كنا نحتشدُ عند باب السوق أيامَ رمضان. في مدخل الزقاق المؤدي الى بيتيّ الحاجين الوجيهين، وعند مدخل زقاقنا، زقاقِ المصائر وعند القنطرة التي عبرت عصر العباسيين موصلةً الأيام والعصور بجامع الملة ابراهيم وماكنة الطحين والحمام العمومي وصولا الى باب الخان حيث مدخله قوس مرت مطهمةً من تحته خيولٌ غرٌّ ومن ثم يسارا الى مجمع المقاهي المرشوشةُ ارضُها بالماء المجلوب من خريسان جنب ضريح ابي الغيث الذي ضربَ فيه الدراويشُ على الدفوف طالبين مددا "وينك يا عظيم الشان" واستجارت به الناسُ أن يُنهي أيام الجفاف فيرسل لها غيثَه، مطرا مدرارا يحيي الموات.
وبابُ السوق من جهتنا يكون، حينَ لخليلٍ القصاب محلُ قصابةٍ تجنبه الجميع، لمجهولية أصل ومحتد الخرفان التي ينحرها.
وها نحن جميعا ملتئمون ناطرين ساعةً تعلنُها اطلاقة من بندقية إنكليزية قديمة يطلقها شُعيب الشرطي او، حين غاب، أطلقها الشرطي حسين أبو شوارب وهو يرتدي بنطالا فضفاضا لف عند أسفله لفافا متقاطعا، مضفورا من القدم لما دون الركبة. شارباه مفتولان بعناية بما جعلهما يقتربان من اذنيه وهما اللذان لم يهتزا حين الاطلاقة المدوية التي تعلن وقت الافطار، بل ولا حتى حين أطلق النار على الهارب من الجندية حامد ناجي فمرت من تحت ابطه واخترقت عضلة صدره ومرقت ما تحت الذقن، فنهرج نحن الأطفال بعد الاطلاقة ضاجين في مختلف المحافل في عالم لم يعرف التشاؤم ولا العبوس الى أهلنا، وازقتنا ودرابيننا وحاراتنا والبعيد القصي من الدور، تلك المنثورة على سطح اراضينا وفيافينا كبثور الجدري على وجه (عباس المنگرش) منادين: وذذذذذذذذذذذذذذذذذذن الى (گطع النفس).
كان السوق بهيجا ضاجا. يحتشدُ فيه اهل "الولاية" من الباعة والشراة والمتسكعين بل وحتى الاعراب القادمون من أطراف "الولاية" للتسوق بعد ما قاموا هم أنفسهم بتوريد المحاصيل والجبنة الطرية والزبدة التي طافت على سطح اللبن الشنين. ولا شيء أجمل من طريقة تنظيم مختار المعيدي لزجاجات الطرشي التي اعطتني درسا عظيما في اللون. يختار المعيدي، وهو ليس بمعيديٍ ابدا انما من المقيمين الراسخين في الولاية من جيل لجيل، فلا ينطبق عليه والحال هذه، القول "تسمع بالمعيدي خبر من أن تراه"، أقول: يختار اجمل التشكيلات لعرض مخللاته ولا أحد خلق منها جمالا بهذا الشكل، اذ صبغ اللهانة بصبغ اللوزينة فباتت صفراء تسر الناظرين وقطع الشلغم والشوندر بلونيه الأحمر والاشوندري القانيين دوائر واضاف لكل هذا اخضرار الكرفس الطري وحفظ كل هذا في زجاجات استطالت لتعرض علينا جمالها.
وحرر السيد قاسم رائحة مشوياته التي لا يحملها الا دخانٌ "عَثوَلَ"، صُعداً، فعمّ، فسادَ السوق وحين شح الزبائن قطع السيد شحما عن اللحم الضاني وألقاه في النار فتوهجت وحررت ما لا يقاوم من الروائح مما لم يعتبره احد إفطارا علنيا. وجرّتِ الرائحة اليها كل من لم يتصابر على جوعه او من انتظر طلقة شعيب او حسين الشرطي ممن ليس له دار إقامة. فيما ألقي الجبن الطري الذي جلبه الاعراب ابيضا لم يمس كشرف عذراء على عشب اخضر يانع فشع. وتوهجت الزلابية بلون كهرماني. وبكرهمانها وباخضرار الخضار على احمرار الطماطم على اصفرار الوجوه الجوعي تشكل مهرجان من الجوع واللون والضجيج. وفاحت من البيوت المجاورة رائحة تمن بـ "الرشدة" وبالدهن الحر او السلي المستخلص من إلية خروف صغير قبل ان يغزونا دهن الراعي الذي اشمأزت منه مالية جدتي القادمة من البراري الفسيحة جنوبا لتتزوج، وهي الامية، جدي الغارق في كتبه والذي لا فهمها ولا فهمته، لكنما بدل الفهم اعطتنا ما هو اندر وأجمل: الحب. احبتنا مالية بصدق وتتبعت خطانا خوف العثرات بما اغناها عن كل المعارف وعن فلسفات الادراك ودافعت عنا جميعا وعني انا المشاكس "المشكلاتي" بروح لبوة شرسة لا تلين.
وفي الليل وفيما يكون القصخون الضريرُ أبو المهد، الحافظُ على صدره لكل ما يرويه، يقصُّ على جمهوره قبل عهد الكهرباء قصة عنتر وعبلة والزير سالم، نكون نحن جالسين في الليوان او على السطح تحت نخلة بيت الشلاب، الذي رقص الساس كما لم يفعل احد مثله، لتقص جدتي علينا قصصها. يركبني الفضول حين تحكي عن فتاة تزوجها امير وكان لها ان تفتح جميعَ الأبواب الاحدَ عشر الا واحدا فأجد انني لو كنتُها، ما فعلت غير الذي فعلت ولتركت الأبواب مغلّقة الا تلك. وفي يوم المحيبس في مقهى غائب السعدي أراد الاخرس الذي اشركناه معنا ان يتشيطن فخبأ المحبس في جيب دشداشته وصرخ حين وصله اللعب :آهههههههه التي فسرها رئيس الفريق بـ "بات". وحين خليل المدلول شبع ضربا بالنعلان وهو سكران اذ اعلن امام الملأ انه هو الله (استغفر الله... ناقل الكفر ليس بكافر).
في آخر الليل في الصيف وفي الشتاء قرع جباره الحمد على طبله مناديا الناس ان تسحروا مبتدئا من بيته قرب محلة الهنود وقرب بيت روبيل اليهودي انتهاء بمال نصري شمالي "الولاية" في الطريق المؤدي الى بعقوبة. صبيحة العيد يدور جبارة الحمد على البيوت بطبله ومزيقته مطالبا بتسديد الدين الذي راكمه الشهر كله ولكنه لا يلح على البيوت حفضا لبعضها من عسر ذات اليد انما يمر مرورا خفيفا ومستعجلا على الجميع ويركض الأطفال الذين لم يلحق اهاليهم ان يسددوا حاملين درهما او ربع دينار ليضعوها في جيبه.
وقبل أن ينقضي رمضان في الموسم تمر الغربان ألوفا في السما ونحن ننشد ناظرين الى السماء "يغراب يغراب، مشفت ابويه. يم الكببجي، ياكل ويبجي، بيده شمعتين، وحده للعباس ووحده للحسين" واحزن على ابي لأنه يبكي رغم ان ابي لا يبكي ورغم انني اعرف ان لا احد اكل وبكي في عين الوقت وأعرف ان ابي الذي عنفني مرة أن رآني اكل الكباب عند السيد قاسم: "اليس عندك بيت لتأكل فيه؟" ، هو نفسه لا يأكل في السوق ولا يأكل كبابا الا ما تقليه امي في الطاوه.
وينقضي رمضان ويأتي العيد فينقضي ويخلفه عيدٌ اخر ثم ينقضي حتى يأتي رمضان اخر... وهكذا اجدني ما فتئت بين منقضٍ وقادم حتى صرت الى برلين عاصمة الالمان أتذكر... فلا عيد يأتي ولا رمضان يهل...
وتعيشون وتسلمون...

كتبه منير العبيدي ببرلين في العشرين من رمضان