عبدالخالق عبدالله
من المصادفات انه في اليوم الذي صدر فيه قرار تشكيل المجلس الاتحادي للتركيبة السكانية، كان طالب الدكتوراه في جامعة كويوتو اليابانية، كوجي هورينوكي، يعرض أطروحته بعنوان ''التحولات السياسية والاجتماعية في الإمارات''. تتكون هذه الأطروحة التي هي أول أطروحة باللغة اليابانية عن دولة الإمارات من مقدمة وأحد عشر فصلا، لكن أهم فصل هو الذي يحمل عنوان ''ثلاثون عاما من الجدل حول التوطين في الإمارات''.
يصف كوجي هورينوكي، الذي يتحدث اللغة العربية ويبدأ يومه عادة بقراءة الصحف العربية والأجنبية الصادرة في الإمارات، كل من الإمارات، الكويت، البحرين، وقطر، التي تعاني من الخلل السكاني ''بدول الأقلية المواطنة''، التي هي على نقيض الدولة الحديثة التي تتشكل من الأغلبية المواطنة. ويعتقد هذا الباحث الشاب أن ''دولة الأقلية المواطنة'' ظاهرة تاريخية وسياسية فريدة من ناحية، وغير طبيعية من ناحية ثانية، ولا يمكنها أن تستمر طويلاً من ناحية ثالثة، وستضطر عاجلا أم آجلاً أن تستوعب الأكثرية الوافدة في نسيجها الاجتماعي، وتتحول إلى مجتمعات تضم مزيجاً غير مستقر من مواطني الأمس، ومواطني اليوم، ومواطني الغد. المعضلة التي تواجه ''دولة الأقلية المواطنة'' أن عليها أن تستوعب أعدادا كبيرة من ''الوافدين الذين هم في الطريق أن يصبحوا مواطنين''.
هذا على الصعيد النظري، أما من حيث البيانات فتقدر هذه الأطروحة أن إجمالي عدد سكان الإمارات بلغ 7.104 مليون نسمة، وان عدد المواطنين في الإمارات هو 923 ألف نسمة، مما يعني أن نسبة المواطنين تراجعت إلى 13% العام .2009 وتظهر البيانات أن الجالية الهندية هي الأكبر عدداً، لكن الجالية الصينية هي الجالية الأسرع نمواً في الإمارات، حيث بلغ عددها نحو 200 ألف نسمة.
وفي الوقت الذي يؤكد كوجي هورينوكي أن هدف تنويع الاقتصاد هدف وطني نبيل ومشروع وضروري ولا بد من السير فيه، إلا انه يحذر من النمو الاقتصادي السريع والتحول إلى مركز تجاري ومالي وسياحي عالمي. هذا النمط من النمو لا يمكن تلبية احتياجاته محليا ويحتاج دائما إلى تدفق أعداد متزايدة من العمالة الماهرة والمتخصصة وأعداد أخرى من العمالة غير الماهرة والرخيصة من الخارج. فالمواطن في الإمارات مهما بلغ تعليمه وتدريبه وتراكمت خبراته وتطورت مهاراته لن يتمكن من الانضمام إلى قطاع العمالة غير الماهرة والرخيصة، كما انه لا يستطيع الانضمام إلى قطاع الوظائف التي تتطلب خبرات علمية وعالمية متخصصة كل التخصص.
اقتصاد الإمارات ضخم، وهو الأسرع نمواً في المنطقة وقادر على خلق نحو 600 ألف وظيفة سنوياً في القطاع الخاص وحده، لكن رغم ضخامته ونموه السريع فهو غير قادر على إيجاد وظائف مناسبة لنحو 25-30 ألف مواطن يرغبون في العمل ولا يجدون عملاً في القطاع الخاص.
وبعيداً عن مدى دقة البيانات وصحة الخلاصات، فإن هذه الأطروحة تتوقف خصوصاً مع قضية التوطين في الإمارات. يقول كوجي هورينوكي إن التوطين كان دائماً من بين أهم أولويات الحكومة الاتحادية منذ ولادتها الأولى، إلا أن شعار التوطين ظل مجرد شعار من دون أن يتحقق على ارض الواقع في الثلاثين سنة الماضية. لقد تشكلت مؤسسات وتكونت لجان، ووضعت الخطط والبرامج والسياسات وعلى المستويات كافة من اجل تحقيق التوطين، لكن ظل هذا الهدف الوطني عصيا ومراوغا ويبدو انه سيظل كذلك رغم النيات الطيبة. فكيف يمكن توطين 4 ملايين وظيفة في القطاع الخاص؟
يعزي كوجي هورينوكي فشل التوطين في الإمارات إلى مجموعة من الأسباب البنيوية أهمها: 1- اختلال سوق العمل واختلال التركيبة السكانية وغياب تجربة ناجحة واحدة في مجال التوطين في الإمارات. 2- استمرار التركيز على النمو أولاً والتوطين ثانياً. هذا التركيز على النمو الاقتصادي يخلق وظائف للوافدين وليس للمواطنين. لذلك أما أن تكون الأولوية للتوطين أو للنمو، لكن لا يمكن أن تكون لهذين الهدفين المتناقضين معاً. 3- خروج القطاع الخاص في الإمارات عن نطاق السيطرة الرسمية للقطاع الخاص في الإمارات منطقه الخاص ومصلحته الخاصة التي لا تتطابق مع المصلحة الوطنية والمجتمعية. 4- الوجود الكثيف والتحكم الضخم للجاليات الأجنبية في القطاع الخاص. لقد استحوذت هذه الجالية على امتيازات تفوق كثيرا امتيازات الأقلية المواطنة. ومن غير المنطقي توقع أن هذه الجاليات ستتخلى عن امتيازاتها ومصالحها ومواقعها واستثماراتها طوعا. بل من المنطقي توقع أن هذه الجاليات ستعمل كل ما في وسعها من اجل تأجيل وتعطيل شعار التوطين في مؤسسات القطاع الخاص.
أهم خلاصات هذا الفصل من الأطروحة أن الحكومة فشلت في المواجهات السابقة مع مؤسسات القطاع الخاص، ولا يوجد ما يؤكد إنها لن تفشل مستقبلاً. ففي كل مرحلة من مراحل التعاطي مع التوطين تتراجع الحكومة في أول مواجهة وتستسلم سريعاً لإرادة القطاع الخاص الذي يستخدم سلاحاً قوياً هو سلاح الاقتصاد الحر الذي يحد من التدخل الحكومي في نشاطاتها وقطاعاته.
من الواضح أن المشكلة، كما يراها كوجي هورينوكي هي في تغليب مصلحة السوق على مصلحة الوطن، وتغليب الاعتبارات الآنية على الاعتبارات الوطنية البعيدة المدى. في الصراع من اجل التوطين في الإمارات انتصر مبدأ الاقتصاد الحر، ومنطق القطاع الخاص الذي لن يصلح حاله طوعا، ولا توجد قوة قادرة على جعله مرحبا بالتوطين وجاذبا للمواطنين. لقد أغلق هذا القطاع أبوابه أمام المواطنين وسيزداد حكراً على الوافدين، في حين سيبقى القطاع الحكومي الذي يعاني أصلاً من التضخم الوظيفي والترهل الإداري هو الملجأ الوحيد للتوطين.
تبدو أطروحات كوجي هورينوكي متشائمة بخصوص مستقبل التوطين في الإمارات. لكن الجانب المشرق الوحيد الذي لا يشير إليه هو أن النقاش المجتمعي حول التوطين مستمر ولن يتوقف. كما اتضح أن الحكومة لن تستسلم لهيمنة القطاع الخاص، ولن تتوقف عن رفع شعار التوطين، والدليل على ذلك تشكيل مجلس الإمارات للتوطين الذي عليه أن يخوض الآن معركة حاسمة وحازمة لتحقيق هدف التوطين الذي لم يتحقق في الثلاثين سنة الماضية.