعرض من قبل. هذا النوع من التكرار له خطورته الفنية إن لم يحسن وضعه في مكانه الصحيح سيكون مجرد تكرار اجوف يثقل العمل ويعكر احساس القارئ. التكرار الفني هو من باب آخر إعادة تكوين للجملة الفنية في شروط تالية يؤخذ فيها وجها وموقفا مختلفا عما تم رصده في السابق. وإن أفلت القارئ مفاتيح العمل فإنه لن ينتبه الى تلك الأوجه ويحسبها تأزما يدفعه في أحيان كثيرة إلى اهمال القراءة ثم هجرها.
لم يكن نجيب محفوظ في رواية "أولاد حارتنا" حين وضع سلم المقابلات مع القرآن الكريم كي يبني عليه موضوع الرواية، لم يكن روائيا يشغله الفن والإبداع، كان كاتبا مجربا يطابق ويتمنى ان تكون المطابقة متوازنة تخلق التأمل الكوني المنشود. والذي قرأ الميثولوجيا مقرونة بالأدب فإنه لن يشعر بالرضا عند قراءة هذه الرواية بل بالسخط ثم من المؤكد أنه سيأسف حين ينتبه الى أن هذا العمل كان قد ذكر بجلال عند نيل نجيب محفوظ جائزة نوبل. تبدو الدهشة أيضا على أشدها إذ ينصح الروائين شاعر الحداثة (أدونيس في مقابلة له مع قناة الغد المغربية) بالسير في الافق الذي سار فيه كاتب كلاسيكي كان يكتب بنظام المقاييس. معظم رواياته واقعية. وقراء "اولاد حارتنا" ربما سيجدون متعة حين يغيب عن ذهنهم قصة خلق آدم والانبياء.
قراءة الرواية الواقعية واصنافها المتعددة من رومانسية وانطباعية - يحسن ان نرفع اليها صفة الرواية المباشرة وليس الواقعية – تشبه بنسبة لا بأس بها مشاهد متحمس يراقب لعبة كرة قدم، يتفاعل بانفعال مع الكرة واللاعبين وينتظر بشوق ولهفة الأهداف، من دون ان ينزع الى التفكير ولا إلى السمو، هو بكل الأحوال ليس داخل الرواية بل خارجها يلاحق الأحداث ويلهث وراءها – هذه هي روايات الأكثر مبيعا وندر ما كان منها دون ذلك- وهي التي اشتهرت في القرنين الماضيين، على نحو اكبر كانت النساء هن القارئات، خلق لهن الفراغ الفرصة الذهبية لمشاعر حالمة لم يكتب لها ان تتحقق في الواقع. ولنحدد ربما من دون ريب ولا شك أن ما تفعله القراءة هنا، مع أصحابها، لا يقال عنها تناولا ثقافيا وإن قيل عنها كذلك فسيضاف الى كلمة ثقافة صفة اخرى، تبعدها عن مضمون الثقافة ومعناها.
ينقص الفقرة السابقة نقصا بالغ الشأن الإشارة إلى روايات مباشرة \ واقعية ذات نفحات شاعرية تترك صورها وأحداثها شروخا كبرى في المخيلة تبقى في الذاكرة وتساهم في تنمية الضمير وصناعة الوجدان إلا أنها رغم هذه الإيجابية الخلاقة فإنها لا تصل الى حد الفعل وإلى القرار المثقف والأهداف التي خلق من أجلها الأدب.
وللتدقيق والدخول بخطوة اضافية يمكن الإقتراح أن الواقعية لا تأتي من الرصد المباشر للحياة، إنما تأتي من صورة الفكر وموقفه من الحياة. في إحدى رواياته يتكلم محفوظ عن ثلاث شخصيات، اخوان مسلمين ومعتدل وماركسي. ويسكن هؤلاء في عمارة من ثلاث طبقات، وسيكون مسكن المعتدل في الطبقة الوسطى من العمارة، ليس في السفلى ولا في العليا، سيسكن بين الماركسي والاخوان المسلمين. هذه المقايسس الإيديولوجية لا تنتمي أو انها ليست من طبيعة الحياة ، أسقطتها عقولنا النظرية التي ترسم مقاييسها وتخلق التفاسير وتضع الأسباب ليس من اجل ادراك الحياة الواسعة الشاملة، هي من أجل تغذية الأنوات، الشعور بالمتعة وطمأنينة الرضا بأننا على حق في نظرتنا عن العالم.
في فصل "حبل الصيد" يرصد هرمان ملفيل بتقريرية، لا يكاد يدرك مقصدها غير المباشر، ثخانة الحبال وطولها ووزنها إلى حد تبعث الظنون في أذهاننا اننا أمام بحث اكاديمي عن الحبال المستخدمة في صيد الحوت. وفي مكان آخر يتكلم عن الصواري والأشرعة ومقدمة السفينة والرماح وأنواع سمك الحوت وأوزانها ويخطر في ذهن القارئ تساؤل ملح عن سبب أيراد هذه المعلومات في متن الرواية هل تخدم العمل الفني، هل تنير القارئ؟ والشخص الذي يطمح إلى معرفة المحيطات وموطن الحوت لن يقرأ من أجل ذلك رواية "موبي دِك". كانت واقعية مباشرة ملغمة كما هي واقعية جيمس جويس في يوليسس، تصوير تفاصيل الحياة، القاء شبكة الصيد الروائي في محيط الحياة وتجنب الصور التي اقترحها العقل عن الحياة. ربما لهذا الشأن كان جيمس جويس يحمل دفتره الخاص لتسجيل تفاصيل، من دون إغفال الزمن، حركة المارة في شارع ما، تفاصيل رجل يخرج من متجر معين، أو يترجل عن عربة.
ليست يوليسس رواية دراما، وكذلك رواية الحوت الأبيض، ليس فيهما شيء مما اعتاده القارئ العادي وربما القارئ النهم أيضا، وكذلك الشأن في رواية البحث عن الزمن المفقود، هذه الروايات هي سمفونيات كونية، موسيقى. لن يكون هناك دراما في الموسيقى ولا عقد أو حلول، الحقيقة النفسية العميقة ليس فيها شيء من هذا، إنها تسلك طريق التأمل للوصول الى النيرافانا الادبية والسمو مع النيران التي تطهر الروح وتخلق فعاليتها الجديدة في العالم الأرضي.
الأدب الخالد لا تصنيف له، ولا تسمه الأزمنة، ومدارس النقد المرهقة التي حاولت حمل الأدب وجره الى ميزانها - الذي يتغير عير الأجيال القصيرة، هي مدارس قد تكون موبوءة من الداخل لكن على ما يبدو تشيع الجلال والهيبة من الخارج وقد هجرتها الفلسفة وهجرها الفن.
في رواية طرفي النهارتتلاحق المشاهد وتنتقل من أحدها الى الآخر بطريقة انسياب غير متوقع، كلمة واحدة تنقل الفقرة من مكان الى آخر مما يحث الفكر ويشده الى مكمن الانتقال وعلته. والواقع ليست الأفكار هي التي تتكلم في هذه الرواية بل الميثولوجيا النفسية (الفردية) وموقفها الوجداني من الماضي والحاضر. لقراءة هذا العمل وامثاله يجب على القارئ ان يشتغل، يترك اسفنجة العقل، الماصة للحدث، يرفع معول الفكر ويربط الأحداث ويخلق النسيج الضائع الذي أرادته الرواية. في هذا الخلق سوف يكتشف وحي التأمل – التأمل العقلي الذي لا يرتبط ارتباطا مباشرا مع عالم الروايه بل بالدخول الى النفس لاكتشاف هذا العالم المجهول – أحيانا يصلنا احساس ونحن نقرأ أننا في حلم ننزلق مع الأحداث ويبدو في مكان ما صعوبة الإمساك بها او متابعتها. لا يقول العمل في هذه الإنزلاقات إلا شيئا واحدا، أيها القارئ الى اعماقك ادخل واكتشف الدهاليز المظلمة، الدهاليز التي تمر بها ستنار بطاقة الفن ومن ثم ستنكشف الشمس الداخلية.
هذا واضح تمام الوضوح عند هيرمان ملفيل في الحوت الأبيض، ولا نقول إلا الكلام نفسه عن يوليسس حتى لو أننا أهملنا الرباطات التاريخية لهذا العمل فسندرك ما أراده جويس من هذه الرواية. كان يريد أن يحرر العقل الإيرلندي ويحرر المدينة من براثن الحاضر ويجعلها المدينة الاولى في تاريخ أوربا.
ولا أظن ان النقد المدرسي لا ينظر بعين السخط والهوان على الجمع بين الروايتين (موبي ديك ويوليسس)، الأولى رواية واقعية سهلة القراءة ضحت بانتمائها الى الحقول الكلاسيكية (انتهى من كتابتها عام 1851) أما الثانية فتمتزج فيها تيارات الوعي محملة بالرموز والثقافة وهذا ربما يعزى الى محاولة الوقوف على قدم واحدة مع علمي الفيزياء والنفس، ففي الوقت الذي كتبت فيه الرواية كان العلم في أوجه، نظرية النسببية ونظرية الكوانتم وليس بعدهما إلا القليل من الزمن حتى يأتي شرودنغر بعجائبه. لكن مع هذا الأختلاف الظاهر بين العملين سيكون هناك حد مشترك بينهما يقترح على القارئ أن يتناول العملين بطريقة تختلف عن تناوله لمحفوظ، ولساراماغو، همنغواي، هيغو، وفلوبير وبلزاك. في الأعمال السابقة الروائي هو الذي يكشف للقارئ لكن في الأعمال التي نتكلم عنها نجد أن الروائي لا يكشف لكنه يومئ بالقول والذي يكشف هو القارئ وهكذا سنجد ان مكانته قد ارتفعت واصبحت ربما بمكانة خالق العمل، قارئا خلاقا، يتشذب ويتطهر من خلال عمل يديه. وإن انسحبت الدراما عن هذا النوع من الأعمال فإنه في المقابل تم التعويض عن هذا الإنسحاب بالتركيز على عنصر آخر وهو المعنى الكامن في عنصر الوجود مع علاقته بالزمن، ليس الزمن هنا هو زمن الساعة بل هو الزمن الشامل الذي يصعب شرحه وهناك أدلة تشير الى أنه صورة الله على الأرض. كما لو أن هذه الأعمال ترفع تساؤلا ملحا حضر في الذهن منذ القديم عن ماذا نفعل هنا على هذه الأرض في هذا الوقت من الحياة. ربما محاولة الأدب لحل المسائل المستعصية التي لم يكتب للفلسفة ولا العلوم حلها.