على الجدار الذي تقادم بياضه الجيري حتى تعكر ببقع السواد وطبقات الغبار مرآة منمشة ببقايا ذباب وأجنحة ميتة. كبحيرة خلت من أطرافها الدور. ينعق الصمت هنا بهول الموت، ولا يدري "موحا" وهو يقف كلوح خشبي تراكمت عليه بقايا إسمنت بارد، إن كان يعي مدى الوقفة وحجم الدخول إلى مكان فيه هذا الصمت الكريه ورائحة اللزوجة اليابسة لسنوات لا يعلم عددها إلا السقف المصنوع من العرعار العتيق.

مرة تلو المرة. بعد شهر، أسبوع أو يومين، ينتفض في مفاصله صوت الدم، ويطن الصمم في جسده المترهل كشجرة عجفاء الجدع تحيا بالانتصاب العنيد في ارض فقدت حرارة الوصل، فيُساق نحو الظلام بعد انطفاء الضوء في نظراته الصفراء، ويأتي جارا قدميه في شمس الشارع، أو تحت قطرات الميازيب الشتوية.. آتيا من القعدات الطويلة على هامش الطوارات، المقاهي، الحانات، الحدائق.

يأتي كما لو كان مدفوعا بحنين خفيف قد تصلب، فيقف، ويستند إلى المرآة، ويتمرأى في الحائط، ويتيه في مشاهدة الملاءة الممسوحة المتسخة الملقاة على "الدص" البارد كجزيرة معزولة في مربعات زليج سوداء وبيضاء، وهي بلونها الرمادي مبقورة هنا وهناك بكريات نار الأعقاب كنهش آخر بلا معنى.

وبكل التفاهة التي تكاد تطفر دمعا بركانيا يستعصي على التدفق بشدة، كما لو أن زمن الغسل ضغط عليه ركام أوراق يومية ضخمٌ ومُلخبطٌ، يتساءل بلا ثقة أو رغبة مخلة، بل بسطحية لا مبالية وبتقطيب الفاهم المتعب، يتساءل: لماذا لا تحتفظ الأشياء بالوجه الأول؟

فيكاد يبتسم، وربما لاح شبح ابتسامة على شفتيه المشقوقتين البنيتين بالأدخنة السوداء والقبلات الجافة، لأنه هنا، في ذات اللحظة، يداعب في سهومه القاسي طرف الملاية التي ستحتضنه لمدة بعد قليل كذبابة، فيود لو تتأخر قليلا، وألا يتحقق مناها القدري.

هي برهة خاطفة وفعل سريع في دكنة شاملة كطعنة غادرة في جرح قائم يمني نفسه بحصولها السريع ليكف السيل الأحمر من سيرانه الأحمق الهيجان، ويقفل عائدا إلى النسيان، بيته ومنتجعه هو لكل الفصول.

يتجاذبه الرجاءان، طورا ببرودة، وأحيانا بتوتر صفحة وجهه المنحني المتساقط كثمرة "خامجة" عافتها أغصان مزهرة حواليها. فيرفعه هاربا من انكماش محتم قاتل لما تبقى من الرغبة التي اقتلعته اقتلاعا من ظل سقيفة مقهى هذا الأحد الضاج بصخب طفولي مرح خارجها.

يتذكر بنوع من الشماتة الكأس التي ترك والجريدة المليئة بقرف وبؤس العالم... و"كل شيء يدعوك إلى غرفة القرف الأكبر" يقول مبررا بمازوشية أعادت جذوة العنف في نزوته التي رمت به إلى فعل الليل نهارا.

وطفق ينزع ملابسه بدءا بالمعطف الثقيل، بسرعة، مخافة أن تنطفئ هذه الجذوة، ولا يصير بالإمكان إحياء جمرتها المتصلبة. حركة الجسد التي تمنع خياله من الاتقاد والجموح في وهاد الوحدة، هناك، خارج الذي فيه. وارتماءاته الآن حالا في هذا القبر الحي، الخارج الذي على بعد خطوات من الباب الموارب الذي ينفلت منه خيط نور ضامر، ينتبه إليه فيتجدد اكتئاب السؤال في عينيه، كأن هذا البياض اللامع وحبيباته الغبارية الدقيقة المتراقصة في اتساق ينساب لا يشوبه اعوجاج رغم رهافته الهوائية لا يستقيم والعفن الذي كدمل قديم، الكاسح لموقفه الآن، حالا ...

لكن ها هو المعطف يتجمد، نصفه على الكتف اليسرى، والنصف الآخر منزوع تكنس أطرافه السفلى الأرضية المنفردة.. ويلحظ بتوتر بالغ ولحظي بأن الرائحة ستظل حتى بعد الذهاب عالقة مطاردة تنضاف إلى الرداءة الملتصقة بروحه منذ زار المكان أول مرة قبل سنوات كطقس سرى لا سبيل للتخلص منه، فاحتقن غضبا، ولعن نفسه بأقبح النعوت كأي جبان نحته الحشود المتناثرة في كل اتجاه بنشاط وحرارة كقط يحمل وبيل الفأل. لا، رفع ثوبه، وبدأ يمسح أسفله بتؤدة متأنية، لا، يكفي ما تلعق مسام بشرته على طولها في ارتوائها الأحدب. فالغرفة على ما لاحظ قبل اليوم بمرات عديدة لا يذكرها بالتدقيق قديمة البناء وسقفها العالي البعيد ينفث نفسا بَعُد به العهد عن عصره هو طويلا، لكن ما يزال يلفه وسيلفه مستقبلا طالما ظل في هذه المدينة الغريبة التي رموه فيها موظفا في سجلات البلدية ينسخ أسماء سكانها. محال أن يندثر النفس من المعطف، وسيرافقه هو الذي حاذر دوما أن يمر متواريا أكثر ما يمكن، ويؤدي واجب الحضور بسرعة وبلا عقل، كي ينتهي الدق العنيف في أذنه والارتعاش الأهوج في عروقه.

تأمل معطفه الذي رافقه منذ جاء إلى هذا العالم، وشعر لأول مرة بالشفقة عليه، ثم علقه في مشجب مسماري صدئ فكأنما علق ذاته، لأن عشرة الوحدة الطويلة جعلته يحنو على أشيائه، يتعدها بالنظافة والكي والانتباه بكل ما تفرضه من وقت. نظر مجددا ولاطفه كمن يودعه، واستدار يجول في فضاء الغرفة منكمش الخدين، ممسوح البصر، وحصل الذي خشي وقوعه، وتلاشت أوتار رغبته، وتردد في الصمت الميت القديم صدى خطوه المجرور وهو يجول كطائر أدركه العجز وبدأ يتساقط ريشه، الريشة تلو الأخرى، ولم يشعر وهو يصدم الجدار إلا وصفائح جير تسقط عند أقدامه، وبنفس المهل الذي ألف دعكها بالحذاء متوقفا.. وبتلذذ لا يدري مصدره استمر في الضغط متيقظا للخشخشة المتوازنة التي بدت له كلحن قادم من مكان لم يحن أوانه.

ثم، وبدون توقع، هكذا، اكتسح الغرفة ضوء، فالتفت مذعورا، وحدق في المرأة التي دخلت تمد له أوراقا نقدية وهي تشدو بكلام تبينه ولم يسمعه. نظر غير فاهم برهة، ثم تطلع إليها، هي. يرى امرأة بدينة، قصيرة مكرمشة الوجه تبتسم له بإعياء من يعرفه جيدا، كالاحترام الواجب لرجل مثله، صموت وبلا أثر. رويدا رويدا تصاعدت حمية الدم، دوائر مغلقة اتسعت حدودها مثل انتفاخ بالوني، لكن اللحظة الآنفة عادت تزاحمها. دلف مدارا حائرا وسرى قرف ملول إلى الأشياء القليلة البسيطة، وبدا آيلا لسقوط مؤكد، لولا أن المرأة كانت بجنبه، فاتكأ على كتفيها براحتيه، ثم ما لبث أن تراجع بسرعة معتذرا. تشابكت احتمالات أفعال في إرادته، يترك المعطف؟ يأخذه؟ "بلا معطف، كأن جلدي ينفصل عني" قال لنفسه، وابتلعت أنفه الرائحة وهو يتنهد مستسلما أخيرا، كالعادة، ثم قام بتلبية الانتظار أمامه ونسي، كأن لا شيء وقع، كأن يد الاندحار قوة عاصفية مدرارة قوضت ما بقي من رغبة أخرى صافية، ونقية ...

لما انتهى نهض مستعجلا ومرتبكا كلص، لم يلو على شيء ذي بال، عار حد العظم.