"شاعرٌ أنتَ والكونُ نثرْ" *


ألمْ تدْرِ أنّ القطيعة َحانتْ قُبَيـْل الشّروقِ؟ وأنّ الفضاءَ يُريد ضياءً جديدًا، غِنائيّة ًحُرّةً غيرَ خاضعةٍ لرياح ٍمُقنّنةِ الهبّ... فضاءٌ يريدُ تجاورَ سطرٍ وسطرٍ يرنـّنُ وقعَ الفضاءِ، وضجَّ المدائن ِ، أشباحَ فاتحة للعيون ِ. كفى أن نغيِّرَ سيرورةَ الفكرِ طبق تفاعيلَ محدودةٍ.

تراثٌ يموتُ،
كلامٌ يقومُ:

1

ترابًا
لندفنْ
بُحورَ الخليل ِ:
فلا شعرُنا عادَ يَحدو
ولا نثرُنا عادَ يَروي
حقولَ الحكايهْ

لنَلحَدْ
فراهيدَهمْ
ثَـَمَّ إيقاعُ أنـّى
يكونُ الصُراخُ
مناطَ المصير

يكونُ القصيدُ كفـيّـًا بذاتِهْ.

2
... فأمّا كـُسالى الغناءِ، فشعرهمُ
كالغبارِ يصمّ ُ
فلا بدرَ لليلِ لا للكلامِ حياة
قريضٌ تضيعُ القصائدُ فيهِ

ووحيُ السليقة ْ –
خفيرُ الحواس ِ
خؤونٌ
يؤولُ كطبلٍ
إلى راسبٍ في النفـَسْ...
إلى ضَـلـّةٍ لا تـُنيلُ

3
جُزافٌ، نظيرُ التوترْ،
وَجيزُ الكثافة ْ
هوَ الشعرُ في النثر ِ،
هَمسًا يُحاكي الغريبَ:
نعم، للشِفاهِ أُذ ُنْ
وللأذ ْنِ عينٌ
وللعينِ إيقاعُ حلمٍ
هو الصوتُ،
نِدّ ُ المدى والصّوامتْ.
وعنـْـقُ التفاعيلِ يـُلوى،
بسرْدِ الدلالة ْ…
تفاعيلُ عنها تريد الخروجَ
قصائدُ تمضي شمالاً كيومٍ جريءٍ
إلى كتلةِ النثـْر ِ حيثُ المعاني
براكينُ
ثـُمّ انسجامُ
تُسَاكِنُ سطرًا فسطرًا.

***

مِنْ ضلع الأفعال تنبجسُ الأسماء، ومن عين الأسماء تتسامى الأفعال درجةً في سلّم الخلق: "فليكن..." وها هي ولادةٌ جديدة للكون.
كان المبنى خاليـًا عندما انفتح ثقبٌ صغير يؤدّي إلى دائرة السلّم. إنّها ساعة الغروب. على أنّه في اللحظة التي ارتقيتُ فيها السلّم، بين النائم واليقظان، كان الرجلُ الذي يعيش في الطبقة العليا مع الجنّ والملاك، قد وصل إلى الدرجة الثالثة نزولاً، بينما رجلي اليمنى بلغت الدرجة الرابعة صعودًا. لكن كلّما تمر ثانية، أشعر بأن الدَرَجات تأخذ بالازدياد. وكلّما يُسرى بي، أسمع صوتاً يفيد أنّ ربَّ البيت سيرسلُ دابّةً يُقالُ لها البُراق، دون البغل وفوق الحمار، يصعد بي إلى سِدرة المبنى. كان مجموع درجات السلّم ستّ عشرة درجة. أنّى ينزل أصعد، أنّى أصعد ينزل: مباراة في القدرة على بلوغ الغاية، وما إن بلغت، حتى تراءت الدَرَجات كأنّها زِحافات يجهش إليها الإيقاع، طفق الرجل يتوقّد فيتأجّج وكاد يُشطّر بَعضُه عن بَعض من أجل نزلةٍ أخرى؛ فاصلة مشدودة إلى وتِد بعيد يمكّنه من الثبات. غير أنّ علّة جعلته يتهاوى كتلةَ نورٍ ترتطم بأسفل السلّم فتتشظّى إلى شُعل صغيرة سرعان ما يكتنفها رجالُ الأرصاد الطالعون من حوائط المبنى.

***

4

أنِلْ ما يجيشُ خلودًا
ذرِ الشِعرَ يُعطي قطيعَ النجوم ِ سماءً
وها أنـّنا نكلأ ُ الوحْيَ -مهوى الصُوَرْ،
نشظّي سديمَ الرؤى
مَرايا يَرى كلـّنا نفسَهُ قد أتاها
شـُعاعٌ
يُضيءُ
لـِسانَ الشّوارع ِ،
كـَونًا وليدًا.

ففي كلّ شعر ٍ بيوت ٌ
نوافذُ فيها
تطلّ على عالم ٍ
لم نعشْهُ!

5
قصائدُ حتـّى تـُنيرَ أعالي الكلام
فليسَ عليها سوى أنْ تعي
أنْ تكونَ.
ولا غيرَ هذا!

* البيت الشعري هذا لصلاح عبدالصبور، مأخوذ من قصيدته "بودلير"، المنشورة في ديوانه "أحلام الفارس القديم"،ضمن الكراسة الثانية "أغنيات تائهة"