يسعى الكاتب رعد الحلّي بخيال مفرط أن ينشئ باللغة علاقة غرام أسطوريّة بين الموّفدة الانكليزيّة إلى أرض العراق غيرترود بيل وهي المرأة ذات العرق الآري الأنكلوسكسن عام ألف وتسمائة وعشرين وشعبه السامي العرق الذي تجسده شخصيّة يتيم المرسومة بمهارة متميّزة من قبل الكاتب في روايته خلخال العشق الصادرة عن دار كلكامش للنشر والتوزيع لسنة ألفين وإثنتي وعشرين والتي تستعرض أحداث تاريخيّة هامة صنعت مستقبل العراق الحديث بعد هزيمة المحتل العثماني عام ألف وتسعمائة وأربعة عشر ومجيء المستعمر البريطاني الصاعد الذي رددّ مقولته الكاذبة حاله حال كل مستعمر أنه جاء محرراً وليس محتلاً وفي قرارة نفسه يدرك بأن يديه وقعت على صيد ثمين خاصة بعد اكتشاف النفط الذي تمتلئ به أراضي العراق من شماله إلى جنوبه في حقبة خطيرة من حقب التاريخ الصناعي الأوربي , وقد حاول الكاتب أن يبقي على الذاكرة التاريخيّة للأحداث والشخصيّات التي تبدو مغيّبة للكثيرين خاصة وإن الكتب التاريخيّة والمناهج التعليميّة العراقيّة ابان حكم الأحزاب القوميّة كانت قد ركزت على ثورة الزعيم المغدور عبد الكريم قاسم وانقلابه العسكري الذي طرد البريطانيين وألغى الملوكيّة معلناً قيام الجمهورية عام ألف وتسمائة وثماني وخمسين وثورتها التي جاءت بعده لحكم العراق حتى الغزو الأمريكي عام ألفين وثلاث ولربما كان هذا الحدث مناسباً جداً لنهاية الروايّة التي اختار لها الكاتب نهاية مختلفة تماماً بمظاهرات سلميّة تنبذ العنف الذي لا يخلف سوى العنف.
مثلما نجح في بناء شخصيّة الملك فيصل الأول ملك العراق الذي أسماه مشعل وهي شخصيّة حملت بداخلها خصائص انسانيّة عالية ومختلفة متناقضة مثل كل شخص بغض النظر عن مكانته الاِجتماعيّة والوظيفيّة تمثلت بالأبوة التي أراد لها أن تكون حاضنة لكل العراقيين الذين تفاجؤأ بظهوره في بلدهم وهو العربي القادم من أرض الحجاز صديق البريطانيين ومقاتلهم ضد العثمانيين ولعل مشهد تحطم الطائرة التي كان الملك يقودها بنفسه والعثور عليه من قبل يتيم من أكثر المشاهد في الروايّة التي تفضح العلاقة المفقودة بين شعب الأرض التي يزيد عمره على عشرة آلاف سنة وملك غريب نصبه اصدقاؤه الغرباء البيض ليكون ملكاً على هذا الشعب الذي قبلَ به ملكاً بعدما أنقذه من موت محتوم وداوى جراحه بأخلاقه الحضاريّة المتوارثة لكن الذي تأتي به أرادة الأجنبي لا يمكن أن يكون سوى أداة مطيعة لا حول لها ولا قوة مثلما يعلمنا التاريخ فالغربيون سواء كانوا مستعمرين أو امبرياليين لا يقبلون بك أن تكون نداً لهم على الاطلاق لكن ممكن أن تكون خادماً لهم بمعنى العامل الذي يتقضى أجراً ويسكت على أفعالهم باعتبارهم أصحاب القوة التي تعلموها من مقولات كبار مفكريهم وفلاسفتهم الذين زرعوا فيهم حب الذات التي تدعي التفوق دائماً فلا غرابة أن يغتالوا الملك في أحداث الروايّة السرديّة التي مسك الكاتب فيها ميزة هامة جداً ألا وهي التوازن بين الحوار المتنامي الصاعد بالحدث والسرد المعقول الذي يبتعد بذكاء عن الشاعريّة التي تقتل أحياناً كثيرة فنيّة الروايّة ومن المشاهد الذكيّة أيضاً المحبوكة بدرايّة تامة مشهد اللحظات الأخيرة للضابط العراقي العربي في الجيش العثماني المسمى في الروايّة جوري الزعيد وتتبع تحولاته النفسيّة من مقاتل شجاع لا يهاب الموت غيور على حرمة تراب بلاده إلى سياسي جبان انتهازي لا يهمه سوى مصالحه الشخصيّة بعدما نجا من الموت بمساعدة بريطانيّة أشرف عليها القائد البريطاني المسؤول آرثر ديلامير بنفسه وهي خصيصة لم يجدها الضابط العثماني عند قادته وسلاطينه الذين كانوا يصعدون على ظهور البشر كي يركبوا خيولهم المعتنى بزينتها أكثر من رعيتهم ومثل شخصيّة هذا الضابط الكثير من النماذج التي تنظر إلى مصير الشعوب والأمم بشكل أناني بمعزل عن العمل المشترك التي تذوب فيه ذوات الجميع الذي يبني الدول ويجعلها قويّة يحسب لها ألف حساب في المعدلات العسكريّة والسياسيّة كذلك شخصيّة مسز جيل البريطانيّة التي اشتغل عليها كثيراً لنقلها من الشفاهيّة الأسطوريّة التي تلف شخصيتها إلى الواقعيّة المتخيلة كامرأة لها رغبات وعواطف وقوة وضعف ومحدوديّة ماراً على حضورها في تاريخ العراق الحديث ومحاولاتها الجادة ومساهمتها في تكوينه مثلما يعتقد الكثيرون اليوم ممن يفصلون العراق عن تاريخه القديم وهو الذي أسماه الأغريق بالمسابوتاميا أي بلاد مابين النهرين
كذلك الدولة العباسيّة وعاصمتها بغداد عاصمة الاِمبروطوريّة الاسلاميّة في القرن العاشر الميلادي التي كانت حدودها ممتدة من الصين حتى جزيرة صقلية في بلاد الرومان إلى بلاد المغرب العربي ومصر إلى أرض الجزيرة العربيّة وبلاد فارس والأناضول.
مرة وصفت مس بيل المسماة في الروايّة مس جيل الشعب العراقي بالشعب الحالم الذي يمتهن كتابة الشعر والابداع غير العالم بالسياسة وتغيراتها المستمرّة القاسية التي تتطلب من الشعوب أن تتنازل عن كبريائها والاعتداد بنفسها مثلما حاول الأمريكيون المحتلون لأرض العراق وشعبه حديثاً ولم ينجوا لحد هذه اللحظة ومثلما حاول الأسكندر المقدوني حينما دخل بابل سنة ثلاثمائة واثنان وثلاثين قبل الميلاد بعدما هزم الفرس ضارباً عرض الحائط نصائح معلمه الفيلسوف أرسطو الذي نصحه بالتعلم من العراقيين وليس تعليمهم فمنهم جاءت الكتابة وقوانين الزراعة وفن المعرفة
لكن غرور القوة التي تتمادى مثلما يسرد لنا الكاتب الأحداث التي هيّأت إلى مقتل إبن الملك فازي الذي لم يستطع أن يكون ملكاً برغماتيّا مثلما تفرضه السياسيّة البريطانيّة الغربيّة الجديدة القائمة على المنفعة الشخصيّة ونسيان الثأئر الذي يعتبر جزء من تركيب الشخصيّة العربيّة البدويّة التي ينحدر الملك وعائلته منها ويكون قريباً لشخصيّة عمه الانتهازي الشريف ناصر ورئيس وزرائه السعيد الذي كان ينظر للانكليز نظرة عقلانيّة باعتبارهم القوة الجديدة التي سوف تقود العالم بعدما أرسوا مفاهيم جديدة للتجارة وحرية السوق والمصالح المشتركة التي تفوقت على مبادئ الثورة الفرنسيّة التي تعرضت للأسئلة الكبيرة من قبل الشعوب الأفريقيّة التي وجدت نفسها رهائن لعبودية المستعمر الفرنسي الذي يرفع شعار فرنسة اللغة في البلدان التي يحتلها مثلما فعل في بلاد الجزائر التي ضحت فيما بعد بمليون شهيداً كي تنال استقلالها وطرد المستعمرين الفرنسيين الذين أرادوا أن يقيموا علاقة عشق بينهم والجزائريين بمسميات خادعة كان أغلبها يتحدث عن مفهوم المدنيّة الجديدة التي تلغي مفهوم الدولة وحدودها الجغرافيّة التاريخيّة واستقلاها التي نصت عليه المواثيق الدوليّة واعتماد اللغة وعلاقاتها التي يتمثلها العلم وتطوراته التجريبيّة التي سوف تنقل المجتمعات البدائيّة غير المتحضرة على حد قولهم إلى مجتمعات مدنيّة تسودها علاقات جديدة هي علاقات العمل والإنتاج اللذان يقودان إلى الربح المادي والرفاه الاقتصادي اللذين سوف يكونا قوتا العالم القادمة.
متلاقين مع اصدقائهم البريطانيين الذين قادوا العراق إلى حلف شيطاني أسمه حلف بغداد كان أن يغير موقع العراق كدولة حديثة وإلى الأبد أو ربما إلى قاعدة تسقط فيها الصواريخ الروسيّة حاملة للرؤوس النوويّة بعد الثورية الأشتراكيّة التي قسمت العالم إلى نصفين أو قطبين متحاربين حرباً باردة لم يجن منها العرب وخاصة العراقيين سوى أن يرتموا في الحضن الروسي الشيوعي أو الأمريكي الأمبريالي الذي تسلم زمام القوة من البريطاني الضعيف الذي لم يحصل العراقيون من اِحتلاله لبلادهم سوى الخرائط التي خطت مواقع النفط المتدفق من الأرض وقطع من آثارهم التي نهب أغلبها لتحطيم أرواحهم وخلق حالة من التنكيل النفسي بهم كونهم شعوب لا يليق بها هذا المنجز الأنساني الحضاري العظيم.
تأتي هذه الروايّة التاريخيّة الطويلة المصنوعة بخيال فني عارف بخصائص الروايّة بأعتبارها فناً ابداعيّاً واقعيّاً له القدرة أن يقيم علاقات دراميّة تأخذ القارئ إلى مديات بعيدة متخيّلة لا تكون في نهاية المطاف سوف أحلام وأمنيات تقيمها اللغة التي تحاول أن تتغلب على الوقائع الكبيرة التي يعجز أمامها البشر في تقرير مصائرهم.
سيما وأن المستعمر الأنكليزي أعادة الكرّة من جديد مع حليفه الأمريكي لاحتلال العراق واِذلال شعبه دون الأخذ بنصائح مس جيل أو مس بيل التي اختارت أن تموت وتدفن في العراق في لحظة من تداعيات نفسها المقهورة المعذّبة.

عقيل منقوش. أستراليا. المصادف 6- 6 - 2021
ملاحظة هامة : يرجى عدم اِعادة نشر المقالة في أي موقع من المواقع دون الرجوع للكاتب ومن يخالف ذلك سوف يتعرض للمساءلة القانونيّة.