في حفل عرض النسخة الثانية من التقرير العالمي لتنمية المياه
الأمير طلال بن عبد العزيز : لتأسيس محكمة دولية لقضايا المياه
باريس
القى الأمير طلال بن عبد العزيز رئيس اجفند كلمة خلال حفل عرض النسخة الثانية من التقرير العالمي لتنمية المياه في مقر اليونسكو في العاصمة الفرنسية باريس تناول فيها المشكلات العالمية الناتجة عن نقص المياه و امكانية نشوء الحروب بسببها وحاجة الانسان الماسة لهذه المادة الحيوية وكان لافتا في كلمته التوصيات التي تناولها مقترحا تاسيس محكمة دولية لقضايا المياه لتجنب الحروب ودعوة منظمة التجارة العالمية اشتراط قبول الاعضاء الذين يحلون قضايا البلاد في بلدانهم بالاضافة الى تعزيز المنظمات التي تعنى بهذا الشان .
نص الكلمة :
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد / كوتشيرو ماتسورا، المدير العام لليونسكو
أصحاب المعالي والسعادة
السيدات والسادة،
قال الله تعالى: وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون. صدق الله العظيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
يسرنا أن نرحب بكم، في هذا المحفل الكريم الذي ترعاه اليونسكو، لعرض التقرير العالمي الثاني عن تنمية المياه، كما يسرنا أن نعبر عن شكرنا وتقديرنا للسيد ماتسورا لدعوته الكريمة لنا للمشاركة في هذا الاجتماع.
إن ما يجمعنا واليونسكو علاقات ممتدة عبر زمن طويل ونابعة من إيماننا برسالة هذه المنظمة التي تصب في تعزيز الرصيد الثقافي والتنموي لشعوب العالم. وفي هذا السياق يأتي اهتمام اليونسكو بالمياه وقضاياها باعتباره جزءاً أصيلا من الدور التنموي المتجانس الذي تضطلع به.
السيدات والسادة:
لقد اكتشف أبناء الكثير من الثقافات والحضارات على مر التاريخ البشري ضرورة توافق حركة الإنسان لإعمار الأرض مع مكونات البيئة المحيطة. هذا الاكتشاف الفطري القديم لجدلية العلاقة المتداخلة لعناصر استمرار حياة الإنسان على الأرض لم يكن واضحا وملحا في أي عصر من العصور كما هو الآن، فقد أصبح الإنسان نفسه مهددا بالفناء من جراء العبث بأساسيات معادلة الحياة.
ولذلك كان منطقياً أن ترتفع أصوات وتصدر دراسات تحذر من الاستمرار على نهج متهور، كما حذرت من خطورة التراخي في إعادة الحضارة البشرية إلى جادة الطريق.
وقد كان من نتائج هذا الاستقراء المستقبلي ظهور مصطلح (التنمية المستدامة)، الذي يعنى بتحقيق العدالة بشأن احتياجات أجيال الحاضر والمستقبل، وتحسين نوعية الحياة لجميع سكان الأرض دون الإسراف في استخدام الموارد الطبيعية بما يتجاوز قدرة البيئة وبما لا يحد من استطاعتها على توفير هذه الموارد للأجيال القادمة.
فالتنمية المستدامة هي تلبية حاجات الحاضر دون المساس بحاجات الأجيال المقبلة ومقدراتها وليس ممكناً تحقيق هذه التنمية على نحو يلبي حاجات المستقبل، وليس فقط الحاضر، بدون إدراك التوازن الضروري بين الوسائل والأهداف والحاجات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.
وفي هذا المحفل العالمي، لعرض التقرير الثاني عن المياه، نخطو خطوة لافتة لتحديد مدى قدرتنا على تصحيح أسلوب تعاملنا مع المياه، هذا العنصر الحاسم في كافة مناحي الحياة.
وليس مثل الماء دعامة حياتية تواجه المخاطر، ولذلك ينبغي إن يكون لهذا العنصر المحوري في حياة البشر، والحياة على الأرض بصورة عامة، أولوية متقدمة في توجهاتنا لتطبيق مفهوم التنمية المستدامة.
وكما هو معلوم فإن هذا المطلب هو محور أهداف الألفية التنموية التي تقوم على ثمانية مبادئ أساسية تتصدرها مكافحة الفقر ، ويليها بنفس الدرجة من الأهمية تعزيز المساواة بين الجنسين، وتحقيق التعليم الابتدائي الشامل، وخفض نسبة وفيات الأطفال، وتحسين الصحة الإنجابية، ومكافحة الإيدز، وضمان الاستدامة البيئية، وتطوير شراكة عالمية للتنمية.
السيدات والسادة:
إن اهتمامنا بالتقرير الذي يعرض اليوم لا يرجع فقط لاضطلاعنا بمهمة المبعوث الدولي للمياه التي شرفتنا بها الأمم المتحدة ممثلة في منظمة اليونسكو، بل إن هذا الاهتمام ينبع من استشعارنا منذ عقود خطورة مشكلات المياه خاصة في المنطقة العربية، التي تقع في حزام الشح المائي، وتعد أكثر أقاليم العالم قابلية للمهددات بسبب العوز المائي ومضاعفاته الكارثية.
ولذلك فإننا في (اجفند) نتعامل باستيعاب كامل لحقائق مشكلات المياه. وفي مطلع التسعينيات من القرن الماضي لفتنا انتباه قادة ورؤساء تلك البلدان، وأولها بلدي المملكة العربية السعودية.
وقد تجاوب خادم الحرمين الشريفين الملك فهد ـ رحمه الله ـ مع الخطاب الذي رفعناه إلى مقامه في الثلاثين من مايو 1992م، ودعونا فيه إلى ضرورة وضع سياسات متكاملة وبرامج لإدارة هذا المرفق الحيوي للتخفيف من وطأة مشكلات المياه، وتطبيق الأسلوب العلمي لمواجهة التحديات التي يفرضها التناقص الخطير في المياه الجوفية، وضرورة إعادة النظر في الخطط الزراعية لصالح حماية مصادر مياه الشرب وحماية المستودعات الطبيعية للمياه في ظل التغيرات المناخية الحادة.
ولإيماننا الراسخ بان مواجهة مشكلات المياه ووضع حلول لها يستدعيان تنسيقا وتعاوناً بين جهات عديدة فقد انتهجنا في (اجفند) أسلوب الشراكة مع عديد من مؤسسات وصناديق التمويل التنموي التي تفسح في خططها مساحات كبيرة لمشكلة المياه، وفي مقدمتها البنك الدولي ومنظمة اليونسكو.
ومن صور تلك الشراكة مذكرة التفاهم التي وقعناها في 21 مايو 2000م مع السيد جيمس ولفنسون الرئيس السابق للبنك الدولي للتعاون في قضايا المياه، والتي أثمرت التقرير المشترك عن ( تقييم قطاع أوضاع المياه في دول مجلس التعاون الخليجي).
السيدات والسادة:
بالرغم من أهمية التقارير الراصدة التي تنبهنا إلى حقائق مشكلة المياه، التي تنطوي على أبعاد اقتصادية وسياسية وبيئية خطيرة، فإن الأكثر إلحاحاً الآن هو أن نترجم الحقائق أعمالاً على الأرض.
ولنبدأ بالرؤية الناضجة متعددة الأبعاد التي تنبعث من الإرادة السياسية الصادقة، التي تمكن من اتخاذ القرارات الحاسمة مهما تكن الصعوبات والانعكاسات على المدى القصير، لوقف الهدر المائي والتعامل بجدية مع مشكلات المستقبل.
وفي هذا الصدد نؤكد ضرورة الحلول المبتكرة والشجاعة للتعامل مع شح المياه، ونجدد الدعوة للفكرة التي سبق أن طرحناها، وهي تتمثل في التفكير جدياً في إمكانية نقل السكان من منطقة إلى أخرى داخل الدولة التي تعاني شحاً في المياه ويتفاوت توزيع الموارد المائية بين مناطقها. وكذلك بحث إمكانية إعادة توطينهم بنقلهم إلى دول مجاورة تتوافر فيها المياه.
ولضمان نجاح مثل هذا التوجه لا بد من عمل دراسات واستشارات وإعداد المواطنين إعداداً جيداً لهذا الموضوع الخطير. وكذلك التفاهم والتنسيق على المستوى الداخلي واتخاذ التدابير السياسية والاتصالات اللازمة بين الدول المعنية. وبذلك نستبق كثيراً من المشكلات التي تنشأ عن ندرة المياه وتترتب عليها كوارث الهجرات السكانية العشوائية والنزوح الجماعي.
ومن أبرز الأمثلة تداعيات موجة الجفاف التي تشهدها بعض الدول الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء وقد ذكرت وكالات الأنباء مؤخراً عن مصدر في إحدى منظمات الأمم المتحدة أن ملايين الأشخاص سوف ينزحون إلى شمال إفريقيا قسراً بسبب قلة المياه الناتجة عن الجفاف وذلك في غضون السنوات القليلة القادمة، فهل سيعيد التاريخ نفسه عندما نعلم أن شبه الجزيرة العربية قد شهدت في العصور الغابرة العديد من هجرات القبائل ـ من الجنوب إلى الشمال ـ بحثاً عن الماء والكلأ؟.
مسبقاً نعلم أن هذه الفكرة التي نقدمها تبدو ليست سهلة للوهلة الأولى وتكتنفها صعوبات وعوائق. ولكن إذا كنا نعد مواجهة مشكلات شح المياه هدفاً استراتيجياً وعملاً مصيرياً فلا يجب أن تضعف عزائمنا أمام الصعوبات مهما تكن، فالدول الأكثر معاناة والأكثر ترقباً لمضاعفات هذه المشكلات في حاضرها ومستقبلها المنظور وغير المنظور مطالبة بتوظيف فائض المال المتاح لديها والنظر جدياً في مثل هذا الطرح داخلياً وخارجياً.
وقد أطلعنا مؤخراً على نموذج من هذه الحلول التي اسميها (التفكير فيما كان لا يمكن التفكير فيه)، وهي الدعوة التي أطلقت في بريطانيا لسحب جبال جليدية من القطب الشمالي. وهذه فكرة سبق أن طرحت في السعودية مطلع سبعينيات القرن العشرين، وكانت حينها مثار تندر من البعض في داخل البلاد وخارجها.
وها هي بريطانيا التي تتمتع بمناخ بارد وأمطار وفيرة ولديها أنهار وثلوج وغابات ممطرة تتبنى مشروع (نقل الجبال الجليدية) الذي نبعت فكرته من بيئة صحراوية قبل أكثر من ثلاثين عاماً.
وعندما طرحت فكرة هذا المشروع في السعودية، في ذلك الوقت، لم يكن من باب الترف أو الإسراف، بل كانت الحاجة ماسة للمياه، إلا أن عقبات كثيرة حالت دون ذلك.
السيدات والسادة:
قد يبدو للبعض أن معالجة مشكلات المياه صعبة وأن العالم عاجز أمامها، ولكن تقديرنا أن الحلول العملية أيسر مما هو متوقع. فما دمنا أمام شعور عالمي جمعي بفداحة الخسائر البشرية والمادية التي ستنجم عن التهاون في مواجهة تحديات المياه، فإنه وبالإضافة إلى ما ذكرناه حول فكرة نقل السكان من منطقة إلى أخرى داخل الدولة الواحدة، أو من دولة إلى أخرى، يمكن التفكير في عدد من الآليات كحلول لمشكلات المياه، نورد بعضها في النقاط التالية:
أولاً: تنشئة الأجيال على الوعي بمشكلات المياه من خلال إدراج (ثقافة صون المياه) في المناهج الدراسية. وهذا شأن يمكن لمنظمة اليونسكو أن تسهم فيه بدور بارز بالتعاون مع الحكومات والجهات المعنية بهذا الخصوص.
ثانياً : اضطلاع الإعلام بمسئولياته وبدوره في نشر quot; ثقافة صون المياهquot; بالاستناد إلى الشفافية والمعلومة الصحيحة من الحكومات والمنظمات المعنية.
ثالثاً: الالتزام الأخلاقي، من المجتمع الدولي وخاصة من الدول القادرة، وتحييد المصالح الذاتية والإقدام على تضحيات طوعية، وتوسيع زاوية الرؤية لتشمل الإنسان كإنسان. أياً يكن عرقه أو دينه أو لونه. وبهذه المناسبة، ندعو الدول التي لديها تحفظات على quot;اتفاق كيوتوquot; إلى إعادة النظر في مواقفها لصالح الجنس البشري. إن تطبيق بنود هذا الاتفاق العالمي يسهم في تخفيف مشكلات المياه، مثلما يساعد في تحسين المناخ وخفض الغازات التي تسببت في ظاهرة الاحتباس الحراري ورفع درجة حرارة الأرض.
رابعاً: تغليب التفاهم والحوار على الصراع وعلى لغة العنف في الخلافات التي تقع بين الدول حول حصصها من مياه الأنهار المشتركة.
خامساً: المرونة في تطوير إدارة المياه وتحديثها، بحيث لا تكن قرارات خصخصة مشروعات المياه على حساب الشرائح الفقيرة، فلا بد من هامش حركة لصالح الضعفاء لئلا يتضرروا من ارتفاع أسعار المياه.
وإذا كانت الضوابط التي أشرنا إليها هي في معظمها أخلاقية ولا تسندها قوة جبرية تحمل على الفعل وتستند إلى الردع، فثمة آليات نرى إمكانية تلازمها مع تلك الضوابط لإعلاء شأن المشترك العام بين الأمم والشعوب، ومن الآليات التي قد نحتاج إلى التباحث حولها ما يلي:
1) تأسيس محكمة دولية لقضايا المياه تستبق نشوء الخلافات بل نشوب الحروب بين الدول حول هذه القضايا.
2) اتفاق المنظمات والمؤسسات والصناديق التنموية المانحة على ميثاق شرف يتضمن معايير محددة لسياسات المياه والحد من التلوث تحصل بموجبها الدول على المعونة التنموية المادية والفنية. ويمكن الاسترشاد في ذلك بمعايير حقوق الإنسان ومؤشرات الفساد.
3) دعوة منظمة التجارة العالمية إلى أن تضع ضمن اشتراطات الانضمام، أو تجديد العضوية تحقيق الدولة مؤشرات يتفق عليها في تحسين إدارة الموارد المائية وتعزيز أدوار المؤسسات العاملة في هذا المجال لتقليص الفجوة بين المعروض من المياه وبين الطلب المتزايد لمواجهة احتياجات التنمية.
السيدات والسادة:
إن على جميع الدول والمجتمعات أن تضع مشكلات المياه في قمة جدول أعمالها، وعلينا النظر بجدية لما سيكون عليه حال العالم بعد عقود قليلة إذا لم نجد حلولاً جذرية وعاجلة لهذه المشكلة. وعلينا أن نقتحم هذا الميدان بأوسع أفق ممكن لتفكيرنا.
وأخيراً وليس آخراً فإن الحلول التي عرضتها أمامكم والآليات التي اقترحت التباحث حولها ليس مبالغ فيها، بل هي ممكنة لو ازددنا وعياً بأن الشعوب مهما تمايزت واختلفت يجمعها هموم الإنسانية وآمالها، ولو كرسنا لرفاهية الإنسان الوقت والجهد والأموال المهدرة في إشعال الحروب، فالخطر أيها السيدات والسادة قادم لا محالة، ونحن أمام تحدٍ لا مفر منه، فهل نكون على مستوى المسؤولية؟ آمل ذلك، وشكراً لكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
التعليقات