حينما شرعت احدى الاصدارات المهنية المتخصصة بالعمارة، بسؤالنا عن توقعاتنا، نحن قراءها، عن من سيكون "الفائز" بجائزة بريتزكر ذات الاهمية العالية لهذة العام 2021، مدرجة اسماء لمعماريين معروفين على نطاق واسع في الوسط المهني، مرشحين لها لم ينلوا الجائزة بعد. معلوم ان الجائزة تشترط ان يكون "فائزها" من المعماريين الاحياء: الذين هم على قيد الحياة حصراً. وهي بالتالي لا تشمل الاموات منهم. كان من ضمن تلك الاسماء المقترحة، على سبيل المثال، "بيتر أيزنمان" Peter Eisenman (معماريّ المفضل: المعمار التفكيكي المعروف وصاحب التصاميم الفريدة والدراسات النقدية المؤثرة، والذي دهشت لانه لم ينل بعد تلك الجائزة!)، واسم المعمار الدانمركي الشاب الشهير عالمياً "بياكه انغيلس" B. Ingels، والانكليزي"دفيد جيبرفيلد" D. Chipperfield، والمكسيكية "تاتيانا بيلباو" T. Bilbao، والمعمار الصاعد البريطاني (من اصول تانزانيا) "دفيد ادجايا" D. Adjaye، والاسباني "البرتو كامبو بايزا " A. C. Baeza، وكذلك المعمار من بوركينا فاسو "دبيدو فرانسيس كيريه" D. F. Kere، بالاضافة الى الياباني " كينغو كوما" K. Kuma، والامريكي "ستيفن هول" S. Holl وغيرهم من المعماريين المؤثرين حالياً في المشهد المعماري العالمي. بيد ان المفاجأة غير المتوقعة كمنت بان تعداد تلك الاسماء، لم يأت على ذكر اسميّ الزوجينّ المعماريين الفرنسيين وهما "آن لاكاتون" (1955) Anne Lacaton، و "جان- فيليب فاسال" (1954) Jean- Philippe Vassal، اللذين، خلافاً لكل التوقعات، نالا الجائزة المرموقة لهذة السنة 2021، والتى اعلنت في يوم 16 آذار/ مارس في مدينة شيكاغو الامريكية.
بالطبع ان اسميّ المعماريين الفرنسيين معروفان بما فيه الكفاية بالاوساط المهنية. اذ سبق لهما ان فازا بجائزة "ميس فان دير روّ" لعام 2019 عن تجديد بلوك الاسكان الاجتماعي في بوردو بفرنسا. والجائزة اياها، جائزة معمارية معتبرة يمنحها الاتحاد الاوربي سنويا. كما ان مكتبهما الاستشاري المشترك "لاكاتون- فاسال" صمم عدة مبان حازت على اهتمام الوسط المهني الفرنسي واحيانا خارج فرنسا. وهما كلا المعماريين استاذان في مؤسسات تعليمية معمارية مختلفة سواء في فرنسا اوفي خارجها. لكن الاهم ان منجزهما المهني يبقى يتمثل في مقاربة اسلوبية مثيرة تسعى وراء ادراك العمارة إدراكاً خاصاً، مع تبنّي قيم متفردة ظلت مرتبطة دوماً مع تلك المقاربة.
عندما سافر "جان- فليب فاسال" الى النيجر بافريقا (هو المولود في الدار البيضاء بالمغرب)، بعد تخرجه في منتصف السبعينات للعمل هناك كمعمار ومخطط ، كانت تزوره "آن لاكاتون" باستمرار في مقر عمله بالعاصمة نيامي. وعن تلك الاوقات تتذكر "آن"، بانها عندما رأت المنازل البسيطة ذات الاسقف المشغولة بالقش والمكسية بالطين، كان ذلك بالنسبة اليها بمثابة "زلزال في العقل!"، كما كتبت لاحقاً. وتضيف بانه بعد عدة اشهر تحررا الاثنان تماما مما تعلموه بالمدرسة المعمارية، وبدءا في مراقبة وتحليل التفاصيل، وعن كيفية تعامل الناس مع سياقات البيئة التى يعيشون بها، ومحاولة ادراك واستيعاب الامثلة المبنية. ومن خلال هذا الرصد والتأمل لما هو معاش، بدأت تتكرس لديهم قناعة بضرورة تغيير المفاهيم المعمارية التى لطالما كانت مترسخة منذ ايام الدراسة، والتقصي عن بدائل معرفية اخرى تفضي الى مفاهيم تصميمية جديدة!
حينما أساسا المعماريان الفرنسيان مكتبا استشاريا لهم باسم "لاكتون وفاسال" في سنة 1987، في بلدهما فرنسا كانت العقيدة الاساسية لهذا المكتب تعتمد على دروس عديدة منتقاة من عملهم المهني الميداني بضمنه مخرجات "الدرس النيجري". كان شعارهم يكمن في اعتقاد راسخ من ان "كل مبنى يمكن إعادة توظيفه وأعادة ابتكاره وتنشيطه". ولهذا كان جان –فيليب فاسال ينادي من ان أهمية "المبنى المشيد سابقاً، تنبع من قيمة الوقت المستغرق لتصميمه والجهد المبذول في تنفيذه، ما يتعين ان يكون التعاطي معه بعيون مفتوحة واهتمام عميق وفحصه فحصاً عميقاً لفهم الايجابيات وادراك النواقص، والاستدلال الى امكانية تغيير حالته مع الحفاظ على جميع ما يتصف به ذلك المبنى من قيم" انهما يعتقدان بان عملية الاضافة والتجديد للمباني المشيدة هو بمثابة فرصة ابداعية لعمل المزيد والافضل مع ما هو موجود بالفعل. من هنا تكمن دلالة العبارة التى يؤمنان بها، من ان "الهدم هو عمل من اعمال العنف". ويفسرا ذلك عمليا عندما نفذا اعمال تجديدة ومشاريع واسعة النطاق في مجمع ابنية "الاسكان التعاوني الاجتماعي" الذي يعود الى الستينات في مدينة "بوردو" بجنوب غرب فرنسا، وكذلك تحويل "ورشة بناء سفن" مهجورة في مدبنة "دانكيرك" Dunkirk الساحلية في شمال فرنسا الى معرض والى احياز مكتبية. ويشير المعماريان بان "الهدم هو قرار سهل وقصير المدى. انه هدر لاشياء كثيرة: هدر للطاقة وهدر للمواد ومضيعة للوقت، فضلا على ذلك له تأثير اجتماعي سلبي للغاية، بالنسبة لنا، انه عمل من أعمال العنف"، هكذا يفسر المعماريان قناعاتهما المهنية. وكما جاء في تصريح حكام جائزة "بريتزكر" من ان نهج لاكاتون وفاسال، يكمن في اعادة "تنشيط آمال الحداثيين لتحسين حياة الكثيرين .. لقد حققا ذلك من خلال أحساس قوي باهمية الاحياز والمساحات المتاحة والمواد التى تخلق عمارة قوية في اشكالها كما في قناعاتها، وشفافة في جمالياتها كما في اخلاقياتها!". كما تم التنويه بانهما "..وسعا لنا مفهوم الاستدامة، اذ انهما يرفضان اية معارضة بين الجودة التصميمية والمسؤولية البيئية والسعي وراء مجتمع يقر بقيمة الاخلاق!
ويبقى مشروعهم "التجديدي" الرائد، في تعمير مشروع اسكاني في شمال باريس الذي يعود الى فترة الستينات، من خلال استبدال واجهة المبنى، وزيادة مساحات اضافية لكل وحدة من وحدات المشروع وعددها 96 شقة سكنية، مع تزويد شقق المجمع بشرفات جديدة ونوافذ واسعة، يبقى من المشاريع التجديدية التى لفتت الانظار نحوهم ونحو عملهم الرائد والدؤوب في هذا المجال. كما ان عملهم الآخر في "بوردو"، والخاص بتعمير الاسكان الاجتماعي سنة 2017، اهتم في اضافة مساحات جديدة وتوسيعات مرنة لكل وحدة من وحدات المجمع البالغ عددها 530 وحدة سكنية، دون تشريد سكانها اثناء التنفيذ، مع الحفاظ على استقرار الايجار لشاغليها. طوال حياتهم المهنية رفض المعماريان الخطط التى تدعو الى هدم المساكن التعاونية، وركزوا بدلا من ذلك على فكرة التصميم "من الداخل نحو الخارج"، مع تقديم اجابات لعلاقات الساكنين وتحقيق رغابتهم مثل "اذ كنت ترغب ان تُرى ام لا؟"؛ او "اذ كنت تريد ان تَرى ام لا؟". وقد شاركا مع معمار ثالث في تأليف "مدونة" تنادي بعدم هدم المساكن التعاونية العامة، مع شعار "لا تقم ابدا بالهدم، ودائما اضف وقم بالتغيير وإعادة الاستخدام" وتم تقديمها الى الحكومة الفرنسية. ويكرر المعماريان بانهما "لا ينظران، ابداً، الى ما هو قائم باعتبارة مشكلة. نحن ننظر بعيون ايجابية لان ثمة فرصة لعمل المزيد بما لدينا وما نمتلكه... ذهبنا الى الاماكن – تقول آن لاكاتون – التى كان من المحتمل ان تزال فيها وتهدمّ المباني، والتقينا باشخاص وعائلات مرتبطة بمساكنهم. كانوا في اغلب الاحيان يعارضون الهدم حتى وان كان وضعهم لم يكن الافضل، بيد انهم رغبوا البقاء في الحي الذي يقيمون فيه. انها مسألة تتعلق بالالفة والحميمية".
يتطلع المعماريان الفرنسيان المجدّان ومن خلال مقاربتهما المميزة الى ايجاد بدائل واقعية لعمليات الهدم الكبرى الجارية على قدم وساق في بيئاتنا المبنية. فهذة الاشكالية اليوم تزداد تعقيدا وانتشارا وتشمل مجتمعات مختلفة وعديدة منتشرة في اماكن كثيرة من العالم، ولاسيما في الدول النامية (بضمنها غالبية بلداننا، التى اِبتلَت بقرارات الهدم التعسفي الذي لايعرف ولا يرحم ان كان ذلك الهدم يشمل ابنية حديثة ام ذات اعتبار تاريخي مهم). كما يؤمن المعماريان بان "العمارة" ليست مجرد عملية تصاميم ابنية فقط ، انها من دون شك اوسع من ذلك. واري شخصياً، في خبر حصول هذين المعماريين الجاديّن على جائزة "بريتزكر" المرموقة (التى دائما ما تدعى بانها "نوبل" العمارة)، ارى فيه إصطفاءً مؤاتٍ جداً، ومناسب جداً من هيئة تحكيم الجائزة، وهو يومئ الى تثمين واعتزاز عالمين بنهج مطلوب ومقدر، يدعو، ضمن ما يدعو اليه من طروحات، الى اعتبار "الهدم"، عملاً عنيفاً لا يمكن تبريره بسهولة، مثلما لا يمكن تقبله ببساطة.
معمار وأكاديمي

الصور:
1- المعماريان "آن لاكاتون" (1955) و "جان-فيليب فاسال" (1954)
2- مجمع الاسكان التعاوني الاجتماعي العائد الى الستينات في بوردو/ فرنسا
3- اضافات وتغييرات على ابنية المجمع السكني في بوردو(2017)، المعماريان: لاكاتون وفاسال.
4- اضافات وتغييرات على ابنية المجمع السكني في بوردو(2017)، المعماريان: لاكاتون وفاسال.
5- اضافات وتغييرات على ابنية المجمع السكني في بوردو(2017)، المعماريان: لاكاتون وفاسال.