أنا كاتب كان لفترة قصيرة جاسوسًا

الجاسوسية شبيهة بقصص الحب. كل شيء مرتبط بالصدفة، صدفة اللقاءات

جون لوكاريه

إيلاف: في الثاني عشر من شهر ديسمبر من عام 2020، توفي الكاتب البريطاني الكبير جون لوكاريه عن سن تناهز 89 عاما، تاركا للمكتبة العالمية عشرات الروايات عن عالم الجاسوسية الذي فتن به منذ صباه وهو طفل صغير يراقب أفعال وأعمال والده الذي كان " نصّابا ومتحيّلا كبيرا" بحسب تعبيره. وقد ترجمت رواياته إلى جلّ لغات العالم، وحوّلها مشاهير المخرجين إلى أفلام رائعة شاهدها الملايين من عشاق الفن السابع.

ومثل الكاتب غراهام غرين (1904-1991) الذي كان هو أيضا عميلا في جهاز الاستخبارات قبل أن يصبح كاتبا مرموقا، تجوّل جون لوكاريه في جميع أنحاء العالم، وتعرّف على شخصيّات سياسيّة بارزة مثل الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وبريماكوف الذي كان مُشرفا على جهاز الاستخبارات الروسية في الفترة الشيوعيّة (كي جي بي)، والرئيس الإيطالي كوسيغا، ورئيسة الحكومة البريطانية مارغريت ثاتشر، ورجل الاعلام والصحافة روبرت ماردوخ، والعديد من الشخصيات السياسية الكبيرة في أوروبا، وفي الولايات المتحدة الأميركية.

**

وكان جون لوكاريه قد اختار قبل نحو أربعين عاما، الإقامة في بيت بديع كان في ضيعة قديمة. ويقع هذا البيت في آخر نقطة من شمال المملكة المتحدة حيث الضباب وصخب المحيط الأطلسي، والطبيعة القاسية. وفي هذا البيت الذي يحتل مساحة شاسعة، يستقبل زوّراه مرفوقا بزوجته جاين التي تشترك معه في الأناقة الارستقراطيّة، وفي الذّوق الرفيع. وفي العديد من الحوارات التي أجريت معه على مدى العقود الثلاثة الأخيرة من حياته، سمح جون لوكاريه لنفسه بالتدخل في العديد من القضايا السياسية في بلاده، وفي العالم. وفي أحد الحوارات التي أجريت معه عقب صدور روايته التي حملت عنوان "حقيقة دقيقة جدا"، أدلى جون لوكاريه برأيه حول قضية "ويكيليكس التي شغلت العالم انطلاقا من عام 2010 وحتى عام 2013 قائلا:" قد أردتّ عبر هذه الرواية أن أخوض في مسألة الوعي الأخلاقي الفردي من خلال جيلين من الديبلوماسيين الذين يواجهون عاقبة وخيمة خلال عمليّة من عمليّات الجاسوسية المضادة، المباحة باسم الدفاع عن مصلحة الدولة وأمنها. وقضيّتا ادوارد سنودن وجوليان أسّانج تبرز لنا اليوم أنه يمكن استعمال كلّ الوسائل للقضاء على كلّ من يرغب في تبليغنا بما يحدث في الخفاء، وفي كشف الأخبار السيّئة المتصلة بعالم السياسة خصوصا على المستوى العالمي.

باستثناء صحيفة "غارديان"، لم يجرؤ أحد بما في ذلك "بي بي بي سي" على فتح الجدل بشأن محتوى الرسالة التي وجّهها لنا سنودن، وذلك لسببين اثنين. فنحن كنّا نعلم بهذا لكن بطريقة غائمة حتى ولو أنه لم يتيسّر لنا أن نتخيّل المضاعفات الهائلة الناجمة عن ذلك. من ناحية ثانية يمكننا أن نقول بإن الدعاية المضادة للإرهاب، والتي أصبحت سلعة رائجة، قد بلغت الأهداف المرسومة لها من قبل مهندسيها. ومن سخرية التاريخ أن يصبح اسم سنودن مرتبطا بروسيا بعد أن منحه بوتين اللجوء السياسي موقظا بذلك أصداء الحرب الباردة التي كنا نظنّ أنها انتهت وإلى الأبد. في حين أنه -أي سنودن- لم يفعل شيئا آخر غير أن يكشف للأميركييّن أنه تمّ الكذب عليهم والاستخفاف بهم، وأنهم ضحيّة مؤامرة ضخمة مدبرة من قبل أجهزة الاستخبارات المتعددّة الجنسيّات".

في حوارات أخرى، انتقد جون لوكاريه بحدة السياسة الخارجية البريطانيّة بسبب موالاتها الدائمة لسياسة واشنطن ومصالحها. كما أشار الى أن بريطانيا لا تقدم لبعض الدول أجهزة تكنولوجية للجاسوسية إلاّ عندما تكون قادرة على مراقبتها بعد تسليمها. وحمّل جون لوكاريه توني بلير،رئيس الوزراء البريطاني السابق، مسؤوليّة تدخل بلاده في الحرب ضدّ العراق إلى جانب الولايات المتحدة الأميركيّة، وقال في هذا الشأن:” لو لم يمتلك توني بلير جنون الوقوف الى جانب جورج دبليو بوش لما تجاسر هذا الأخير على إعلان الحرب ضدّ العراق. وأنا على يقين من ذلك. ومشكلة توني بلير أنه لا يمتلك الوعي بأنه يكذب. لذلك انتهى به الأمر الى تصديق أكاذيبه. وهو ممثل ماهر منذ بداية حياته. وعندما كان مراهقا، كان أفضل ممثل في الفرقة المسرحية الهاوية التي كان ينتمي اليها، ثم أنه كان محاميا. والمحامون كما هو معلوم يمتلكون دائما القدرة على الشطط وعلى تجاوز الحدود”. وأضاف جون لوكاريه قائلا بأن الحرب ضد العراق كانت "كارثة حقيقية" لأنها اعتمدت على الكذب والدجل،وعلى سياسة خلط الأوراق.

ووصف جون لوكاريه بوريس جونسون أيام كان هذه الأخير وزيرا للخارجية البريطانية قبل أن يصبح رئيسا للحكومة بـ "الشخص الكريه" ناسبا له "دورا قذرا" في خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي. وقال في هذا الشأن:" بعد أن قام (يقصد بوريس جونسون) بشتم كل الأشخاص النزهاء في جميع أنحاء العالم، وتحيّل على الناخبين لكي يصوتوا ب"نعم" للخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو توجّه لم يكن هو نفسه مقتنعا به، تحوّل إلى عازف قيثارة لكي يفصلنا عن الحضن الكبير، ويلقي بنا في المتاهة، قائلا لنا بأنه يتوجب علينا أن نبحث عن مكان آخر للعيش فيه".

وفي أكثر من مناسبة ندّد جون لوكاريه بالسياسة الخارجيّة الأميركية في فترات مختلفة من التاريخ المعاصر سواء في فيتنام، أم في غواتيملا، أم في العراق . ورغم أنها -أي الولايات المتحدة -خسرت العديد من الحروب فإنها لا تزال تواصل سياستها الخاطئة رافضة الاستفادة من دروس الماضي. وقال جون لوكاريه :”المشكلة هي أننا نحن الغربيين، نعتقد أن كل محاولة تقوم بها دولة من الدول لتقرير مصيرها عمل يهدّد مصالحنا ومصالح دولنا. وهذا أمر مخجل، ونقطة سوداء في تاريخنا. وهو سبب كلّ الحروب القذرة المتواصلة الى حدّ الآن".

وبشأن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي الذي خصص له رواية حملت عنوان:" الفتاة الصغيرة صاحبة الطبل"، دعا جون لوكاريه الدول الكبرى إلى التدخل لإقرار سلام دائم في منطقة الشرق الأوسط مؤكدا أن هذا السلام لن يتحقق إلاّ بتقرير حق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة تنهي عذابات شتاتهم .

**

يقول جون لوكاريه، واسمه الحقيقي دافيد كرونفال قبل أن يصبح كاتبا بإنه اختار أن يكتب سيرته بطريقة "مُشَفّرة"، و"مرموزة"، مُضيفا بأن "مراحل حياته أشدّ ضجرا ورتابة من رواياته". وربما لهذا السبب لم يكتب سيرته التي حملت عنوان:" سرداب الحمام" إلاّ بعد أن أنجز القسم الأكبر من عالمه الروائي المستوحى من خفايا الجاسوسية وأسرارها، ودهاليزها، وأبطالها وضحاياها، وجرائمها، ودسائسها، وألاعيبها، وأحابيلها، وحيلها الشيطانية.

ولد جون لوكاريه في التاسع عشر من شهر أكتوبر عام 1931. وعن طفولته كتب يقول:" منذ البداية أحسست كما لو أنني ولدت في منطقة من مناطق العدو. وكانت طفولتي مشحونة بالريبة والشك. ودائما كنت شديد الاحتراس والترقب والتوجس، أتشمّمُ الخدع والأكاذيب، وأقوم بتفكيك الخطب الملغّمة بالألغاز، متظاهرا بأنني فتى عادي من الطبقة المتوسطة". ويعترف جون لوكاريه بأنه تأثر كثيرا في طفولته بوالده رغم أن هذا الأخير كان قد سجن أكثر من مرة بسبب جرائم وأعمال منافية للقانون. عنه كتب يقول:" أنا مدين لوالدي (وفعلا أنا كذلك) بالقلق الوجودي الذي ينخر شخصياتي الروائية التي تتقدم مثل جنود تسمّموا بالغاز بخطوات مُترنّحة على الخيط الرفيع الذي يفصل بين اخلاصهم لقضية نبيلة، وتبرّمهم من الوسائل التي يتوجب عليهم الركون إليها لخدمتها. وأنا لم أواجه والدي أبدا لأنه كان Too big to fail مثلما يقال اليوم عن البنوك. وقد كذبتُ عليه، وبابتكاري لعالم خيالي مُواز لعالمه الخاص، عثرت على ملجأ لكي أهرب منه. وعندما دخلت عالم الجاسوسية الوهمي، شعرت كما لو أنني عدتّ إلى مهد طفولتي. وبعبارة أخرى كل ما تعلمته، كنت قد تعلمته وأنا على ركبتي والدي".

يضيف جون لوكاريه قائلا:" كان والدي نصّابا رائعا، وكان رجلا لامع الذكاء والفطنه، وكان خيّرا وعطوفا، وفي الآن نفسه كان سامّا، ومن الصعب بل من المستحيل أحيانا توقّع الأفعال التي يمكن أن يقوم بها".

أما الأم فلم يكن لها حضور في طفولة جون لوكاريه إذ أنها فرت من البيت العائلي عندما كان هو في الخامسة من عمره من دون أن تترك أثرا. وكان العنف المسلط عليها من قبل والده سببا في هروبها. وكان على جون لوكاريه أن ينتظر بلوغه سن الواحدة والعشرين لكي يلتقي بوالدته أمام محطة قطارات. وخلال ذلك اللقاء القصير، لم تتمكن الأم من الإفصاح عن تفسير واضح ومقنع لهروبها الذي ظل جرحا موجعا يعذب روح وقلب الابن حتى بعد أن تقدمت به السن. ففي حوار أجرته معه قناة فرنسية بعد أن تجاوز سن السبعين، ترقرقت عيناه بالدموع وهو يروي تفاصيل اللقاء المذكور.

**

عند بلوغه السادسة عشرة، غادر جون لوكاريه بلاده لدراسة اللغة والآداب الألمانية في مدينة بارن السويسرية، وفيها سيعيش تجارب سيكون لها تأثير كبير على حياته، وعلى مسيرته الأدبية في ما بعد. وقد ساعدته اللغة الألمانية التي أتقنها على التعرف بعمق على كبار فلاسفتها وشعرائها وكتابها من مختلف الحقب والأجيال. وذات يوم دخل الطالب الشاب كنيسة ليلتقي هناك بزوج وزجته من مواطني بلاده. وعندما توطدت علاقته بهما، طلبا منه إن كان مُستعدا لخدمة بلاده فلبّى طلبهما ليعيش تجاربه الأولى في عالم الجاسوسية، مُقدما للقنصلية البريطانية في بارن ما كان يجمعه من معلومات عن النوادي الثقافية والفكرية والسياسية التي كان يحضر ندواتها، ويشارك في نشاطاتها. ونحن نجد معلومات كثيرة عن تلك الفترة التي أمضاها جون لوكاريه في روايته البديعة:" جاسوس مكتمل المواصفات". والواضح أنه جسّد تلك المرحلة من خلال ماغنوس بيم بطل هذه الرواية الذي يأتي إلى بارن للدراسة، ويعثر على غرفة عند الهر هولينغر الذي يقول له في أول لقاء معه:

- أنت تتقن الحديث باللغة الألمانية حتى أنني ظننت أنك ألماني... لكن يبدو أنك لست ألمانيا.. وإذن من أي بلد أنت من دون أن أكون مُتَطفّلا...

وفي ذلك اللقاء الأول، راغبا في استثارة عطفه، يروي ماغنوس بيم للهر هولينغر العديد من الأكاذيب موهما إيّاه أنه شارك وهو فتى في الحرب العالمية الثانية، وأن جدّه قتل في الحرب العالمية الأولى. أما والده فلا يزال على لائحة المفقودين في الحرب العالمية الثانية. ولعل جون لوكاريه فعل الشيء ذاته في بارن وهو يدرّبُ نفسه على المهام التي سيقوم بها في ما بعد عندما يصبح عنصرا فاعلا وموثوقا به في عالم الجاسوسية.

ذات يوم، يكتشف ماغنوس بيم أن رجلا يدعى أكسل يقيم في قبو الهر هولينغر. وهو شخص غريب الأطوار، مشوّه الجسد، يعتمر قبعة سوداء، وله شاربان بتدليان إلى الأسفل، ولا يكاد يكفّ عن تدخين السيجار الكوبي، فتتوطّد علاقته به. وفي ما بعد سيعيش معه مغامرات عجيبة في عالم الجاسوسية بين فيينا وبراغ في سنوات الحرب الباردة. وقد يكون جون لوكاريه التقى رجلا شبيها بالسيد أكسل خلال الفترة التي أمضاها في بارن.

**

في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، عاد جون لوكاريه إلى بلاده ليكمل دراسته في جامعة أكسفورد. ولعله قام في تلك الفترة بنفس الدور الذي قام به ماغنوس بيم في رواية:" جاسوس مكتمل المواصفات" والمتمثل في الاندساس في حلقات الطلبة المفتونين بالشيوعية ليكتب عنهم تقارير لوكالة الاستخبارات البريطانية. وبعد تخرجه، عمل مدرسا لفترة قصيرة، ثم عيّن موظفا ساميا في السفارة البريطانية في بون التي كانت آنذاك عاصمة لما كان يسمى بألمانيا الغربية، مُكلفا بالشؤون السياسية. وقد ظل في هذا المنصب الذي كان بمثابة قناع يخفي أعماله ونشاطاته في عالم الجاسوسية من عام1954 إلى عام 1964.

عن تلك الفترة كتب:" لقد تعلمت أن أدرس بعمق الأسس السرية للمجتمع. وقد فتنتني العلاقات بين الرجال وبين المؤسسات". ويضيف قائلا :"أنا مدين لعالم الجاسوسية لأنه علمني منذ أن اقتحمته أن أثق بنفسي، وبها أعتدّ. وكان بالنسبة لي بمثابة المناعة ضد الخوف، والتردد، وكل أشكال السلبية واللامبالاة". وهذا ما سوف يرتكز عليه، ومنه يستفيد حين شرع في كتابة رواياته. غير أن عمله في مجال الجاسوسية انتهى مطلع الستينات بعد أن قام الجاسوس المزدوج الشهير كيم فيلبي بالتبليغ عنه لدى ال"كي جي بي" بعد فراره الى موسكو.

يشير لوكاريه إلى أنه كان شاهدا خلال زيارة أداها عام 1961إلى ما كان يسمى ببرلين الغربية على بداية الشروع في بناء الجدار الذي سيشطر العاصمة التاريخية لألمانيا إلى شطرين بعد اشتداد الصراع بين أكبر دولتين في العالم، أي الولايات المتحدة الأميركية التي تتزعم العالم الغربي الرأسمالي، وما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي الذي كان يقود الكتلة الشيوعية. عندئذ بدأت تختمر في ذهنه فكرة رواية" الجاسوس القادم من البرد" التي حققت له شهرة عالمية واسعة، ووفرت له فرصة التفرغ نهائيا للكتابة ليتخلى عن اسمه الحقيقي دافيد كرونفال، ويصبح جون لوكاريه.

يدعى بطل الرواية المذكورة ألك ليماس، وهو جاسوس بريطاني يسعى إلى الحصول على معلومات دقيقة عن النظام الشيوعي في ما كان يسمى بألمانيا الشرقية معتمدا على عملاء من داخلها. إلاّ أن جهاز استخبارات البلد المذكور يتوصل إلى تصفيتهم واحدا بعد آخر، وآخرهم كان يحاول اجتياز الأسلاك الشائكة الفاصلة بين شطري برلين على متن دراجة. وبسبب الأخطاء التي ارتكبها، يُفصل ألك ليماس من عمله لعيش فترة قاسية عرف فيها ألوانا من القهر والمهانة والاذلال ولا مواساة له سوى الكحول . وبعد أن يعثر على عمل في مكتبة، يعشق فتاة تعمل معه في نفس المكتبة. وسرعان ما يكتشف أن تلك الفتاة الجميلة، عضوة في الحزب الشيوعي البريطاني. عندئذ يعود من جديد إلى عالم الجاسوسية ليعمل هذه المرة لصالح أجهزة استخبارات ألمانيا الشرقية(ستازي)، وينتهي مقتولا على الجانب الشرقي من الجدار...

في الرواية شخصيات مثيرة أخرى. فهناك هانس ديتر موندت النازي القديم المشرف على جهاز استخباراتي في برلين الشرقية، ومساعده فيلدر "الذكي والمثالي". وهناك أيضا كونترول المدير العام لجهاز الاستخبارات البريطانية، والجاسوس البريطاني جورج سمايلاي الذي يصفه جون لوكاريه على النحو التالي: "هو جنتلمان عاشق للشعر الألماني، يتمتع بثقافة واسعة، وله تعلق كبير بالشرف وبالقيم الإنسانية".

يقول جون لوكاريه إنه ابتكر شخصية ألك ليماس من الحادثة التالية:" في عام 1961، كنت في بار في مطار "هيثرو" أنتظر طائرتي عندما تهاوى على المقعد الذي بجانبي رجل قصير وسمين في حوالي الأربعين من عمره، ثم أدخل يده إلى جيبه معطفه ليستخرج منه حفنة من القطع النقدية المختلفة، ووضعها على المرفق. وبيديه الغليظتين الشبيهتين بيدي مصارع، تخيّر القطع المناسبة، وطلب كأس "سكوتش" من دون ثلج. وتلك كانت الكلمات الوحيدة التي سمعتها منه لكنها جعلتني أستشعر نبرة ايرلندية. بعدها رفع الرجل كأسه، وشربه على دفعتين بطريقة الكحوليين، ثم انصرف من دون ان ينظر إلى أيّ أحد. وذاك الرجل أصبح جاسوسي في "الجاسوس القادم من البرد".

يعتبر كبار النقاد أن هذه الرواية التي تحولت إلى فيلم مثير لعب دور البطولة فيه النجم البريطاني العالمي ريتشارد بيرتون، أحدثت "ثورة" في مجال الرواية المتصلة بعالم الجاسوسية إذ أنها حررتها من عالم ايان فليميمنغ وبطله جيمنس بوند الذي يتركز على حيل التكنولوجيا المتقدمة ليعرض علينا عالما إنسانيا تكثر فيه الأكاذيب، وتتعدد الخيانات، والدسائس، وفيه لا يكون الجاسوس منتصرا وشجاعا دائما، بل هو شخص لا يكاد يختلف عن الأشخاص العاديين، بحيث لا يمكن أن يكون في مناعة من الخوف، ومن الضعف، ومن الحمق والبلاهة أحيانا.

**

لعالم الجاسوسية في فترة الحرب الباردة نفسه، خصص لوكاريه العديد من الروايات الشهيرة الأخرى مثل "مرآة الجواسيس"، و"مدينة صغيرة في ألمانيا"، و"عاشق ساذج وعاطفي"، و"رجال سمايلاي"، وغيرها من الروايات. عن ذلك، كتب الفرنسي بيار أسّولين: "إن روايات جون لوكاريه ثمرة تجربته وخياله. وفي العمق هي أيضا مجمل تناقضاته. وعالم الجاسوسية وقضية أخلاقيته المُنْثنية إلى الوراء، لم يكن سوى ديكورا لأعماله الروائية، وأما الحرب الباردة فهي اطارها".

يضيف بيار أسولين قائلا :" أن ذكرياته (يقصد جون لوكاريه) شبيهة به: فهي مُحْتشمة، ولبقة، وخفيفة، ومشحونة بالدعابة والسخرية. وأحيانا تكون مؤثرة تأثيرا إيجابيا، ومنوّرَة للعقول، ودائما جذابة وأخاذة. وكل هذه المميزات نجدها في رواياته بدءا بموهبة الملاحظة الخارقة لسلوك الناس وطبائعهم في عاداتهم، وفي مظهرهم، وفي لغتهم. وها عندنا واحد يتقن فنّ التفاصيل. وما لا نجد له أثرا هو التصنع في البناء الروائي وتعقيدات الأوضاع إذ أنه في النهاية لا يمكن تبرير وجود كل هذا".

**

بعد أن غزت إسرائيل لبنان في صيف عام 1982، بهدف طرد المقاومة الفلسطينية منها، سافر جون لوكاريه إلى بيروت ليعيش تبعات الحرب عن قرب، وليكتوي بالأحداث الساخنة التي كانت تشدّ إليها انظار العالم بأسره. ومن وحي رحلته تلك، أصدر رواية حملت عنوان "الفتاة الصغيرة صاحبة الطبل" ليقدم من خلالها رؤيته الخاصة للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني.

بطلة هذه الرواية شابة بريطانية يسارية تدعى شارلي تعمل في فرقة مسرحية هاوية، وتناضل ضد العنصرية، والمظالم المسلطة على الشعوب والأفراد، والمخاطر التي تهدد البشرية بسبب القنابل الذرية. كما أنها تنتقد الصهيونية، وتظهر تعاطفا مع قضايا التحرر في العالم. مع ذلك يتمكن ضابط إسرائيلي وسيم من "الموساد" من "اصطياد" هذه الفتاة "الطيبة" بهدف تصفية شاب فلسطيني يدعى خليل كان قد دبّر العديد من عمليات التفجير في بلدان أوروبية مختلفة لكي "يُسمع العالم صوت شعبه الذي اغتصبت أرضه، وانتهكت كرامته".

في هذه الرواية، انتقل جون لوكاريه من برلين بشطريها، وفيينا، وبراغ، وموسكو، ولندن حيث تدور جل أحداث رواياته السابقة المتصلة بالحرب الباردة إلى منطقة الشرق الأوسط التي أصبحت بؤرة الصراع بين الشرق والغرب بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948. وعلى لسان أحدى شخصيات رواية "الفتاة الصغيرة صاحبة الطبل"، كتب جون لوكاريه يقول :"الإرهاب شكل من أشكال المسرح. نحن نوحي بعواطف، ونحن نخيف الناس، ونثير غضبهم واستنكارهم، ونوقظ فيهم عاطفة الحب أيضا. نحن ننوّرُ عقول الناس، وهذا ما يقوم به المسرح أيضا. إن المغوار(جندي حرب العصابات) هو أكبر ممثل في عالم اليوم".

**

ظن البعض أن انهيار جدار برلين في خريف عام1989، والذي وضع حدا للحرب العالمية الباردة، سوف يُفقد جون لوكاريه ثروته التي جمعها من رواياته السابقة، ويحدّ من شهرته العالمية، إلاّ انه خيّب وأبطل كلّ الشكوك وكل التوقعات. فمن جديد راح يطوف في جميع أنحاء العالم ليكتب روايات جديدة لا تقل روعة واتقانا عن رواياته السابقة، مُتطرقا إلى القضايا الكبيرة التي شغلت العالم في نهايات القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة. ففي "خيّاط باناما"، ينقلنا جون لوكاريه إلى باناما ليروي لنا ما تُحيكه المخابرات البريطانية من دسائس ومؤامرات يتورط فيها خيّاط بريطاني يقيم هناك، ويرتبط بعلاقات وثيقة بكبار الشخصيات السياسية، وبرجال المافيا. وفي "بيت روسي"، تجند المخابرات البريطانية ناشرا محبا لملذات الحياة ليجلب من موسكو في زمن ذوبان الجليد الشيوعي من عالم فيزيائي وثيقة مهمة تتضمن معلومات خطيرة عن التسلح في ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي. وفي Single and Single، يأخذنا جون لوكاريه في رحلة مليئة بالتقلبات والاضطرابات الى قلب عالم المال والأعمال و، ويرسم لنا صورة مرعبة عن عالم الجريمة المنظمة في جميع أنحاء العالم لنكون معه في بريطانيا، وفي روسيا بعد انهيار الشيوعية، وفي مرتفعات القوقاز، وفي اسطمبول، وفي العديد من الأماكن الأخرى.

عن الروايات التي كتبها بعد حقبة الحرب الباردة، كتب جون لوكاريه: "من العالم السري الذي كنت قد تعرفت عليه سابقا، حاولت أن أصنع مسرحا للعوالم الأخرى التي نقيم فيها. وفي البداية، يأتي الخيال، ثم البحث عن الواقع. بعدها تكون العودة إلى الخيال، وإلى المكتب الذي أنا جالس فيه في هذه اللحظة". أما الفرنسي بيار أسولين فكتب: "عكس التوقعات والمخاوف التي برزت هنا وهناك، فإن انهيار جدار برلين لم يكن سببا في إحالة جون لوكاريه على البطالة. وقد أدرك بسرعة أن نهاية الشيوعية لا يمكن أن تضع حدا للتهديد الروسي.

وعلى الرغم من أنه لم يقم إلا برحلتين إلى روسيا (1987و1993)، فإن ذلك لم يمنعه من أن يرى الأشياء بوضوح. والحقيقة أن ما يتميّز به جون لوكاريه هو قدرته الفائقة على الكذب. وهذا ما لم يَجْعلْ منه روائيا متخصصا في الجاسوسية، مُقحما نفسه فيها بطريقة أدبية، وحابسا نفسه في قفصها رافعا منكبيه، بل جعل منه كاتبا كبيرا بنفس مستوى معلميه الكبار، أي جوزيف كونراد، وغراهام غرين".

**

في عام 2016، أصدر جون لوكاريه سيرته الذاتية التي حملت عنوان "نفق الحمام"، وفيها يروي بطريقة مثيرة لا تخلو من الدعابة السوداء التي اشتهر بها العديد من الأحداث الشخصية والعالمية التي كان شاهدا عليها.

فخلال زيارته إلى بيروت لإعداد مواد روايته "الفتاة الصغيرة صاحبة الطبل"، يصف لنا ببّغاء في الفندق الذي أقام فيه قائلا بأنه كان يقلد بمهارة فائقة فرقعة الرشاشات، والعلامات الأولى من السمفونية الخامسة لبيتهوفن.

كما يتحدث في سيرته عن لقائه بالزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ليلة رأس السنة 1982 -1983، وعن مجازر رواندا مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وعن لقائه بعالم الفيزياء الروسي المنشق أندريه ساخاروف، وبعميلين من جهاز الاستخبارات السابق "كي جي بي"... فكانت سيرته كشفا مثيرا عن مسيرته ككاتب على مدى ستة عقود، وعن بحثه الذي لا يعرف التعب والإحباط عن تلك الشرارة التي منحت الحياة والحيوية لمجمل روائعه الروائية.