يرى الفيلسوف الألماني الكبير غادامار أن على الشعوب أن تستفيد لا من تاريخها فقط، بل من تاريخ الشعوب والأمم الأخرى حتى ولو كانت بعيدة عنها. لذلك على العرب الذين يعيشون الآن نزاعات دينية وعقائدية خطيرة أن يسعوا إلى الاستفادة من تاريخ شعوب القارة الأقرب إليهم.

أعني بذلك أوروبا التي عرفت هي أيضا قبل نهضتها التي جعلت منها سيدة العالم، حروبا ونزعات دينية مزقت أوصالها، وضرّجت أراضيها بدماء آلاف الضحايا . وهذا ما حدث خلال ما أصبح المؤرخون يسمونها بـ"حرب المائة عام".

كما يتوجّب عليهم الاستفادة من تجارب كبار رجال الدين المسيحيين الذين أصلحوا شؤون بلدانهم، وعنها صدّوا مخاطر جسيمة. والألماني مارتين لوثر واحد من أعظم هؤلاء، ومن أكثرهم حضورا. لذا فإن تأثيره كان كبيرا شمل العديد من البلدان الغربية.
كما أن أفكاره وتعاليمه لا تزال حاضرة في ذاكرة الملايين. وفي افتتاحية العدد الذي خصصته له، كتبت المجلة الفرنسية "تاريخ" تقول: "إنّ البعد الأوروبي لذكرى لوثر تتجلى بوضوح من خلال هذا التحليق السريع: من القرن السادس عشر وحتى أيامنا هذه، كل عصر رأى فيه ما يعكسه، وليس رجلا من الماضي. وكلّ عصر سعى إلى أن يتماثل معه، وأن يكون صورة منه".

وقد حظي مارتين لوثر بتقدير وإعجاب العديد من كبار الفلاسفة والمفكرين الغربيين، وفلاسفة الأنوار الذين ظهروا في القرن الثامن عشر كانوا أول هؤلاء. وكان كانط قد أشاد به أكثر من مرة، مُركزا على أنه قدّم الوعي على النظرية الجامدة. وعبّر هردر عن تقديره له للدور الهائل الذي لعبه في تحرير اللغة الألمانية من القوالب الجامدة، ومن البلاغة الثقيلة لتصبح لغة الأدب والفلسفة. وقد اعترف غوته بقدرة لوثر الفائقة على "تحرير الفكر من القيود التي كانت تكبله".

واعتبره توماس كاريل واحدا من كبار المفكرين الذين ساهموا في التحرر من الماضي. ويعتقد المؤرخ الفرنسي الكبير ميشليه أن لوثر يجسد العبقرية الشعبية في أبدع مظاهرها".

أما المفكر الفرنسي لوسيان لوفافر فقد كتب عنه يقول: "إن لوثر في تعقيداته الحيّة ينسجم ويتأقلم مع الكثيرين من دون أن يكون تابعا لأيّ أحد. وهو يأخذ من الجميع، ليجد نفسه أخيرا في وعيه الذي قد يكون ازداد ثراء واتساعا".

وكان لوثر محطّ إعجاب كبار الفنانين الذين عاشوا في عصره، أو في عصور لاحقة. وهناك أزيد من500 رسم يجسده في أوضاع، وفي حالات مختلفة. وكان الفنان الشهير دورر يأمل في إنجاز رسم له، إلا أنه لم يتمكن من ذلك. أما الفنان لوكاس كراناخ القديم الذي كان من مشاهير زمنه، فقد كان أول من أنجز رسوما له. وقد وُزّعت تلك الرسوم في جميع أنحاء ألمانيا.
كما رسمه فنانون آخرون وقد بدا سمينا، مُهاب الطلعة، يجر عربة يتجمع فيها كل مريديه وأنصاره، وقد أمسكوا بالإنجيل الذي كان أول من ترجمه إلى اللغة الألمانية لتصبح قراءته متيسرة لأكثر عدد ممكن من الناس.

ويعتقد مارتين لوثر أنه ولد عام 1484، إلا أن المؤرخين أثبتوا من خلال أبحاثهم الكثيرة أنه ولد في العاشر من شهر نوفمبر-تشرين الثاني 1483.
هو ينتمي إلى عائلة متوسطة الحال كانت تعيش في المقاطعة التي تسمى راهنا بـ"الساكس أنهالت". وبعد زواج والده من مارغريت ليندمان، انتقلت العائلة للعيش في منطقة جبلية كانت غنية بالذهب والنحاس.

وثمة مؤرخون يعتقدون أن العلاقات الاجتماعية التي تتسم بالعنف والقسوة في تلك المنطقة الجبلية هي التي ولّدت في نفس لوثر وهو لا يزال فتى يافعا، الرغبة في التمرد والثورة.
وهناك آخرون يشيرون إلى أنّ البعض من أفراد عائلته كانوا معروفين بميلهم إلى العنف في التعامل مع الآخرين.
ويقال أن أحد أعمامه كان سيء السلوك. لذا مَثَلَ أمام المحاكم أكثر من مرة. وقد يكون قتل رجلا في معركة حدثت في إحدى الحانات الشعبية.
أما هو فقد وصف نفسه قائلا: "أنا حارس غابة، وعليّ أن أقطع الأحراج، وهذا لا يمكن أن يتمّ إلاّ عبر كتابات سجالية. وعليّأن أفتح طريقي بنفسي، وليس عليّ أن أكون ناعما وطريّا".

وعندما أصبح يلقب بـ"أب الأمة الألمانية"، بعد مرور عشرة على تأسيس الإمبراطورية الألمانية في عام 1873، كتب عنه المؤرخ هاينريش تايتشيكه، يقول: "كيف يمكن أن يتعايش في روح واحدة هذا العنف لغضب قادر على أن يدمر كلّ شيء، وهذه الحميّة لعقيدة ورعة، وهذه الحكمة العالية، وهذه البساطة الطفولية جدا، هذا الزهد العميق، وهذا الإقبال على الحياة، هذه الخشونة المشذّبة بطريقةٍ سيئة، وهذه الطيبة التي تسكن قلباً شديد الحساسية. بالنسبة لنا نحن الألمان، ليس هذا لغزا: إنه دم دمنا".

وقد يكون الفتى مارتين لوثر تأثر بوالده الذي كان يفضل تخصيص المال الذي يجنيه من عمله في المناجم لأطفاله وعائلته عوض منحه للكنيسة. لذلك سوف يشرع في ما بعد، وقد تجاوز فترة الشباب، في التفكير في ضرورة انتهاج إصلاحات تُخلص الكنيسة من الكثير من عيوبها ومساوئها.

وفي عام 1501، انتسب مارتين لوثر إلى جامعة "أيرفورت" ليكمل بعد حصوله على الشهادة العليا فيها، دراسته في القانون، ملبيا بذلك رغبة والده.
وخلال تلك السنوات، فَقَد العديد من أصدقائه الطلبة ومن أساتذته الذين ماتوا فجأة. وقد أرعبته هذه الأحداث الأليمة كثيرا. لذا ترك دراسة الحقوق ليلتحق بدير الرهبان في "إيرفورت".

وفي مدينة "فيتانبارغ" التي انتقل إليها، بدأت أفكار لوثر الإصلاحية تنضج على نار هادئة. فقد تعرف في هذه المدينة الجامعية الهادئة، والتي كانت تطمح إلى منافسة مدينة لايبتزيخ، على شبان يتقدون حماسا للأفكار الجديدة في جميع المجالات.
وكان فيليب ميلانشتون الذي سيصبح فيما بعد أحد مساعديه المخلصين الأوفياء واحدا من بين هؤلاء. معه كان يمضي الساعات الطويلة في الجدل حول قضايا دينية وفلسفية. وفي عام 1510 قام لوثر بزيارة قصيرة إلى روما طاف خلالها في جميع كنائس المدينة.

وفي النهاية شعر أن تلك المدينة التي تعتبر القلب النابض للمسيحية هي في الحقيقة مدينة "ملعونة" فيها تُعشش الشرور والآثام. بل أنه نعتها بـ"العاهرة الكبيرة".

وفي نهاية شهر أكتوبر-تشرين الأول 1571، شرع مارتين لوثر في كتابة تعاليمه، وعددها خمسة وتسعون، ثم علقها على جدران الكنيسة، فهاجت السلطات الدينية ضده، طالبة منه سحبها فورا، إلا أنه رفض طلبها.

ولم يكتف بذلك، بل أحرق علنا القرار الذي أرسله له البابا، والقاضي بطرده من الكنيسة.

وفي عام 1521، تمّ طرده نهائيا من الكنيسة ليظهر مذهب جديد في المسيحية، أعني بذلك المذهب البروتستانتي. ولما مثل أمام الإمبراطور شارل الخامس الذي أمره بالتراجع عن تعاليمه، قال له بأنه لن يخضع مستقبلا للبابا، ولا لقرارات كبار رجال الدين لأنهم "ليسوا معصومين من الخطأ"، ولا تخلو تعاليمهم من "مفارقات وتناقضات". لذا سيكون مُلزما فقط بكلام الله، وبما يمليه عليه ضميره.

وفي عام 1525، تزوج لوثر من امرأة بورجوازية تدعى مارغريت التي أنجبت له ستة أطفال. وفي ليلة الثامن عشر من شهر فبراير-شباط 1546 توفي لوثر بعد صراع طويل مع المرض.