يحيى الأمير
خارج التدين البسيط والإيجابي الذي ألفه الناس ازدهرت رؤية دينية تقوم على المستوى الواحد بفهمه المتشدد اتسعت وتقوت بما اكتسبته من زخم صحوي أمدها بالتنظيم والتخطيط بالإضافة إلى أرضيتها الخصبة وتشبثها بالماضي كمفتاح لقراءة الحاضر وفق ظروف ذلك الماضي ومع ما تبثه القيم الاجتماعية القديمة من أفكار الشجاعة والفداء والعزة والكرامة، وفق منطقها الجاهلي ومع تحكم صورة اليقين الواحد بالمصير الجاهز والمعلب، عاد هذا الخطاب هذه المرة وبشكل أكثر تعقيدا وتشعبا وامتلاكا للحجج والتدليل والاستشهاد، وهو ما فتح الباب أمام حاجة واسعة لخطاب فقهي رشيد، لا يمكن لرشده ذلك أن يكون مكتملا إلا إذا انطلق من وعيه بالحاضر وإيمانه به، وقدرته على أن يمتلك هو الدليل لا من خلال ادعاء احتكاره وإنما من خلال إعادة قراءته اعتمادا على ما في هذا الدليل من ثراء وقوة على البقاء في مختلف العصور خاصة إذا كان الدليل من القرآن الكريم أو من صحيح السنة.
القضية أكثر تعقيدا من اتهام فقيه أو واعظ بأنه يبرر للإرهاب أو يسكت عنه، لكنها تكمن في اشتباك الخطابين، وهو اشتباك ينطلق من المعادلة التالية: الدليل واحد، والاستدلال متناقض ومتصادم. وفي أحايين أخرى يكون المصدر واحدا لدليلين يراد بهما استدلالا متناقضا.
لقد بات حديث كل فقيه أو واعظ تقليدي حول القاعدة يقوم على فكرة الرد، والتهجم والاتهام بقلة الفهم وحداثة السن والافتقار إلى العلم الشرعي مع أنهم يستدلون بذات المصادر ويلجؤون لذات التراث. ذلك أن الأمر لا يحتاج ردودا بقدر ما يحتاج إبطال صلاحية خطابهم وإبطال أدواتهم في الاستدلال.
حين أفتى الشيخ ابن باز رحمه الله بجواز الصلح مع اليهود، كان ينطلق من وعي بالواقع وقد تحدث في ذلك عن المعاملات والبيع والشراء، وعن تبادل السفراء، وهي من الأمور التي يطرحها الواقع الجديد والتي ستستلزم تواصلا وعملا مستمرا بين الطرفين والذين وقفوا ضد رأيه هذا من منطلقات فقهية إنما كانوا يعيشون ارتهانا لظرف الأدلة التي استدلوا بها وليس للأدلة.
الشريط الأخير الذي بثه تنظيم القاعدة، بعد محاولة الاغتيال الفاشلة للأمير الفارس محمد بن نايف، يشير إلى أزمة التعاطي مع النص ومع الدليل، وقد استثار ما جاء في الشريط الكثير من الردود من فقهاء ووعاظ ومهتمين بعلوم الشرع، وهي ردود تشير في كثير منها إلى العقدة التي تجمع طرفي المشكلة حتى يبدو وكأن ما يحدث نوع من اختلاف وجهات النظر، فإذا استدلت القاعدة في أدبياتها بجواز الاغتيال عبر نصوص وشواهد تاريخية، يتم الرد عليهم بأن دليلكم على ذلك الاغتيال ليس صوابا لأنه كان موجها لكافر وأنتم توجهونه لمسلم، مع أنه يعلم أن القاعدة لا تكاد تستثني من التكفير أحدا. والرد عليهم بالقول بأن ذلك الاغتيال جاء بإذن من ولي الأمر، فهم يجيبون بأن لا مجال لقيام الدولة كما يرونها إلا بالجهاد، وبالتالي فالمبرر الذي لديك سقط أمام المبرر الذي لديه، وأصبح يملك من النص مثلما تملك.
حتى تسميتهم بالخوارج، تشير أيضا إلى مشكلة أن الإدانة لا بد أن تحدث عبر شاهد تاريخي، مع أن الظرف القائم الآن يختلف كثيرا عن ظرف الخوارج إضافة إلى أن الخوارج أنفسهم قد انقسموا إلى أربع فرق. كما أن الخوارج لم يكونوا ينشدون دولة إسلامية ولا جهادا وإنما كانوا يرفعون شعار نصرة العدل ومقاومة الظلم وحماية المستضعفين.
مقارعة القاعدة بالوقوف معهم في ذات الخطأ المنطقي هو نوع من الإذعان لذات العلة التقليدية المتعلقة بالأدوات المعرفية، وهو ذات الجانب الذي لم يحدث أثرا في نسف خطابهم أو في تقديمه على أنه خطاب قادم من خارج العصر ومن خارج الواقع.
إن بعض الجهود الإيجابية التي تقوم بها بعض المجاميع الفقهية ما زالت بحاجة أوسع لتفكيك ذلك الخطاب من الداخل، وإعادة تقديم الدليل وفق رؤية تستوعب الواقع والظرف وتؤمن به وبالتالي تتعامل مع النصوص بناء عليه.
ذلك لا يعني مطلقا أن يتم تعطيل النصوص الدينية بل هو نوع من إحياء الدين عبر نصوصه وما فيها من حيوية، إن تعطيل العمل بحكم الرق مثلا لا يعد موقفا سلبيا من النص القائل بذلك، بل استيعاب للظرف الاجتماعي والحياتي لأن الواقع المعاش الآن لا يحوي مثل تلك الممارسة. وهذا دليل على أن الانطلاق من الواقع قد يعيد ترتيب علاقة الناس ببعض النصوص ولكنه لا ينفيها أو يعارضها.
ماذا لو تمت إعادة قراءة الجهاد في زمن الدولة الوطنية والقطرية، وإعادة قراءة الخروج في سبيل الله في زمن العمل الخيري والتطوعي، وإعادة قراءة الولاء والبراء في زمن الأمم المتحدة ومجلس الأمن والسفارات والقنصليات، ماذا لو تمت إعادة قراءة مفهوم الفتنة والحشمة والاختلاط في ضوء الواقع الجديد للإعلام والاتصال والحياة اليومية.
إن الفقيه السعودي هو من أكثر الفقهاء في العالم العربي حضورا في مختلف وسائل الإعلام، وهو ما يجعل مسؤوليته واسعة وكثيفة للغاية، والعمل على إعادة قراءة كل تلك المفاهيم الدينية الكريمة بما يحتمه العصر، أمر من شأنه أن يخفف ويحرر فكرة المنكر في نفوس الناس وتخفيف المنكر سوف يسهم في فك أي اختناق قد يشعر به شاب ملتزم تتأزم علاقته بهذا العالم نظرا لما يسمعه من تنديد بما بهذه المنكرات التي لا تنتهي ، فاتساع المنكر وكثافته بهذا الشكل الذي يطرحه بعض الفقهاء، وما يلزمه من تقسيم الناس إلى تيارات ومجابهتهم وعظا وإنكارا هو الذي سيحول فكرة الصدام مع الحياة والناس والأوطان إلى فكرة تجد ما يبررها دينيا.
- آخر تحديث :
التعليقات