*إلى نادرة عمران

يتعين عليّ، ابتداءً، أن أفسر مصطلح كلمة "رازونة" الواردة في عنوان مقالتي هذة. فهي، في الاصل، كلمة "عامية" (عراقية على وجه الخصوص!)، تعني شكل لمفردة بنائية غائرة داخل "كتلة جدار " مشيد في مبنى، وهي غالبًا صماء: غير نافذة، و"قاموسيًا" فهي: "الكَوّة"، أو "الحنية"، او "الروشن"، وتسمى ايضا في بعض البلدان العربية بـ "الروزنة"، وجذر الكلمتين: <الرازونة، والروزنة>، كما يفيدنا اللغويون هو، اصلًا، من اللغة الفارسية. و"إتيمولوجيًا" Etymology، فان معنى وتعريف "الكَوّة" (التى هي احدى معاني الرازونة)، وفقًا لمعجم المعاني الجامع، هو خَرْقٌ فِي الجدار، ثَلْمَةٌ، فَتْحَةٌ، نافذة للتهوية والإضاءة ونحوهما وجمعهما: كِوَاءٌ، كُوَّاتٌ، كُوىً. في حين يورد قاموس اللغة العربية المعاصر بان كلمة "حَنِيّة" (وهي الاخرى تفيد بمعنى الرازونة)، ما كان منثنيًا كالقوس:- حَنِيَّة بناء، جمع: حَنايَا وحَنِيّ.

رازونة في قصر بلكوارا (854 -857 م.)ـ سامراء، العراق

وآمل بان القارئ الكريم، الآن، على بينة من أمره إلى ما عنيت به من كلمة "رازونة" كهيئة تنوب عن "عنصر" بنائي، كان وجوده شائعًا في الفراغات الداخلية للمنشاءات المبنية ولاسيما السكنية منها. معلوم أن بواعث ظهور هذا العنصر في البدء، كان لاسباب وظيفية: املتها متطلبات تخفيض كتلة سمك الجدار والاقتصاد في المادة الانشائية، وتقليل الضغط على الاسس لتلافي سلبيات ما يعرف "بالهبوط" الانشائي او الرسوخ Settlement، ثم امسى ذلك العنصر لاحقًا يؤدي حاجات نفعية تحولت مستقبلًا، كما هو منتظر، إلى ميادين لممارسات جمالية تزينّ الفضاءات المتواجدة فيها تلك العناصر. وعن قيمة تلك الجماليات وعن اشكال نماذجها المتوارثة والمتحولة والمضافة عبر مسار طويل شهده منتج العمارة الاسلامية، اتوق أن يكون كل هذا موضوعًا لمقالي الحاضر. وبما اني، الآن، مشغول ("غارق"؟!) في "ثيمتي" البحثية عن <سامراء العمرانية>، فسيكون من الاجدر أن نبدأ من نماذج عمارة تلك المدينة الآسرة، وعناصر "روازينها"، وما منحته من اشكال مميزة، ذات نفس "تأسيسي" في تنويعات هذا العنصر الجميل الحاضر دوما في "انترير" فضاءاتها الداخلية!

معلوم أن عمارة قصور ومباني سامراء، في الغالب الاعم، ورثت تقاليدها البنائية واساليب تكويناتها الفنية من عمارة بغداد العباسية وممارساتها البنائية المتنوعة والمتفردة التى اجترحها معماريوها واسطواتها المبدعون. لكن هذا لا ينفي قيمة وأهمية ابداع ومقدرة كثر من المعماريين السامرائيين الذي اضافوا العديد إلى ما تم انتاجه سابقا، مجترحين لنا روائع تصميمية أغنت ذخيرة منتج العمارة الاسلامية. لقد استطاعت تلك الروائع التصميمية أن "تحفر" لها مسارًا خاصًا بها، قُدّر له أن يكون منصة مفضلة لانطلاق تأويلات وتفسيرات جديدة من قبل مصممين أكفاء متواجدين في انحاء عديدة من جغرافية العالم الاسلامي، مكرسين، بالتالي، بعملهم وببراعتهم المعمارية والفنية منتج العمارة الاسلامية في المشهد المعماري العالمي.

رازونة في قصر بلكوارا (854 -857 م.)ـ سامراء، العراق

عندما شرع الالماني "ارنست هرتسفيلد" (1879 -1948) Ernst Herzfeld، تنقيباته المهمة والرائدة على الارض السامرائية في مطلع القرن العشرين، بحثا عن اطلال تلك المدينة العظيمة التى كانت يوما ما في منتصف القرن التاسع الميلادي تعرف بـ: "عاصمة الدنيا"، لم يدر في خلده ذات يوم من تلك الايام المحصورة ما بين الثاني عشر من تموز والتاسع عشر من اكتوبر 1911، بانه امام "إكتشاف" مدهش لقصر منيف موقع ضمن "قطيعة" من القطائع التى كانت تمنح للقادة العسكريين وبمساحة كبيرة ومسورة، ومشغولة بالبناء والمنشاءات العديدة ذات شكل مستطيل بلغت ابعادها تقريباُ 1165 × 1171 متراُ. وقد شغل القصر الذي استعاد اسمه مجددا "بلكوارا" من سرديات المؤرخين الاسلاميين القدماء، مساحة فسيحة من تلك القطيعة، قدرت ابعادها بـ 464 × 575 متراُ. ويرى كثر من الدارسين بان فترة تشييد ذلك القصر يعود إلى فترة حكم المتوكل الممتدة ما بين 847 -861 م. بل ويذهب بعضهم إلى تثبيت أدق لفترة تنفيذ القصر: إلى سنين محصورة ما بين (854 -857 م). وللقارئ أن يتصور مدى السرعة المذهلة التى تم بها تنفيذ وانشاء ذلك القصر الفسيح في غضون تلك السنين القليلة؛ ذلك لان تغطية مساحة بنائية واسعة تصل ابعادها اكثر من نصف كيلو متر، وضمن تلك الفترة الزمنية المحددة، يعد حتى في وقتنها الحاضر امرًا انشائيًا لافتاُ، في تلك الآوان، كان ذلك بمثابة.. مأثرة بنائية!

علينا التذكير، باننا لسنا معنيين الآن بالحديث عن عمارة ذلك المبنى الرحيب؛ فمهمتنا (وهي غاية المقال)، تبقى ذاتها: "الرازونة" وتمثلاتها المتغيرة! نحن، اذاً، ندين لجهد ذلك الباحث الالماني، الذي لفت نظرنا، لاول مرة، وارشدنا إلى ما تم "اكتشافه" في ذلك الزمن البعيد، من وسائط متعددة واساليب متنوعة لمفهوم "التزيين" في فراغات قصر "بلكوارا" وبضمنها "الرازونة" وحضورها المميز في اكساب قيم جمالية مضافة إلى "انترير" الفضاءات المصممة الداخلية لقاعات وغرف ذلك القصر العتيد. واضح بان ما تم اكتشافه في سامراء من عناصر تزيينية عديدة، قد مرّ في مسار تطوري طويل من حيث الاضافة والالغاء حتى وصل إلى تلك الاشكال والهيئات اللافتة، أن كان ذلك فيما يخص الشكل لذاته ام لناحية "الخامة" المشغوله بها تلك الاشكال. وما نراه من هيئات مميزة لـ "روازين" قصر بلكوارا، هو نتاج ذلك المسار التطوري الذي دأب كثر من المصممين الاكفاء الاشتغال عليه بجهد وكفاءة ليغدو في المحصلة بالصيغة الابداعية التى قدمها لنا المعمار السامرائي، والتى ابانتها تنقيبات ذلك العالم الجليل.

قصر تاش حولي، القرن الثامن عشر -التاسع عشر، خيوة، خوارزم، بلاد ما وراء النهر، روازين قسم الحريم

تتمظهر"روازين" قصر بلكوارا بتنويعات هَيْئاتية متعددة. لكن ما نرى منها عند حوائط قاعات قصر بلكوارا وغرفه هما نموذجين شائعين ومكررين. اولهما المتواجدة عند حوائط القاعات الرئيسية بالقصر، فان زخرفتها تتمثل بوجود رازونة في الجدار فوق افريز في ثلاثة صفوف: الصف الاسفل منها تكون على شكل رازونة مربعة، ثم تليها حنية غائرة طويلة تنتهي بعقد، وفوقها ثمة حنية دائرية. وامتازات "روازين" الغرف الصغيرة بانها كانت مربعة في الاسفل، وفوقها حنايا مفصصة العقود او ذات عقود بيضوية. وقد اشار هرتسفيلد بانه لا توجد في اية حجرة يمكن مشاهدة هذه الصفوف الثلاثة بصورة كاملة. كما لاحظ هرتسفيلد بان بعض الغرف بالقصر كانت تحتوي على رسومات فريسكو على الجص، مثلما كان بعضها مدهون بالذهب اضافة إلى الزخارف الجصية، حيث كانت لاتزال تشاهد في وقت التنقيبات التى اجراها هرتسفيلد في سنة 1911. زينت الواجهة الرئيسية ذات العقود الثلاث في بعض امكنتها بالفسيفساء الزجاجي على ارضية مذهبة، حيث كانت الفروع النباتية تؤلف عناصرها الرئيسية. وقد استخدمت الالوان بصورة كثيفة في الزخرفة، وكان من بينها اللون الاخضر الذي يتدرج من الاخضر الذهبي إلى الاخضر الغامق، وبراعم الزهور والفواكه من اللؤلؤ، والارضية مذهبة اللون.

يمكن، اذًا، بعد هذا العرض السريع وبمصاحبة صور لروازين جدران التقطها "ارنست هرتسفيلد" وقت اكتشافها ورفع الانقاض عنها (انشر بعضها مع هذا المقال)، إعطاء تصور عن طبيعة ذلك "الانترير" الفخم المؤثث بانواع الروازين الغنية بديكوراتها وزخرفتها الجصية، وبما جاورها من رسومات حائطية ملونة، فضلا على توظيف قطع "خزفية ملونة" واستخدامها في سطوح تلك الحوائط، ذلك الخزف ذي البريق المعدني، الذي لطالما اعتبرت سامراء منبتًا ومصدرا له ولانتشاره في عموم العالم الاسلامي؛ كل هذا يُراد به الحصول على "انترير" استثنائي، لافت للنظر، يتمتع باقصى درجات التنوع والثراء في الاشكال والالوان والخامات!

قصر تاش حولي، القرن الثامن عشر -التاسع عشر، خيوة، خوارزم، بلاد ما وراء النهر، روازين قسم الحريم

ومع قناعتنا بان مخيلة قارئ مقالنا هذا، وتأسيساُ على ما تم ذكره من شروحات كتابية لتنويعات اشكال "الروازين" والمعززة بصور فوتوغرافية، وما يحيطها من عناصر زخرفية متنوعة، قادرة على استيعاب ملامح ومعالم نوعية الفضاءات الداخلية في قاعات وغرف قصر بلكوارا السامرائي؛ الا اننا، مع هذا، نعيّ امكانية ظهور <قصور> في ذلك الاستيعاب لجهة "رسم" انطباعات بصرية حقيقية عن خصوصية تلك الفضاءات. بمعنى آخر، تبقى تلك الشروحات، اياُ تكن بلاغتها، عاجزة، بشكل وبآخر، عن نقل "المشهد" المتكامل والواقعي لتلك الفراغات. ولاجل تلافي مثل هذا "النقص" البصري، علينا الذهاب... إلى "بلاد ما وراء النهر" وتفحص، هناك، لغة عمارتها لرؤية ذات <المشهد الانتريري> المتخيل..واقعيًا!

ومقترحنا القيام بتلك الزيارة النائية، تبرره المقولة التى اؤمن بها، وتحدثت عنها في الكثير من دراساتي السابقة، وهي باختصار، من أن "نسخة" العمارة الاسلامية في بلاد ما وراء النهر، ما هي الا تمثيل لمرحلة ثالثة في خاصية التطور المساري الذي مرت به العمارة العباسية، والذي بدء في بغداد اولا، ومن ثم في سامراء لاحقًا وانتهى عند بلاد ما وراء النهر، مكرسًا "نسخته" الثالثة في ذلك المشهد المعمارى هناك. فقد اعتمدت عمارة ما وراء النهر في الكثير من نجاحاتها التصميمية على الارث المعماري الذي شاع وتبلور في سامراء وذلك لاسباب عديدة، ليس المقام هنا ملائما لسردها والاشارة اليها. (لقد اتينا على ذكر تلك الاسباب في كتابنا : العمارة الاسلامية في بلاد ما وراء النهر، عمان 2018). فما كان متداولًا في الفضاءات الداخلية للكثير من مباني سامراء، امسى امرًا شائعا ومألوفًا في تنظيم الفراغات الدخلية للكثير من المباني في بلاد ما وراء النهر. ولعل تشكيلات مفردة الرازونة، التى شاهدتها ميدانيا اثناء زياراتي المتكررة إلى ذلك الاقليم، وتحديدا في قصر "تاش حولي" (وتعني بالاوزبكية: <القصر الرخامي>)، وهو مقر حاكم مدينة "خيوة" في خوارزم؛ تعكس بوضوح فعالية التأويل التى اشتغل عليها معماريو واسطوات بلاد ما وراء النهر. اذ تتبدى تلك المفردة بقسم "الحريم" في ذلك القصر المنيف بهيئتها المميزة، وبمرجعية تصميمية مستمدة من الارث المعماري السامرائي وتحديدا من اشكال "روازين" قصر بلكوارا المتفردة.

قصر تاش حولي، القرن الثامن عشر -التاسع عشر، خيوة، خوارزم، بلاد ما وراء النهر، روازين قسم الحريم

من جانب آخر، يمنح المسار التطوري لمفردة الرازونة، التى شاهدنا تبعات نتائج الاشتغال عليها من قبل مصممين عديدين في ازمنة متباينة وامكنة مختلفة، امكانات حقيقية ومثمرة لفعالية "التناص" ولاجراءات التأويل. ويبين ذلك المسار قيمة واهمية "التاثير" و"الميراث" الحضاري في العملية الابداعية، لجهة الذهاب بعيدا نحو بلاغة تصميمية جديدة قادرة على ارساء امكانات عديدة في تنويع الابداع وتكريسه بالمشهد التصميمي الآني. وليس شرطا، مثلما ليس مطلوبا، أن تستعاد "اشكال" الروازين بصيغتها التشكيلية الماضوية، لناحية الاحساس بقيمة التأثير والميراث، وانما يتعين استعادة "روح" الابداع ونَفَسه الكامنة في آليات ذلك المنجز التصميمي القابلة للاستدعاء!