لا يسعفني أن أتكلم عن بدايات فكر الإسلام السياسي الأول في تركيا الذي بدأه المتّهم بالتعدي على مبدأ الدولة العلماني "نجم الدين أربكان" لارتباطه الوثيق بسلوك زعيم حزب العدالة والتنمية الحالي الرئيس "رجب طيب أردوغان".

ما تشهده تركيا من إحتقان في هذه الانتخابات المرتقبة هي مشاهد استثنائية، وآمال مرتفعة في تصحيح المسار السياسي والاقتصادي والانتصار للإرادة الشعبية المختطفة من حزب العدالة والتنمية بتحالف لم يسبق وخلافات في داخل الحزب الحاكم من مؤثرين انقلبوا على مواقفهم وإلتزامهم مع الحزب.

قلقٌ مشترك من الأحزاب السياسية من السلوك الدبلوماسي للحزب الحاكم في الخلافات مع دول مهمة مثل المملكة العربية السعودية، سوريا، مصر، الإمارات وإسرائيل وغيرها من الدول في المنطقة (تم معالجة تلك العلاقات مؤخراً من أجل الانتخابات الرئاسية). وذلك يضر بمصالح الدولة العليا، ويتعدى على سياسة أتاتورك في انتهاج السلم وعدم استخدام الطموح الحزبي الشخصي كمشروع دولة.

مقدمة عن رئيس حزب العدالة والتنمية:
بعد أن وصل زعيم حزب العدالة والتنمية "رجب طيب أردوغان" للمنصب التنفيذي الأول في الدولة كرئيس الوزراء في عام 2003 -من بعد رئاسته بلدية اسطنبول- وزميله الذي أختير رئيساً للجمهورية التركية "عبدالله جول" بنظام الرئاسة البرلمانية، بدأ "رجب طيب أردوغان" بتغيير مبادئ دستورية وتغيير وجه الدولة الكمالية للعظيم "مصطفى كمال أتاتورك" إلى هدف معلمه المتهم آنذاك "نجم الدين أربكان" من خلال نشر المظهر الديني وتمكين فريق عمله لتقلّد مناصب كبيرة وجهاز الدولة الدبلوماسي الذي غيّر سياسة الدولة وعلاقاتها الخارجية على مبادئ جديدة سريعاً.
كان الملازم الأول له من الأحزاب الأخرى هو (MHP- Milliyeci Hareket Partisi) "حزب الحركة القومية" الذي ارتبط اسمه بالكثير من الاغتيالات للسياسيين والصحفيين وارتباطهم الوثيق مع CIA و MI6 وذلك بالتوغل في النظام البيروقراطي ومؤسسة العدل والأمن القومي وغيرها.
بعد محاولة انقلاب مفبركة -بحسب آراء المحللين والباحثين الأتراك- بادعاء الرئيس "رجب طيب أردوغان" في عام 2016، كان الهدف هو إثارة حالة قومية من خلال هذا الادعاء لإحكام السيطرة ضد أتباع الديني الذي زامل الرئيس لفترة السيد "فتح الله غولان" لأجل المطالبة بتغيير النظام الدستور "البرلماني" إلى الدستور "الرئاسي" بقصد حماية الدولة، ويكون بذلك رئيس الدولة هو السلطة التنفيذية أيضاً.

قام الرئيس بالنظام الدستور البرلماني "رجب طيب أردوغان" بحملة كبيرة لتسويق خطر توغل أذرع المسؤول عن عملية الانقلاب المفبركة السيد "فتح الله غولان" -الذي غادر الدولة في عام 1999- بأن لديه خلايا سامة يجب القضاء عليها، فاستغل الرئيس التركي هذه الفرصة لتوسيع صلاحياته للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية التركية، وهنا يكمن الفشل الإداري والانهيار الاقتصادي التركي -على حسب تحليلات الاقتصاديين الأتراك والعالم- حتى يومنا هذا، فنجح مشروعه (الاستفتاء) ومرر تغيير المركز القانوني من "برلماني" -وهو برمزية الرئيس وإعطاء صلاحية شبه مطلقة لرئيس الوزراء- إلى فردانية القرار والقيادة وتقرير المصير على جميع المصالح والأجهزة الجمهورية "الرئاسي".

بعد تغيير المركز القانوني إلى "دستور رئاسي"، قانونياً أصبح رئيس الدولة "رجب طيب أردوغان" وكأنه معاد تعيينه كرئيس للمرة الثانية على حسب الأحداث السياسية. وهو ما يعارضه الرئيس اليوم، دعوني أضع بعض التفاصيل البسيطة لتسهيل الفكرة:
● تم تغيير نظام الحكم البرلماني في فترة تولي رئيس الجمهورية آنذاك "عبدالله جول" ما قبل عام 2014، وكان قبل التعديل الحق للرئيس بتولي منصب الرئاسة مدة 7 أعوام لفترة رئاسية واحدة، ولكن التعديل الجديد كان ينص على 5أعوام + 5أعوام.
● منع بالحيلة رئيس الوزراء آنذاك "رجب طيب أردوغان" -بحسب رأي الباحثين والصحفيين الأتراك- الرئيس "عبدالله جول" من الترشح مرة أخرى بعد التعديل لاكماله فترة 7 أعوام على النظام القديم، وهو عكس ما دعى إليه الرئيس "رجب طيب أردوغان" في عام 2018.
● تقدم رئيس الوزراء "رجب طيب أردوغان" بأوراق ترشحه للرئاسة بنظام "الدستور البرلماني" بعد التعديل وهو 5+5.
● بدأ الرئيس المنتخب في 2014 "رجب طيب أردوغان" حقبته الرئاسية وإزاحة المعارض لحزب العدالة والتنمية الجديد "عبدالله جول" عن أي صلاحيات في إدارة الدولة أو أجهزتها وأبقى مخصصاته كرئيس سابق فقط.
● في عام 2017 -بعد مرور 4 أعوام على رئاسته- قام بالمشروع المفبرك (انقلاب عناصر فتح الله غولان على الرئيس) وتقدم بمشروع تغيير النظام الحاكم بذريعة حماية الدولة، وبمشاركة "حزب الحركة القومية" المتغلغل في مفاصل الدولة وعلاقتهم المشبوهة بوكالة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية واعتبارهم الدينامو في الانقلابات التركية منذ 1980.
● نجح بالاستفتاء وتم تغيير النظام إلى "دستور رئاسي" وذهب للانتخابات في عام 2018 -بعد مرور 5 أعوام على رئاسته- بتوقيت ذهبي بعد الانقلاب المفبرك واستعطاف القوميين ووصل للرئاسة مرة أخرى.

الانتخابات الحالية وأحداثها المثيرة:
المثير للجدل في تركيا هو أن "رجب طيب أردوغان" يحاول تغيير مبدأه الذي طبقه على رئيس الدولة السابق "عبدالله جول" في عدم الاستمرار لفترة رئاسية إضافية بذريعة تغيير المادة الدستورية المتعلقة بالفترة الرئاسية. فيرى الرئيس "رجب طيب أردوغان" بأن له الحق بفترة رئاسية ثالثة!
وذلك من خلال الادعاء الذي قدمه للشعب بأن التغييرات الدستورية هي بداية جديدة وتلغي الفترات الرئاسية السابقة (بعكس ما فعله مع الرئيس السابق عبدالله جول).

ومرة أخرى دعوني أضع توضيح للمتغيرات بالأرقام والتاريخ لإثبات الخلل الذي يحاول تمريره زعيم حزب العدالة والتنمية:
● تغيّر قانون الفترة الرئاسية من 7 أعوام متصلة لمرة واحدة (في فترة تولي الرئيس عبدالله جول) إلى 5 أعوام على فترتين (5+5)
● انتُخب "أردوغان" في 2014 حتى 2018 = 5 أعوام رئاسية (تخللها تعديل دستوري من خلال الاستفتاء إلى دستور رئاسي في 2017)
● انتُخب للفترة الرئاسية الثانية والأخيرة في 2018 حتى 2023 = 5 أعوام رئاسية (بنظام الدستور الرئاسي)
والمفارقة الخطيرة هنا؛ هي بأنه يعتزم الرئيس "رجب طيب أردوغان" بحسب التصاريح والسلوك السياسي العام بالمخاطرة والترشح للمرة الثالثة مخالفاً للدستور التركي، ولكن هذا القرار هو بيد المحكمة الدستورية التي سيطر عليها خلال التصفية القهرية لمؤسسات الدولة بأكملها بعد الانقلاب المفبرك -بحسب آراء المحللين والصحفيين الأتراك- ولكن بدأت لأول مرة سلسلة من الأحداث الجديرة بالمتابعة والبحث في تغيير الواقع كالتالي:
● الحزب المعارض الجمهوري الكمالي CHP برئاسة السيد "كمال كليشدار أوغلو" نجح في تقريب الرؤى والهدف الأسمى بإزاحة الرئيس "رجب طيب أردوغان" من العبث بالدستور ومقدرات الجمهورية والاقتصاد ومصير الأتراك لأجل مصلحة حزب الرئيس الشخصية.
● نجح بتوافق 6 أحزاب متعاونة في وضع استراتيجية اقتصادية اجتماعية وسياسية للإطاحة بالرئيس والنهضة بالبلد وابعادها عن عبث المجدد العثماني الذي أثبت فشله بإدارة الملف السياسي الخارجي، الاقتصادي والعدالة بتوزيع الصلاحيات، وتلك الأحزاب هي:
○ الحزب الجمهوري الكمالي CHP - CUMHURiYET HALK PARTiSi برئاسة السيد "كمال كليشيدار أوغلو"
○ الحزب الديمقراطي المتطور DEVA - DEMOKRASi VE ATILIM Partisi ويرأسه المنشق عن حزب العدالة والتنمية الوزير الأسبق للاقتصاد والمالية والخارجية السيد "علي باباجان"
○ الحزب القومي الجيد iYi Partisi برئاسة المنشقة عن حزب القومي MHP والوزيرة السابقة للداخلية السيدة "ميرال آكشينار"
○ الحزب الديمقراطي DEMOKRAT PARTi برئاسة السيد "جولتان أويسال"
○ حزب السعادة SAADET PARTiSi (حزب الرئيس إردوغان المطرود منه) برئاسة السيد "تامال كاراموغلو"
○ حزب المستقبل GELECEK PARTiSi برئاسة رئيس وزراء أردوغان السابق السيد "أحمد داوود أوغلو"
● صديقه المقرّب وأحد رجالاته في فريقه التنفيذي سابقاً ووزير الخارجية "علي باباجان" رئيس حزب DEVA أعلن معارضته لزعيم حزب العدالة والتنمية "رجب طيب أردوغان" ورئيس وزراءه السابق أيضاً السيد "أحمد داوود أوغلو"
● شرع "رجب طيب أردوغان" باتهام محافظ اسطنبول الذكي المحبوب المنتمي للحزب الجمهوري الكمالي السيد "إكرام إمام أوغلو" بقضايا كيدية تخص الفساد، وحاول سجنه لمدة عامان ويزيد، ولكن مآربه حتى اللحظة لم تحظى بقبول شعبي وذلك بسبب نجاح حملة محافظ اسطنبول (من أطاح بإدارة حزب العدالة والتنمية بكل قوة في إدارة المحافظة التي اعتُبرت مركزاً مالياً لحزب العدالة والتنمية) في إثبات كيدية الرئيس وحزبه بالإطاحة بالمعارضين بلا سند قانوني أو إثبات ملموس.
● تم اغتيال عضو الحزب القومي MHP السيد "سنان آتيش" بظروف غامضة، وهو المسؤول عن ملف الشباب في الحزب، بصمت غريب لرئيس الحزب السيد "دولت باهتشيلي" وهو ما جعل الأمور تتعقد أمام MHP في أي تزكية لرئيس الدولة مستقبلاً.
● صراعات وتراشقات إعلامية بين رئيس الدولة "رجب طيب أردوغان" و رؤساء الأحزاب الستة المعارضين له بطريقة بدائية وغير منهجية.
● تم إعادة فتح الملف الجدلي بمؤهل رئيس الدولة التعليمي الذي لا يزال محور ضعف، واستمر في تعتيم القضية وتعطيلها في المحكمة بلا دليل يثبت تخرجه من جامعة.
ختاماً؛ تم تحديد موعداً للانتخابات (غير رسمي) في 14 مايو 2023 وهو موعد وُضع من الحزب الحاكم والحزب الموالي المشارك (القومي MHP) قبل أوانه, وسيتم الإعلان عن بدء الحملة الانتخابية قبل يوم الانتخابات بـ60 يوماً على حسب الدستور التركي. وهناك توقعات ومؤشرات عالية جداً بترشيح (ونجاح) رئيس الحزب الجمهوري المعارض السيد "كمال كليشدار أوغلو" لحجم المنافسة الملحوظ بينه وبين الحزب الحاكم، وأعتقد بأن هناك رغبة في صعود رئيسة حزب الجيد iYi PARTiSi السيدة "ميرال آكشنار" رئيساً للوزراء في حال تم نجاح الحزب الحاكم الجديد وتغيير النظام الرئاسي إلى برلماني (مرة أخرى) لإيمانهم بعدم نجاح هذا النموذج في إدارة الدولة والانفراد بالحكم كما فعل الرئيس "رجب طيب أردوغان".