افتتح مهرجان قرطاج التونسي دورته الصيفية لهذا العام بعرضٍ اختلط فيه الرقص بالغناء، وعليه أطلق الفنان الكبير فاضل الجزيري اسم "محفل".

و"المحفل" في اللهجة التونسية المستعملة في مناطق الوسط والجنوب يعني الاحتفال الكبير الذي يتميز به زفاف بهيج، وفيه يحضر الغناء والرقص وألعاب الفروسية. وفيه تكون المرأة حاضرة بقوة إذ أنها نجمة "المحفل" الساطعة، وعروسه الفاتنة، وبهجته بحيث يبدو الرجل وكأنّ حضوره ثانوي مُقارنة بحضورها.


الافتتاح بدخول الخيل الى المسرح

وكان الاقبال على سهرة الافتتاح خارقًا. ورغم أن السهرة لم تبدأ إلاّ في الساعة العاشرة ليلاً بحسب ما هو مُقرر في البرنامج الرسمي، فإن أعدادًا غفيرة بدأت تتدفق على المسرح الأثري بقرطاج انطلاقًا من الساعة السادسة مساء مُتحدية موجة الحرارة الرهيبة التي تعيشها تونس راهنًا.
وتلك دلالة على الحظوة الكبيرة التي يتمتع بها فاضل الجزيري لدى الجمهور منذ أن اقتحم عالم الفنون في السبعينات من القرن الماضي، أي منذ سنوات شبابه.

وكانت البداية مع المسرح، ثم مع السينما والموسيقى. وفي هذا المجال الأخير، أي الموسيقى، قدّم عرضين لا يزالان يتمتعان بشهرة واسعة لدى الجمهور التونسي، أعني بذلك "النوبة"، وهو مستوحى من الموسيقى الشعبية الفولكلورية، و"الحضرة" الذي يعتمد على الانشاد الديني.

وقبل الشروع في اعداد سهرة "المحفل"، قام فاضل الجزيري بجولةٍ في منطقة القيروان، وقفصة، وقبلي وصفاقس بحثًا عن فنانات وفنانين بهم يستعين لإنجاز "المحفل".

وكانت رغبته أن يكون هؤلاء من الهواة لا من المحترفين. لكن يبدو أنه واجه صعوبات في هذا الاتجاه لذا خيّر أن يعطي لـ"المحفل" صورةً مغايرة إلى حدّ ما لصورته التقليدية القديمة، باثّا فيه روحًا تقوم على التجديد والاجتهاد، لكن من دون تشويه أو إفساد لمضمونه ومقاصده الفنية.
كما أن فاضل الجزيري ابتغى أيضا إحياء ذكرى العرض التاريخي للفنون الشعبية الذي افتتح به مهرجان قرطاج دورته الصيفية لعام 1980، والذي لايزال حاضرًا في الذاكرة التونسية إلى حد هذه الساعة، لأنه كشف للتونسيين كنوزا فنية، وأصواتا رائعة، وعرّفهم بفنانات وبفنانين بالفطرة يعيشون في الأرياف، ويغنون في الحقول وفي الصحاري مرتحلين أو مقيمين، عاكسين في أغانيهم أفراحهم وأتراحهم وقصص حبهم التي غالبًا ما تكون مأساوية بسبب المحرمات التي تفرضها التقاليد البدوية الصارمة القائمة على الاعتزاز بالشرف.


أجواء تراثية من الحفل

وقد لاقى ذلك العرض نجاحًا جماهيريًا هائلاً لأنه أعاد الاعتبار للفن الشعبي الذي همّشته "الحداثة المعطوبة" بحسب تعبير المغربي محمد بنيس، والتي حشرته ضمن ما سمته بـ"الموروث البائد، المعبر عن ماض موسوم بالجهل والتخلف".

ومن المؤكد أن فاضل الجزيري المعروف في جميع أعماله الفنية بتعلقه بالموروث التونسي في أبهى تجلياته، أراد من خلال هذا العرض تذكير التونسيين بفنهم الشعبي الأصيل في زمن تراكمت فيه الأعمال الرديئة، وفيه ساد الابتذال والسطحية في جل المجالات.

ولعل الهدف الآخر لفاضل الجزيري هو امتاع الجمهور التونسي بعرضٍ يعكس جزءًا من تراثهم الشعبي، وعنهم يُخفف هموم حياتهم الاجتماعية التي يعيشونها في هذه الأيام، ويعيد لهم روح التضامن والوحدة بينهم بعد أن مزقتهم أحزاب "الثورة المباركة" إلى ملل ونحل تتناحر وتتنازع في غياب كامل لمشروع وطني يعيد لهم الأمل في حياة أفضل، وإلى بلادهم الأمن والاستقرار.

بدأ العرض بمشهد بديع إذ اقتحم ركح المسرح الأثري فارس على ظهر حصانه الذي حيّا الجمهور برقصات على أنغام الطبول والمزامير، تجسّد فيها فن الفروسية في أبهى مظاهره. ثم تواصل عرض المحفل بأغان من مناطق مختلفة من البلاد التونسية، من جنوبها إلى شمالها. غير أن الحضور الأكبر كان لمنطقة الكاف الواقعة في الشمال الغربي للبلاد على الحدود مع الجزائر.
وهي منطقة اشتهرت بأغانيها الرائعة، وبأصواتها النسائية والرجالية البديعة. كما حضرت أغان من الوسط التونسي، وتحديدا من منطقة سيدي بوزيد، والقصرين.
أما الجنوب فقد حضر من خلال جزيرة جربة التي تختزن تراثًا شعبيًا هامًا.

وفي لوحات العرض قُدّمت أغان شعبية اشتهر بها الفنان الراحل إسماعيل الحطاب الذي كان أحد نجوم عرض "النوبة"، وأيضا أغاني الفنانة الكبيرة صليحة التي لا تزال روائعها تطرب التونسيين بمختلف مشاربهم وأجيالهم. فإن كان الشابي هو شاعرهم فإن صليحة هي مطربتهم في السراء وفي الضراء. كما قدمت في العرض ألوان أخرى من الفن التونسي الشعبي الأصيل مشفوعة بإضافات فنية جديدة لعلها لم ترق للبعض، إلا أنها أظهرت الجهد الكبير الذي بذله فاضل الجزيري بهدف بعث روح تجديدية في الفنون الشعبية حتى لا تصاب بالتحنط والتكلس، وعليها يتراكم غبار الإهمال فتذبل وتهمل في زمن التغيرات والتحولات الكبرى التي يشهدها العالم راهنًا.

ومن البداية إلى النهاية، رافقت كل الأغاني رقصات نسائية ورجالية كانت رتيبة ومُكررة في بعض الأحيان إلاّ ان قسمًا كبيرًا من الجهور الذي غصّت به مدارج مسرح قرطاج تجاوب معها تجاوبًا لافتًا للانتباه.

وكانت نهاية العرض موفقة للغاية. فقد اقتحم الركح للمرة الثانية، الفارس على ظهر حصانه. وعلى أنغام الطبول والمزامير أدّى رقصات لتوديع الجمهور بينما يغادر الركح، اهتزت المدارج بالهتاف والتصفيق تعبيرًا عن اعجاب الجمهور بلوحات العرض الذي استمر ساعتين ونصف الساعة من دون أن يظهر خلالها ما يشي بالنفور أو الضجر.

ومن الطبيعي أن تكون هناك بعض الهنات في العرض الأول، إلاّ أن التركيز عليها بعكس غياب النقد الموضوعي، وحضور العقلية السلبية التي أصبحت مهيمنة على المشهد الثقافي التونسي.
وهي عقلية تتعمّد الحط من قيمة الأعمال الفنية الجادة القائمة على التجديد والاجتهاد، وتتقصّد التهجم المبتذل المشحون بروح عدوانية على فنانين كبار.

وكان فاضل الجزيري الذي أثرى الفن التونسي في مجال المسرح والسينما والموسيقى بأعمال رائعة ينتظر أن يكون النقد مُركزًا على العرض، ومشيرا إلى لحظات الضعف والقوة في مختلف لوحاته، إلاّ أنه وجد نفسه أمام حملات مغرضة تستهدفه شخصيًا، ساعية إلى النيل من مكانته الفنية العالية، ومن مسيرته التي تمتد إلى ما يقارب نصف قرن.



والواضح أن فنانين فاشلين تحركهم الأحقاد، والنوايا الخبيثة هم الذين يقفون وراء هذه الحملات. وكان فاضل الجزيري قد تعرض في أعماله السابقة إلى مثل هذه الحملات الجارحة، لكن التاريخ أنصفه لتظل أعماله راسخة في الذاكرة التونسية، وعاكسة للفن الأصيل في أروع وأبهى صوره...