في نص بديع، تحدّد الكاتبة الفرنسية الكبيرة مارغريت دورا معنى الكتابة. وهي ترى أن الكتابة مُرتبطة بالوحدة. لذلك غالبا ما يكون الكتّاب مُتوحدين بأنفسهم سواء كانوا في المدن الكبيرة، أم في القرى الصغيرة، أم في الأرياف: "وحدة الكتابة وحدة من دونها تكون الكتابة فعل عقيم، أو هو يتفتّتُ مُفْتَقَرا للنجاعة لينتهي صاحبه باحثا عن موضوع ما لمواصلة الكتابة. وفعل الكتابة يفقد هنا نَسَغَه فلا يعترف به الكاتب نفسه". وتواصل مارغريت دورا كلامها قائلة:"لا بد من انفصال دائم عن الآخرين المحيطين بمن يكتب. إنها الوحدة(...) وهذه الوحدة الواقعية للجسد تصبح وحدة المكتوب التي لا يمكن اغتصابها".

والكتابة بالنسبة لمارغريت دورا هي الفعل الوحيد الذي يَهبُ حياتها معنى حقيقيا. لذلك لم تنقطع عن الكتابة أبدا في أيّ مكان تحلّ به، سواء في باريس، أم نيويورك، أم في تروفيل حيث اشترت بيتا قديما تحيط به حديقة...والغرفة التي فيها تكتب ليس فيها فراش... وهي شبيهة بنافذة، بها طاولة، وكرسي، وقلم بحبر أسود. تلك هي عادات الكتابة عندها... عادات لا تتخلى عنها أبدا أينما ذهبت، وأينما أقامت... وهي تحب أن تكتب وأمامها كأس ويسكي. وهي لا تحب أن تقرأ لعشاقها الكثيرين ما تكتبه. وعن بيتها في تروفيل تكتب:"بيتي هذا هو مكان الوحدة. مع ذلك هو ينفتح على الشارع، وعلى ساحة، وعلى مستنقع قديم،، وعلى مدرسة القرية. وعندما يتجمّدُ المستنقع، يأتي أطفال للتزحلق، ويمنعوني من العمل. أراقبهم. وكل الأمهات اللاتي كان لهن أطفال يراقبن هؤلاء الأطفال المجانين، الرافضين للطاعة، مثل كل الأطفال. لكن يا له من خوف، ودائما يكون الأمر أسوا. ويا له من حب".

وتضيف مارغريت دورا قائلة:" نحن لا نعثر على الوحدة، بل نحن نبتكرها، ونصنعها. الوحدة تصنع نفسها بنفسها لأنني قررت أن أكون هنا، وأنه يتوجّبُ عليّ أن أكون وحيدة، وأني سوف أكون وحيدة لكي أؤلف كتبا. هذا ما حدث. وكنت وحيدة في هذا البيت. حبستُ نفسي-وكنت أيضا خائفة. ثم أحببت أن أكون محبوسة بإرادتي. كتبي تخرج من هذا البيت. وأيضا من هذا الضوء الذي يأتي من الحديقة، ومن الضوء المنعكس على المستنقع. وكان لا بد أن تمر عشرين سنوة لكي أكتب هذا الكلام".

وترى مارغريت دورا أن الوحدة تعني أيضا "الموت والكتب". كما تعني أيضا، وقبل كل شيء، الكحول، خصوصا الويسكي الذي يساعدها على النوم حين ينتابها السهاد والأرق المفزع. وهي تحرص على إنهاء كل كتاب تشرع في تأليفه. ولا يمكن أن يمنعها من ذلك لا تقلبات الطقس، ولا أي شيء آخر من الأحداث الكبيرة أو الصغيرة التي تطرأ سواء على حياتها، أم على العالم لأن الكتابة "تنقذها". وعندما تنقطع عن الكتابة، تجد نفسها أمام فراغ هائل. لذلك فإن الكتابة كامنة في كل ركن من بيتها الفسيح. هي في غرفة النوم، وفي قاعة الجلوس، وفي المطبخ، وفي المكتبة...ووحدة الكتابة تجعلها شبيهة بكائن متوحش". وتضيف مارغريت دورا قائلة:" الوحدة تكون مصحوبة دائما وأبدا بالجنون. وأنا أعلم ذلك. ونحن لا نرى الوحدة. أحيانا نشعر بها فقط. وأعتقد أنها لن تكون مختلفة عن صورتها الحقيقية. حين نستخرج كل شيء من داخلنا، فإننا نجد أنفسنا حتما في حالة من الوحدة التي لا يمكننا أن نتقاسمها مع أيّ أحد. وليس باستطاعتنا أن نتقاسم أيّ شيء. وعلينا أن نقرأ مُتوحدين بأنفسنا الكتاب الذي نحن كتبناه، وأن نحبس أنفسنا داخله. ويمكن أن نقول أن الأمر يتعلق هنا بجانب يكاد يكون دينيّا، إلاّ أننا لا نشعر به فورا على هذا النحو. ويمكننا أن نفكر فيه في ما بعد (مثلما أفعل أنا الآن ) بسبب شيء ما قد يكون متعلقا بالحياة مثلا، أو بحل لحياة الكتاب نفسه، وبصرخات صمّاء مرعبة لجميع شعوب الأرض".

والكاتب بالنسبة لمارغريت دورا "مثير للفضول". وهو تناقض ولا معنى إذ أن الكتابة تعني الصمت. وتعني أن نصرخ من دون صوت.

وتقول مارغريت دورا أن ما تعيبه على البعض من الكتب التي تقع بين يديها هو "انعدام الحرية فيها". لذلك بإمكاننا أن نرى أصحابها من خلال طريقتهم في الكتابة. فهؤلاء يلجؤون إلى التصنع، والتكلف، وتقنين ما يكتبون بقواعد مضبوطة، وبأساليب مُكرّرة، ومعهودة، مُتجنبين المغامرة، والخروج عن السائد والمألوف. ومعنى هذا أن هؤلاء الكتاب يلعبون في الحقيقة لعبة الرقيب تجاه أنفسهم، وتجاه كل كلمة، وكل فقرة يكتبونها. أما كتاب مارغريت دورا المفضلين فهم سان- جيست، وهو أحد رموز الثورة الفرنسية، وستاندال، والمؤرخ الشهير ميشليه الذي تعشقه "حد الدموع". كما تعشق أيضا "العهد القديم".

وتكتب مارغريت دورا قائلة:" بعض الكتاب يرتعبون ويخافون. يخافون من الكتابة. وما أنا أعتبره إيجابيا بالنسبة لي هو أنني لم أخشى أبدا هذا الخوف. وقد كتبت كتبا غامضة لكنها قرئت. وهناك كتاب قرأته مؤخرا، وهو لم أفعله منذ ثلاثين سنة. وقد وجدته رائعا. عنوانه: "حياة هادئة". وقد نسيت كل شيء في هذا الكتاب باستثناء الجملة الأخيرة:" لا أحد رأى الرجل وهو يغرق سواي". وقد كتبت هذا الكتاب دفعة واحدة بمنطق عادي وشديد السواد لجريمة قتل. وفي هذا الكتاب، يمكننا أن نذهب أبعد من الكتاب نفسه، وأبعد من الجريمة أيضا. ونحن لا ندري أين نذهب".

وتختم مارغريت نصها عن الكتابة ومعناها، وخفاياها قائلة:" أنه المجهول الذي نحمله في داخل أنفسنا: أن نكتب، هذا ما نحن بلغناه ووصلنا إليه. هو هذا أو لا شيء. وليس بسيطا ما أنا كنت أحاول أن أقوله. لكن بإمكاننا أن نكون رفقاء في الكتابة بقطع النظر عن البلدان التي ننتمي إليها. هناك جنون الكتابة، وهو في حد ذاته جنون عاصف للكتابة لكن ليس بسبب ذلك نحن في الجنون. بل بالعكس. الكتابة هي المجهول. وقبل أن نكتب، نحن لا نعلم شيئا عن ما سوف نكتبه. وكل هذا بكل وضوح وصفاء ذهنيّ. إنه مجهول ماهيتنا، ورأسنا، وجسدنا. والكتابة ليست تفكيرا، إنها نوع من المَلَكَة التي يكتسبها الانسان إلى جانب شخصيّته، موازية لنفسها، ملكة لشخص يظهر ويتقدم لا مرئيّا، وله فكر، وغضب، وأحيانا، بإرادته هو في خطر إلى درجة أنه بسبب ذلك يفقدُ حياته. ولو نحن عرفنا ما سوف نكتب، قبل أن نفعل ذلك، فإننا لن نكتب أبدا. وسيكون ذلك غير ذي جدوى.(..) الكتابة تأتي مثل الريح...إنها العراء، وهي الحبر، وهي المكتوب"...