يعكف جيسون هيريك الذي يمتلك إحدى شركات النفط في ولاية تكساس الأمريكية إلى الإسراع بضخ المزيد من السائل الأسود، أملا في تحقيق المزيد من الأرباح مع ارتفاع الأسعار.
لكن رغم كل ما يبذله من مجهودات، يتوقع هيريك انخفاض عائدات الشركة التي تمتلكها عائلته هذا العام، وللعام الثالث على التوالي.
لم تستثمر شركة Pantera Energy المملوكة لعائلته في زيادة إنتاجها منذ سنوات، وذلك بعد أن نفدت أموالها عندما شهدت أسعار الطاقة هبوطا حادا في بداية الوباء - ووصلت في وقت من الأوقات إلى أقل من الصفر.
وتواجه شركته حاليا، مثلها مثل العديد من شركات النفط الأمريكية والعالمية، الكثير من المعوقات بسبب شح الإمدادات والأيدي العاملة اللازمة لتشغيل المشروع.
يقول هيريك: "مهمتنا هي أن نحاول إنتاج أكبر قدر مستطاع، وقد فعلنا ذلك. لكننا متأخرون للغاية ونجد صعوبة بالغة في إدراك ما فاتنا".
إنها إشارة واحدة فقط قادمة من الولايات المتحدة - أكبر منتج للنفط والغاز في العالم - إلى أن أسعار الطاقة المرتفعة التي يعاني منها الكثير من الأسر، ستظل على هذا الحال على المدى المنظور.
منذ بداية عام 2021، قفزت أسعار النفط والغاز بمعدل الضعف أو أكثر، وسط ارتفاع الطلب مرة أخرى في أعقاب صدمة إغلاقات كوفيد-19 التي شهدها العالم عام 2020.
كما أن الحرب في أوكرانيا، التي دفعت بلدان في الغرب إلى تجنب إمدادات الطاقة الروسية، أدت هي الأخرى إلى زيادة ذلك الارتفاع.
ووسط هذه الزيادة الهائلة التي تشهدها الأسعار، يُتوقع أن يرتفع إنتاج الولايات المتحدة من النفط بواقع نحو مليون برميل يوميا.
لكن هذه الزيادة لا تشكل سوى 10 في المئة فقط، ولا تكفي للوفاء بارتفاع الطلب، ولا ترقى بأي حال من الأحوال إلى استجابة الولايات المتحدة خلال المرة الأخيرة التي ارتفعت خلالها الأسعار بهذا الشكل، في عام 2014، عندما قفز إنتاج النفط الأمريكي بنسبة 20 في المئة، كما كانت ثورة استخراج النفط الصخري على أشدها.
لماذا لا تخفض منظمة أوبك أسعار النفط الملتهبة؟
تعكس الاستجابة المتواضعة القيود التي تكبل الشركات، من النفقات المرتفعة إلى ندرة الخامات والمعدات الضرورية وكذلك العنصر البشري، فضلا عن تساؤلات بعيدة المدى يثيرها المستثمرون حول كمية النفط والغاز التي سيحتاجها العالم قبل أن يبدأ في الابتعاد عن الوقود الأحفوري الملوث للبيئة، في إطار مساعي مواجهة مخطار التغير المناخي.
يقول مايك ونت، وهو مهندس بشركة Lone Star Productions للتنقيب عن النفط إن شركته تخطط لعدة مشروعات جديدة، لكنها لم تتمكن من العثور على الأنابيب المصنوعة من الصلب والتي تحتاجها لتنفيذ تلك المشروعات، ما أدى إلى تأخير الإنتاج وزيادة التكاليف.
يضيف ونت: "سوف نحفر بأسرع ما يمكن، ولكننا لدينا كل هذه المشكلات المتعلقة بالعرض والطلب، وقد أدى ذلك إلى وضع قيود خانقة على السوق".
رياح التغير المناخي العكسية
يقول تراي كوان المحلل المختص في النفط والغاز بمعهد تحليل اقتصاديات الطاقة Energy Economics and Financial Analysis إن التحديات التي تواجهها الشركات في أمريكا الشمالية غير مسبوقة.
وبينما لا يزال العديد من الشركات الخاصة الصغيرة، مثل شركة ونت، يعكف على زيادة الإنتاج بقدر المستطاع، فإن الشركات الكبرى لا تفتأ تسير وفق خطط الاستثمار التي وضعتها قبل ارتفاع الأسعار بشكل هائل، حيث آثرت توزيع غالبية الأرباح المفاجئة التي حققتها على المساهمين بدلا من استثمارها في زيادة الإنتاج.
هذه المقاربة تعتبر تحولا كبيرا، يقول المحللون إنه يعكس الضغوط التي تتعرض لها الشركات من قبل أسواق المال والأسهم، حيث أدت قضية التغير المناخي إلى تغيير الطريقة التي يُنظر بها إلى قطاع الطاقة.
ويقول راؤول لوبلانك نائب رئيس شركة S&P Global للتصنيفات الائتمانية إن المستثمرين يمارسون ضغوطا على الشركات من أجل اقتسام الأرباح الآن بدلا من توجيهها صوب استثمارات طويلة الأجل، نظرا لحالة عدم اليقين التي تكتنف الطلب العالمي، بسبب اتجاه العالم للابتعاد عن أنواع الوقود الأحفوري.
ويضيف: "تسود السوق حالة من القلق بشأن احتمال تلاشي الطلب، ما سيؤدي إلى تدهور الأصول. إذا لم تكن هناك قيمة بعيدة المدى للأصول، فإن هذا يعني دفع أرباح باهظة للمساهمين".
ويقول لوبلانك إنه مع توقع أن تظل الأسعار مرتفعة، من المرجح أن تعزز الشركات من استثماراتها، على الأقل بنسبة ضئيلة.
ويتابع: "لن تكون بنفس القدر الذي كانت عليه خلال فترة النمو الاقتصادي"، لكن "الحرب الأوكرانية سلطت الأضواء على حقيقة أننا لا نزال نعيش في عالم يهيمن عليه الوقود الأحفوري. لم يتم التخلي عن فكرة التحول [نحو مصادر طاقة متجددة]، لكن أعيدت الحسابات لتأخذ بعين الاعتبار احتياجاتنا على المدى القصير والمدى المتوسط".
هل يستطيع العالم الاستغناء عن النفط والغاز الروسي؟
مقترح أوروبي بفرض حظر شامل على النفط الروسي
تردد في التزامات التغير المناخي؟
على الساحة السياسية، إعادة الحسابات تلك أثارت مخاوف من أن الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي جعل مكافحة آثار التغير المناخي محور حملته الانتخابية، قد لا يضغط بنفس القدر من أجل قوانين بيئية تقلل من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري وتسرع من وتيرة التحول صوب مصادر الطاقة المتجددة.
ورغم أنه يواصل المطالبة بالاستثمار في الطاقة المتجددة، إلى أن غالبية اقتراحاته الطموحة لا تزال تواجه عراقيل تشريعية، وليس هناك إشارة على حدوث انفراجة في هذا الشأن.
وبينما يلقي الجمهوريون باللوم على أجندته البيئية في ارتفاع أسعار الطاقة، وتشير الاستطلاعات إلى انخفاض شعبيته، وقع الرئيس الأمريكي على اتفاقيات تهدف إلى تعزيز صادرات الغاز الطبيعي الأمريكية، ووافق على استخدام نفط من الاحتياطات الوطنية، ومنح مئات التصاريح التي تسمح بالتنقيب في أراض مملوكة للدولة.
ويقول روبرت روزانسكي المحلل بمعهد Global Energy Monitor المختص بدراسات الطاقة: "نرى أن إدارة بايدن تتردد في تنفيذ التزاماتها فيما يتعلق بالتغير المناحي".
هذا التحول ليس مقصورا على الولايات المتحدة.
فقد لجأ زعماء غربيون، ومن بينهم بايدن ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، إلى السعودية وغيرها من الدول المنتجة للنفط لمساعدتهم. ويقول المحللون إن تلك الدول لديها القدرة على زيادة الإنتاج بدون الحاجة إلى استثمارات كبرى جديدة.
وفي كندا، التي تعد رابع أكبر دولة منتجة للنفط بعد الولايات المتحدة والسعودية وروسيا، استأنفت الحكومة الليبرالية المحادثات الرامية إلى تنفيذ مشروعات متوقفة منذ وقت طويل، مثل المشروع الذي يهدف إلى تصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا.
يقول ألفريد سورينسون المدير التنفيذي لشركة الغاز الطبيعي المسال Pieridae Energy التي اضطرت إلى التخلي عن خططها بشأن إقامة منشأة لاستخراج الغاز الطبيعي المسال في نوفا سكوشا بسبب عدم توافر المستثمرين: "إنه تحول 180 درجة في المواقف".
لكن الشركة تأمل الآن في إعادة إحياء خططها بعد أن ألمحت الحكومة إلى أنها ربما تكون مستعدة لتقديم المزيد من الدعم لها.
وليس واضحا ما إذا كان التغير في اتجاه الريح السياسية بإمكانه التغلب على مخاوف السوق، لا سيما بالنظر إلى المعارضة الشعبية المستمرة للبنى التحتية للنفط والغاز مثل المنشآت وخطوط النفط، والتي قد تؤدي إلى أن تبقى المشروعات رهينة المعارك القضائية لسنوات طوال.
ويقول غونفالدن كلاسين المحامي بمنظمة EcoJustice القانونية الخيرية المتخصصة في قضايا البيئية في كندا إن "الساسة والقائمين على الصناعة يروجون الآن لفكرة أننا يجب أن ننقذ أوروبا بنفطنا وغازنا".
"إننا نلجأ إلى حلول تعود للقرن العشرين..ونحن نعرف بالفعل أن تلك الحلول لن تنجح".
ويضيف أن منشأة الغاز الطبيعي التي تعتزم شركة Pieridae إقامتها، على سبيل المثال، لن تكون جاهزة لشحن الغاز الطبيعي قبل عام 2027، ومن ثم لن يكون بإمكانها الإسهام بشكل كبير في مواجهة الأزمة الحالية.
"لكي يتحقق أمن الطاقة في أوروبا وكندا والولايات المتحدة، ينبغي تطوير مصادر طاقة مستدامة. هذا شيء بالإمكان أن يتحقق، وينبغي أن يتحقق، بل يجب أن يتحقق".
التعليقات