تصاعدت في الأيام الأخيرة دعوات، على جانبي الأطلسي تطالب باتفاقيات وقوانين للحماية من تطورات برامج الذكاء الصناعي.

تفاعل عناصر القلق الذي نكتب عنه في هذا الموضوع وجزئياته لا ينحصر في مساحة جغرافية، كما يتجاوز زمنيا الحاضر في تأثيره على الواقع المعاصر إلى الأجيال القادمة بعواقب اكثر عمقا واتساعا.

في يومٍ واحد الأسبوع الماضي، وصادف اليوم العالمي لحرية الصحافة، تداخلت احداث منفصلة لتغزل منها الظروف التاريخية خيوط نسيج يرسم فوقها صورة قلقة للغد وتحذيرات من المستقبل.
أولها استقالة عالم الكومبيوتر، الكندي البريطاني جيفري هينتون، الأب الروحي للذكاء الصناعي، من مؤسسة غوغل مما يمنحه استقلالية لحملة تحذير من خطورة البرامج، التي اخترعها وتلاميذه على الإنسانية، ويعود لمهنته "الكوغنيتية" كـ Cognitive Psychologist (معالجا لحالات كإصابة الدماغ وفقدان الذاكرة بسيكولوجيا المعرفة) _مثلما قال لـ"نيويورك تايمز"_ وكانت أساسية في تطوير برامج الذكاء الصناعي بدراسته للعقل الانساني.


جيفري هينتون يتحدث في جامعة تورنتو. (صورة من موقع جامعة تورنتو)

أسهم شركات التعليم
في اليوم نفسه تناقصت في بورصات العالم، أسعار اسهم شركات تكنولوجيا التعليم والخدمات الالكترونية للمدارس، بمعدل النصف، واشهرها Chegg تشيغ الأميركية، ومقرها سانتا كلارا، في كاليفورنا، وكانت تأسست كشركة محدودة في 2005 وطرحت أسهمها في البورصات 2013.

تصادف مع ذلك دعوة لجنة برلمانية في مجلس العموم في وستمنستر مفوضية الاحتكارات البريطانية إلى التحقيق في نشاط المؤسسات الكبرى كـ"غوغول"، وميكروسوفت، وأبل، وكيفية توظيفها للذكاء الصناعي بطريقة تؤدي في النهاية إلى احتكار تكنولوجيا المعلومات مما يهدد اقتصاديات شركات التكنولوجيا الالكترونية البريطانية الأصغر بالإفلاس.


طالبة تستعين ببرامج الذكاء الصناعي لحل مسائل رياضيات

تشريع قوانين
وتطالب اللجنة بضرورة بحث تعديل القوانين واللوائح الحالية، أو صياغة قوانين جديدة يسنّها البرلمان لحماية المستهلك من تناقص الخيارات في حالة القضاء على المنافسة بإفلاس الخدمات المستقلة.

مفوضية الاتحاد الأوروبي، تُعدّ أيضا لوائح وقوانين جديدة بشأن حقوق ملكية التأليف والنشر للكتاب والفنانين والمبدعين عند استخدام أوعية وبرامج الذكاء الصناعي أجزاء مما نشروه أو من أعمالهم المسجلة كمصدر. السبب انه بخلاف دوائر المعارف التي تذكر المصادر، فان أكثرية تقارير انتجتها الأوعية المعرفية (اجتهاد ترجمة Chatbots) بتكنولوجيا الذكاء الصناعي غير دقيقة في ذكرها النادر للمصادر .

إضراب واحتجاجات
تصادفت هذه الاحداث مع إضراب واحتجاجات اتحاد الكتاب الأميركي، وهو الاول منذ خمسة عشر عام لكتاب سيناريوهات الأفلام والمسلسلات سواء في هوليوود وسان فرانسيسكو على الساحل الغربي أو نيويورك وبوسطون على الساحل الشرقي ليس فقط من اجل الأجور مع شركات الإنتاج السينمائي والتلفزيوني بل لأسباب متعددة.
احد اهم أسباب الاضراب كيف يحمون حرفتهم من برامج الذكاء الصناعي، خاصة التجاء كثير من شركات الإنتاج إلى هذه البرامج والخدمات لصياغة سيناريوهات واحداث تمثيليات بالاقتباس (تعبير مهذب للسرقة الأدبية) من اعمال جاهزة وتجاهل المؤلفين، أصحابها الشرعيين؛ وهو العامل المشترك بين الاحداث التي ذكرناها.
فانهيار اسهم تشيغ، مثلا، سببه فقدان الشركة نصف اهم مصدر للدخل إذ ألغى كثير من التلاميذ الاشتراك، وكانوا فاقوا ثلاثة ملايين من طلاب ومعلمين ومكتبات مدرسية في نهاية 2020 لكنهم يفضلون اليوم خدمات مجانية أو شبه مجانية تعتمد الذكاء الصناعي كـ"غوغول" و"تشاتبوت جي بي"، لمساعدتهم في صياغة التقارير وإكمال الواجبات المدرسية.

مضاعفة الخدمات
هذه الأرقام تفسِّر تحرّك الاتحاد الأوروبي، ومفوضية الاحتكارات البريطانية لكبح جماح الذكاء الصناعي، وحسب احصائيات مؤسسات متخصصة مثل كومبيتا، ومجلة فوربس، وسيمبليليرن، فحتى الان يقارب عدد الخدمات أو Apps (اختصار تطبيق) الذكاء الصناعي ستون خدمة، ويتوقع ان يتضاعف كل ثلاثة اشهر، الأفضل بينها حوالى 35 تتقاضي اشتراكات لكن انتشارها سيخفض ثمن الاشتراك.

سرعة انتشار الـAPPS
واحد اهم اسباب استقالة هينتون، الاب الروحي للذكاء الصناعي، ويعرف أيضا بـ"عقل غوغول" كان قلقه من سرعة انتشار الـAPPS أو التطبيقات المصممة بقدرة أوعية الذكاء الصناعي على إعادة برمجة نفسها لتخترع برامج وتطبيقات جديدة. فـ"هينتون" اختصاصي السيكولوجية الكوغنيتية (التحليل النفسي المعرفي، Cognitive Psychology)، كفرع من فلسفة الطب الاكاديمي المنبثق عن الأبستمولوجيا (نظرية المعرفة) يدرس عملية البرمجة الداخلية كنشاط للعقل الإنساني.

المخ الإنساني
فلنبسط تصورنا للمخ الإنساني ككومبيوتر بيولوجي، ترتبط خلاياه بأعصاب (كاسلاك) تنقل اشارتها الكهربية المعلومات، وكأي جهاز كومبيوتر سيحتاج الدماغ الإنساني نظام تشغيل مثل "ويندوز". المقابل الإنساني في الكوغنية هو العقل (mind)، تعمل داخله برامج فرعية كل في تخصصه، مثل "وورد" أو "اكسيل" داخل ويندوز. فالمعرفة المكتسبة، كاستخدام العمليات الحسابية، وتوظيف مفردات اللغة لبرمجة الاستطلاع الذهني، والانتباه، وتطبيقات المنطق، عملية (mental process). أي البرمجة التحتية للعقل في تخصص هينتون.

ولفهم مدى قلقه من الضرورة تتبع كيف وصل فلاسفة المعرفة لابتكار "الكوغنية" cognition ككلمة تعني برمجة العقل ذاتيا؛ في القرن السادس عشر بتركيب كلمتين من فعلىن باللاتينية (لغة الدراسة وقتها)، من co (يضم أو يشارك) إضافة إلى gno (يعلم) فتصبح cogno" يجتهد للتعرّف على".

A statue of Frankenstein's monster in Geneva. (AFP)
تمثال لوحش فرانكشتاين في جنيف

وحش فرانكشتين
وبجانب استبدالهم بالذكاء الصناعي لكتابة السيناريو، مايقلق الكتاب الأميركيين كسبب لاضرابهم، هو الاتجاه لانتاج نسخة فنية (تشبه رواية ماري شيللي عن مخلوق الدكتور فرانكشتين)، بتجميع أشلاء مبتورة من أعمالهم الاصلية، بتطوير الذكاء الصناعي برمجة ذاتية بتعلم كوغينيتة الذهن الانساني، وهو ما يربط قلق هينتون بـ"اليوم العالمي لحرية الصحافة". فهناك شبه اجماع بين الكتاب والمبدعين والفنانين بارجاع إفساد انتاجهم الفكري إلى سوء فهم أو عدم دراية بالصورة الكاملة للعمل الفني أو الكتاب مثلا، لدي العاملين في جهاز "الكنترول والتنسيق الفني" (تسمية "شيك" من الحكومات والمؤسسات الكبرى وحتى فيسبوك وتويتر للرقابة على النشر والمصنفات الفنية) الذي وضع العمل المشوّه على الشاشة أو أرسله إلى المطبعة.

واذا كان العنصر الإنساني تعذّر عليه استيعاب الصورة الكاملة عندما بدأ يعمل مقص الكونترول في العمل الأدبي أو الفني، فهل يمكن تصور عالم المستقبل، ومونتير الفيلم (الذي يقوم بترتيب أحداث اللقطات)، أو مترجم الرواية، أو سكرتير تحرير صحيفة أو مجلة مطبوعة أو دار نشر، أو محرر نشرة الاخبار المبثة، هو مجرد تطبيق ذكاء صناعي ذاتي البرمجة نقل شذرات من الإنتاج البشري وتجاهل خبرة وروح وأحاسيس مؤلفيه الأصليين؟

ورغم التحذيرات وقلق الساسة المنتخبين ديموقراطيا أو المسؤولين في مثيلات المفوضية الأوروبية فلا نعرف كيف يمكنهم حماية الانسان من وحش فرانكشتين القرن 21 الذي يبرمج نفسه بأسرع من إصدار قوانين مشكوك في تطبيقها عمليا ؟
فهل يقدم جيفري هينتون، كمستقل عن سطوة امبراطورية وادي السيلكون، الامل بقيادته جماعة فرسان الإنقاذ لتصميم دروع الحماية من أسلحة كانوا هم المسؤولين عن تصنيعها أصلا؟