كانت رسمية أيام الشتاء تجلس على عتبة باب بيتهم تحت أشعة الشمس تجدل ضفائرها - لها أربع جدائل طويلة - تقوم بتسريح شعرها عشرات المرات بمشط خشبي تكسرت أسنانه.

كنا نلعب قرب بيتهم شنطره بلبل ..

خرجت إلى الباب ونادتني، كعادتها كانت تحدق في السماء .. مآقيها مرصوصة على إفرازات أزلية .. ترمش في محجرها، أم سالم تقول كانت تفتح عيناها في بعض الأحيان .؟

.." وينك تعال .. روح چيب لي نص ربع دهن من دكان أبو غسان "..

قلت لها بتملل .." أنطيني فلوس "..

مدت يدها .." بسرعة اللحم راح يحترك "..

اعطتني مئة فلس .. كيف لها بمعرفة المقادير وطهي الطعام .؟

وضع أبو غسان الدهن على ورق الكاغد الأسمر في الميزان .. ثم وضعه بيدي وفي اليد الأخرى وضع فيها باقي النقود..

كانت الشمس عموديه .. مشيت خطوات .. الدهن فقد صلابته وبدأ يتمرجح يميناً ويساراً ، حاولت التوازن والسير في خط مستقيم وضعت يدي الأخرى تحت الكاغد خوفاً من سقوط كتلة الدهن المائعة - أسرعت - على بعد عدة أمتار من باب بيتها سقط الدهن على رجلي ودخل بين أصابع قدمي ...

وضعت منى صحنا مليئا بالمكسرات أمامنا، نظر لها عادل باستغراب .. كانت تريد شراء سكوتي .. حاولت مرات عديدة أن تختلي بي وتحدثني، لكني تجنبت كل محاولاتها، لم تكن لدي رغبة بمعرفة أسرار الآخرين لأن بعضها مضر والتفكير بها يشغلني عن اللعب. جلست حليمة بجانبي وابنها بحضنها وأخذت تأكل من صحن المكسرات امامنا..

قالت لها .."عوفيهم يأكلون ".. انزعجت من تجاهل حليمة لها وأعادت عليها الكلام. .." هسه أنتي شنو دخلك ".. أجابتها حليمة وهي تنظر الينا لترى إذا كنا معترضين -

ابتسمت لها - واستمرت بالأكل. . عندما انتهى رياض من العد ركضت لكي اختبئ ، كنا نلعب لعبة (الختيلان). .

كان أقرب شيء لي بيت رسمية العميه . . بابهم مفتوح كالعادة مثل كل الأبواب إلا من ستارة تغطي المدخل. . أزحت الستارة ودخلت .. دفعها عنه وكأنه اصيب بصعقة كهربائية ..ارتطمت بالحائط .. ..كانوا متعانقين ..غائبين عن الوعي .. كان يقبلها من رقبتها .. أنا غير متأكد !! ...اعتقد كان يستنشقها.. نعم هكذا يفعل العشاق في الافلام .. يشمون بعضهم البعض . . بقيت متكئة على الحائط ، بين الذهول والخدر. . تسمرتُ مثل المخبول في مكاني. . صاحت رسمية من الداخل .." هذا يا مكموع طب علينا. . جمال أنت مو بالباب ".. بتردد قال جمال .." ماكو أحد هذا أني "..

أرادت منى أن تقول لي شيء لكني تركتهم وخرجت…

في المساء كنا نجلس على الأرض في بيتهم ونشاهد التلفاز أنا وعادل وكنت أشعر بها وهي تنظر آلي طوال الوقت، وإذا ذهبت إلى الطبخ عينها لا تفارقني. . هل أطمئنها ..أنا لا أفشي أسرار البنات. . قبل أيام قالت لي أمي اصعد للسطح .." روح صيح انعام .. وين صارت نامت .. هاي ثوله ". كانت قد طلبت من أختي الكبرى أن تصعد إلى السطح لتنشر غسيل الملابس، تأخرت كثيراً ولم تنزل .. صعدت - رأيتها واقفة فوق أحد أسرة نومنا الصيفي ، كانت تنحني بجسمها بين الحين والآخر مخافة أن يراها أحد من الشارع .. كان السرير ملاصقا لجدار السطح المطل على حديقتنا.. كانت مبتهجة فرحه - تومئ بإشارات لم أفهم معناها - الجدار أعلى مني .. حاولت ، لا أستطيع الرؤية .. أريد معرفة لمن كل تلك الإشارات .. لم تشعر بوجودي وقفت بجانبها على السرير لكي أتمكن من الرؤية . رأيت يد اً تلوح .. خليل اخو سميرة ، بالجانب الآخر. . كان ذلك آخر شيء ظهر منه ثم اختفى مثل غريق خلف جدار سطح دارهم .. لم تفهم انعام ما حدث له، شعرت بوجودي والتفت نحوي..صدر منها صوت يشبه العواء.

.." نعله على ! .. اشتعلوا !! " .. نزلنا وهي تقرصني من ظهري وتغرس أظافرها برقبتي خوفا من أن أبوح بسرها. . خنقتني عندما كنا بالسطح صرخت بأعلى صوتي منادياً أمي. . ثم توسلت، قالت .." راح أنطيك ربع دينار وأخذك ويايه لبيت انتصار، أنت مو تحبها ". .

كان عرضها مغري جدا .. نزلت وهي تتبعني ..

صحت على أمي .." يوم . .يمه ".. خرجت أمي من المطبخ ونظرت إلينا ونحن مازلنا نتصارع على درجات السلم ..

.." هاي شبيكم تخبلتوا . . تعالوا راح أصب الغدا ".. أردت أن أتكلم كانت تقف خلفي، سحبتني وأغلقت فمي. أكثر شيء كنت أرغب فيه هو الذهاب لبيت بيت انتصار..

كذبت عليّ انعام ولم تعطني الربع دينار – على كل حال حصلت على ربع دينار اخر عصر نفس اليوم، عندما خرجت ورأيت الأولاد يحيطون بطفل صغير ضائع ويسيرون به إلى غير رويه، كان بعمر الثلاث سنوات على ما أظن. الجميع كان يسأله بصوت واحد .." وين أهلك .. أنت شسمك .. شجابك هنا ". حقا كيف وصل هذا الطفل الغريب إلى زقاقنا. .! أوقفتهم.. كان المسكين مثل قط صغير دخل قفصاً للقرود ، أتعبه البكاء وأخذ يشهق .. أبعدتهم عنه وتقمصت دور شخص كبير.. سألته .." عمو انت ابوك شسمه ".. كانت عيناه مليئة بالدموع، يبدو انه لا يستطيع الكلام لا يعرف غير كلمة ماما وبابا.. التفت نحو رعد الأعرج الذي كان ماسكاً بيده وقلت له .." شلون هسه "..

قال .." خلي ناخذه لمركز الشرطة أحسن شي ".. وافقت بالحال .." خوش فكرة .. منو يروح ويانا ".. عماد ابو حلگ رفض طبعاً، قلت له .." جبان ما عليك عتب ". عبد الباقي رفض أيضا. . هذا العِجلْ لا يحب ان يسير مسافات بعيده.

.." لا أريد الذهاب برفقة رعد ! "..

فهذا المسكين لا يستطيع المشي لمسافات طويلة بالإضافة إلى انه بطيء جداً.. يسير بشكل منحني متكئاً على رجله اليسرى شديدة النحول يمسكها ثم يحملها ويرميها أمامه .. أصيب

بشلل الأطفال عندما كان رضيعًا. أخذنا الطفل الضائع وسرنا به .. كان مخفر الشرطة يقع خارج الحي ، اخترنا أقصر الطرق .. توقفنا لمرات عديدة. عندما وصلنا كان أبوه يقف بباب المخفر، وخلفه يوجد باب سجن حديدي يقع في نهاية الممر على الجانب الأيمن من باب المخفر ، كان فيه مجموعة من الرجال يلوحون بأيديهم لنا وكان واحد منهم ممسكاً بأعضائة التناسلية يهزها لنا .." تعال ياولد .. تعال هنا ياحلو".. ضرب الشرطي الذي يقف بجانب الباب القضبان الحديدية بعصا كانت بيده ..

.. كانت المرة الأولى التي رأيت فيه سجناء وسجن حقيقي .. استقبلنا أبوه - كان يعلم بقدومنا - شكرنا كثيراً .. أعطاني ربع دينار .. كذلك أعطى رعد أبو العرجة ربع دينار آخر .

.. حمل ابنه ورحل. في المرة الأولى التي ذهبت فيها مع أنعام إلى بيت انتصار قبلتني بشفتيها العريضتين قبله صوتها بقي يرن بأذني لفترة طويلة..

.. ابتل خدي بقبلتها وأخذتني إلى عوالم أخرى..

كان بيتهم مؤثث بشكل أنيق جدا، أمها كانت باستقبالنا أيضا .. قدمت لنا كل أنواع الحلويات اللذيذة ... انتصار صديقتها المقربة ، ومحل أسرارها ، طالبة جامعية بعكس أنعام الكسولة التي لم تستطيع عبور السادس الإعدادي لسنتين .. تقضي معظم النهار بقرائه المجلات المصورة وسماع أغاني الراديو ومشاهدة الأفلام العربية .. لا تقوم بعمل أي شيء آخر.

عندما تطلب منها أمي المساعدة أو عمل أي شيء تناديها مئة مره فلا تجيبها، فهي دائما في سرحانها الاخوث. . تصرخ أمي بها.." ليش ما تجاوبيني .. عوبه أم وجه الأصفر .. إني كم مرة صحت عليچ ".. خليل عشيقها أجمل منها بكثير، ماذا كان يعجبه فيها .. رغم ذلك أرسل أمه لخطبتها .. رفض أبي رفضا قاطعا ؟..

في المرة الثانية أصيبت انعام بإسهال شديد .. كنت أراقبها وأحسب لها عدد المرات التي تذهب بها مسرعة إلى المرافق وهي تمسك مؤخرتها..

كانت تتوقع أن يوافق أبي عليه هذه المرة..

.. حضر أبوه مع رجال ازدحمت بهم صالة بيتنا .. مازالت صغيرة ونريدها أن تكمل دراستها.

سئلت أمي وأنا أجلس بجانبها في بيت أم جمال .." هي رسمية صدك عميه ".. أمسكتني من فمي وسحبت وجهي من أسفل فكي إليها ..

قالت .." راح أفرگه لحلگ إذا ما تسكت "..

وألحقتها بضربه على رأسي بكفها.." ليش ما مشطت شعرك .. شنو هاي كفشتك ..عبالك راس مال طلي "..

قلت .." هسه منو راح يشوفني ..هيه عميه "..

أغلقت فمي بكفها لكي لا أصرخ وعضتني من ذراعي وعينيها بأتجاه المطبخ .. عندما تأكدت بأني لن اصرخ رفعت كفها عن فمي ..

.." هو انت أدمي ينطلع بيك .. أبو الشوارع "..

رسمية كانت تمشي داخل البيت ورأسها مرفوع إلى الأعلى وكأنها ترسل ذبذبات.. رغم بدانتها لكنها تمشي برشاقة بين أروقة وأثاث البيت. عادت من المطبخ تحمل بيدها صينية فيها الكعك وأقداح الشاي..

.." زارتنا البركة اليوم "..

انحنت ووضعتها أمامنا .. كادت جدائلها التي لاحها الشيب أن تنغمس بالشاي .. رأيت عيونها من قريب .. يا ليتني لم أر .. لم أنم ليلتها.

لماذا إذن شعرت بضوء المصباح اليدوي عندما وجهته إلى وجهها ؟. كان المصباح كبير بثلاث بطاريات اشتراه أبي - أخذته للعب - كان معي عادل، نوجه ضوء المصباح إلى السماء بشكل عمود يشق ظلام الليل .. خرجت وجلست على عتبة باب بيتهم، نظر إلي عادل .. فهمت ماذا يريد وجهت عمود الضوء على وجهها. صاحت بصوت عالي .." هذا منو ".. هربنا. . غير مصدقين. ؟ قال عادل وهو يلهث .." خرب آنه "..