إن اللحظةَ المُثلى عربيًّا في استدعاء التاريخ إلى بؤرة الوعي هي الواقع، بما هو مشهديَّةٌ مفتوحة على التفسيرِ الحدَثِيِّ للظاهرة المعيشة والتأويل الدلالي لمعاني الحضور الراهن والفهم التجاوزي المأمول في إمكان النَّظرية التقدُّمية لإحراز وعي بالزمن وقدرة على إدارة الإنسان في اجتماعه المحلّي والعالمي.

إن إمكانَ التفكير بالحَدَث، هو الإعلاء القصدي للذات على تمثُّلاتها السياقية، ومحاولة استيعاب السبب الكامن وراء هذا المشهد الحضوري المأزوم، بإعطاء ومضات الوعي التفسيري ببثِّ الذاكرةِ في ما ليس ذاكرة، واعتبار الآن أثرًا للأمس، لذلك هو قابلٌ للتجاوز إلى ما هو ليس أثرًا بعدُ، إي إلى المعنى.

هل ينشُد العرب اليوم المعنى؟ هل صار الحدثُ أثرًا؟ هل باتَ السبَبُ كينونةً يُنْظَرُ فيها من نافذة الآتي زمنيًا، كي يولدَ معنى قابلًا لنَقْلِ الفاعلين الحاضرين أحياءَ إلى المستقبل؟ هل صار ممكنًا امتلاكُ رؤيةٍ إلى نوعية الاجتماع البشري، تُحدِّدُ أيَ اجتماعٍ نريد؟ كيف نصنع الرأيَ في المرئي، فالجرأة لا تكون على الماضي بل على الحاضر الذي يمتدُّ فيه كل زمان ووعي؟

نقول إنَّ السبَبَ ليسَ مهمًّا في ذاته، بل هي نتاج التفكير في النتائج الحاضرة، لذا إن تمثُّل القدرة على إمكان التسبُّب بشيء، أي تمثُّل إمكان إرادة الكائن في ما يجري، بحيث يصبح متحكِّمًا بالمعيش، هو الوعي بإمكان تفسير مشهديَّة التقاء ذاته بالآخر كما هي. إنَّ الجُرْأَةَ هي القرارُ بالصدق. هذا القرارُ هو اعترافٌ بخلَلٍ في أخلاقية الحضور الراهن. هذا الخللُ سبَّبَ تنازلًا عن إمكانِ المعنى، أي أفقدَ الحَدَثَ إمكانَ استقبالِ الرؤيةِ في المرئي. إن صراحةَ الرأيِ هي إيضاحُ الحدَثِ باللغة التي تفسِّرُ العلاقة القائمةَ بين الذات والواقع، ذلكَ أن عدم الاهتمام بهذه العلاقة الحيَّة يُفقِدُ الحضورَ جدواه التمثُّليةَ في الراهن. إن الحضور البائس عندئذٍ سيستسهلُ إحضار الذاكرة التاريخية لتملأ المكان بعد فَواتِ التمثُّل التأويليِّ للأوان.

لما كان الانهمامُ بإنجاز الظروف الملائمة للحياة المرفَّهة الإبداعية هو ديدَنُ الإنسانِ في حَراكه اليومي، فإن الإنجازيَّة يجب أن تتمَّ على مستوى خطابٍ يربط الفردَ بالمجتمع. هذا الخطاب لا يمكنُه إنجاز الربط الأنطولوجي بين الذات ومحيطها إلا بالوعي التاريخي للحاجة الدائمة إلى الربط والاتصال. لا يمكنُكَ أن تكونَ كائنًا موجودًا وأنتَ لا تقولُ شيئًا عن وجودِكَ من وجودك. يجب أن تستبعِدَ التكهُّنَ اللاذاتي، دائمًا، بل الخارجي، لتؤكِّدَ ارتباطَك بسيرورة الزمن. وكذلك، إن وعيَ الماضي بما هو ماضٍ، لا يتمُّ إلا بإبداع نظريةٍ تصفُ الحاضر، وإلا سيكونُ الحاضرُ ماضيًا.

وقبلَ أن نُحدِّدَ كيفَ نكتبُ تاريخًا سبقنا، يجب أن نقرأ ذهنيتنا التاريخية، التي تمكننا من إبداع الموقف التاريخي. الموقِفُ، هذا الرأيُ الفيصَلُ في قطع الزمن التالي للخطاب عن الزمن السابق له، تُرى! هل هدفُ الموقِفِ أن يُطْرِبَ سمْعَ الحاضرين، أم أن يُدْرِكُ الواقِفُ أنَّ وعيَ دلالة الموقِفِ يحقِّقُ تأويلًا لمعطياتِه المعيشة الراهنة، بحيث يمكن الوقوف مجددًا في موقفٍ جديد؟

إن الموقف الحقيقي لا يكون إلا تجديدًا في الموقف. فالحُلُمُ يلتقي بالذاكرةِ على ناصية الكلمة، لذا إنَّ النصَّ هو الفعلُ الذي يربط التاريخ بالمستقبل في هذه اللحظة. إن الموقِفَ هو النصُّ، إذًا النصُّ لا يكون إلا من إبداع الحاضر المشهود، وإلا سيكون نصًا من زمنٍ آخر، أي لا يكون موقِفًا. إن كتابةَ النصِّ هي القدرةُ على اعتبار الحَدَث مُنتجًا للنصِّ في كل حين. وإنتاج النصِّ يعني إنتاج الرأي من راءٍ حيٍّ، لذا إن انوجاد النصِّ في الحدث هو الموقف الذي يبدعه واقفٌ راهنٌ. هذا الواقِفُ لا تلتفتُ إليه الكينونة إلا إذا أبدعَ رأيًا، أي أوَّلَ دلالةَ الموجود في الوجود، وبالنتيجة يكون قد انتقل بالمعنى من حالةٍ لم نكن في حاجةٍ إليها، إلى معنى لا نكون إلا به.

فمفهومُ "الانتصار" مثلًا، إذا كان لا يمكنُ أن يأتي إلى العقل السياسي العربي الراهن إلا من معارك التاريخ، فإن اقترانَه بمفهوم "الهزيمة" هو ظاهرةٌ حتمية، على المستويين المعرفي (الإبستيمي) والأنطولوجي الأخلاقي. فلو عاينا خطابًا راهنًا لرئيسِ دولةٍ أو حزبٍ أو هيئة اجتماعية أو دينية أو ثقافية، ووجدناه يتحدَّثُ عن العلاقة بين العرب وإيران في إطار مفاهيم من مثل: "الحقد التاريخي، صراع الإمبراطورية، ثورة الحسين، نظرية الإمامة، المقدس، الأمة الإسلامية، معركة القادسية، الخُبث، العمالة..." سنَجِدُ فهمًا يتكرَّسُ في الكتابة التاريخية الراهنة، يطاوِلُ جوانب العلاقة الجيوبوليتيكية بهذه الحيثية الوجودية-الأخلاقية، بحيث إنك إذا قرأت "النصَّ" المفسِّرَ لهذا الفهم، فإنك ستصبح مشحونًا ببعض المفاهيم، التي تُعمي إمكان امتلاك الرأي المؤوِّل للحدث الراهن، بما يجعله لحظة تجاوزية، بل إنك إذ وضعت هذه الاعتبارات، فستجعل الشاهِد مفعولًا به للغائب. وإذا حلَّ الغائب محلَّ الشاهِد، فلا إمكان لفهم "مجرى الحدث"، وسيضيع ماء الواقع المرئي هدرًا. وهذا ما يمكن تسميته بـ "التمثُّل الملتهب"، الذي لا يحضُرُ إلا متوتِّرًا.

ولما كانت ممارسات الإنسان تدلُّ على ذهنيةٍ مُحرِّكة، فإن رأي الإنسانِ الذي يحدِّدُ نوعَ الانوجاد الحر، أي الوجود المعرفي التجاوزي الذي ينقلُ الكائن الفاعل من لحظة الماضي إلى لحظة المستقبل في وعيِه لراهنيته، هو إمكان الربط بين الذات والآن. لذا، إن وعي الآن يحدِّدُ الأوان، أي يمكِّنُ الرأي في تفسير الظاهرة. فما نحتاجه هو القراءة الواقعية لوضعية الدول العربية والدولة الإيرانية مثلًا، بحيث نتمكَّن من خَلقِ الرأي وبعْثِه إلى حيِّزِ الخطاب موجودًا حيًّا، لا يمكن التنازل عنه في عيشِ العلاقة القائمة. ما نحتاجُه هو "التمثُّل المعرفي"، الذي لا يكون إلا نتيجة الإرادة الحرة في التجرُّؤِ على ما يحجِبُ تحقيق المَلْءِ الأنطولوجي للوجود، أي ما يؤجِّلُ الموقف الأخلاقي من الراهن، فيأخذُ "التأجيلُ" مكانةَ "الحضور" في الخطاب الاجتماعي الراهن، وبالنتيجة تنتفي الدلالات الجديدة ويحتلُ الموجودُ مكانَ الوجود، أي الماضي بمعلوماته مكان الحاضر بمعانيه وممكناته. فيحدُثُ في هذا السياق الفاهِمِ، ما يمكن تسميته "الإقحام المفهومي" للحدث التاريخي في الفهم التأويلي الحدثي الراهن، وهذا يعكِّرُ أصالةَ الطرح، أي يجعل كتابةَ التاريخ كذبًا مارقًا على صدقيَّة الحدث.

إذا وعينا "التمثُّل المعرفي"، يمكننا الحديث عن "الانتصار". ستنتصرُ على كل مسببات الفهم الخاطئ للعلاقة، بأن تعي السببَ الواجب إحضارُه بالوعي الأخلاقي المعرفي الأنطولوجي إلى بؤرة الحدث لإبداع النصِّ المفسِّر لما يجري.

إن كتابة التاريخ، لن تكون أكثر من قراءة الواقع، لذا علينا ألا نُهمِلَ المعرفي في محاكاة التاريخي، وذلك باحترام الذاتِ في راهنيتها. إن احترام الذات يقتضي تقدير موقِفِها كما هو الآن، لأن وعيها لتمثُّلها، يحدد الحاجة لماضيها ومستقبلها، فتكون الحاجة إلى التاريخ هي الحاجة إلى الوجود الآمن للإنسان.