نجيب الخنيزي

سبق لديوان المراقبة العامة التابع للدولة التطرق بصراحة في تقريره الصادر قبل أشهر إلى اختفاء 109 مليارات ريال صرفت من دون وجه حق، الأمر الذي دفع بمجلس الشورى إلى عقد جلسة خاصة لمناقشة الموضوع مع رئيس ديوان المراقبة العامة (وهو بمرتبة وزير) أسامة جعفر فقيه. وكان التقرير الذي يغطي العام المالي 26 و27 هـ يؤكد على الإسراع في إنهاء دراسة المشروع المقترح لنظام ديوان المراقبة العامة وتضمين ما يلزم من أحكام ليكون أكثر قدرة على حفاظ أموال الدولة الثابتة والمنقولة. عضو مجلس الشورى المهندس عبدالمحسن الزكري اقترح عدم صرف أي عهدة لأي جهاز حكومي إلا بعد إرجاعه العهدة السابقة، كما هو معمول به في القطاع الخاص مستغربا وجود أرصدة عهد بـ 25 مليارا سلمت لأفراد في أجهزة حكومية وعدم إرجاع 44 مليارا كشكل قروض ومستحقات صناديق الاقتراض للمواطنين.

يذكر أن المملكة كانت سباقة وفي وقت مبكر للتنبيه إلى مخاطر الفساد والرشاوى، حيث صدر مرسوم في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز (قبل حوالي خمسة وأربعين عاما) على صيغة من أين لك هذا؟ كما أقر مجلس الوزراء برئاسة الملك عبدالله بن عبدالعزيز في شهر فبراير 2007 lsquo;rsquo;الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفسادrsquo;rsquo;. ويأتي في مقدمة أهداف هذه الاستراتيجية تحقيق حماية النزاهة، ومكافحة الفساد بشتى صوره ومظاهره وتحصين المجتمع السعودي ضد الفساد وتحريم أي تعد على الأموال العامة، أو استخدام النفوذ والوظيفة من اجل الإثراء غير المشروع على حساب حقوق ومصالح الدولة والمواطنين، وتقديم المتسببين فيها للمساءلة والمحاسبة والعقاب الصارم. لذا من الأهمية بمكان تفعيل وتطوير الأنظمة والتشريعات المعنية بمكافحة الفساد وتطوير وتفعيل الأجهزة الرقابية والقضائية الموجودة في مثل هيئة الرقابة والتحقيق، وديوان المراقبة العامة، وديوان المظالم، ومنحهم مزيدا من الاستقلالية والصلاحيات.

التجربة والخبرة التاريخية للدول والمجتمعات كافة في العالم تؤكد أن كافة الأنظمة والقوانين والإجراءات ليست أبدية أو مقدسة، وإنها عرضة للتعديل والتطوير والإغناء. كما أنه لا يمكن الاكتفاء بوضع القوانين والأنظمة، مهما كانت ايجابية ومتقدمة، فالمهم هو ضمان حسن التطبيق والممارسة على أرض الواقع، وتغيّر العقلية البيروقراطية القديمة أثناء تطبيقها. وتفيد التجربة بأن الأنظمة والقوانين إن وجدت، فهي سلاح ذو حدين، إذ بالإمكان استخدامهما في خدمة المواطن والإنسان بصورة نزيهة ومحايدة وايجابية، وعلى العكس فإنه يمكن استخدامها لتنفير المواطن وتعميق شكوكه وإضعاف ثقته بها، مما يدفعه إلى اللجوء لاستخدام الطرق غير المشروعة، لتمرير وتسهيل معاملاته، خصوصا إذا استخدمت الإجراءات البيروقراطية المعروفة، والممارسات الكريهة، كالمحسوبية، والتلاعب بالأنظمة والتسيب والإهمال والتجاوز وفقا للأمزجة، والمصالح الفردية الضيقة وغير المشروعة، أو استغلال النفوذ لغايات غير شريفة، مثل التعدي على المال العام، والاختلاس، والرشوة وغيرها من مظاهر الفساد. ومن الواضح انه لا يمكن تحقيق أي أداء فعال في أي مجال أو قطاع، إذا اعتقد وآمن المسئول أو الموظف العادي، بأنه يمتلك حصانة التحرر من المساءلة والعقوبة، في حال قيامه بالتقصير والتجاوز واستغل موقعه أيا كان لأغراض وأهداف شخصية. ففي هذه الحالة فإن الضرر سيكون عاما ومشتركا، لأن من شأن ممارساتهم الشاذة وغير الأخلاقية، الإساءة إلى الجميع، والإضرار بالاقتصاد الوطني وموارده المالية وتدمير القوانين، والأنظمة، والتشريعات، ومنظومة القيم والمعايير الدينية والأخلاقية.

وأشار أحد التقارير الدولية (الصادرة في العام 2005) عن الفساد العالمي في قطاع الإنشاءات الذي يقدر بنحو (ثلاثة آلاف ومائتي مليار سنويا)، حيث كشف تقرير الفساد العالمي، حالات مفصلة عن مشاريع على مستوى كبير في البنية التحتية، ومشاريع عملاقة ومتوسطة وصغيرة منها، وما دفع من رشا وعمولات، لضمان الحصول على تلك المشاريع، بأسعار مبالغ فيها وغير حقيقية أو غير مطابقة للمواصفات والمقاييس المعتمدة، وكثيرة هي الحالات التي تتداعى فيها تلك الإنشاءات أو تتهدم، قبل عمرها الافتراضي بمدة طويلة، مثل الجسور والطرق والمباني والمدارس والمستشفيات، والنتيجة هي خسائر مادية وبشرية جسيمة تطال المجتمع برمته. ولمواجهة هذه الآفة المستشرية، وضع البنك الدولي استراتيجية خاصة به لمكافحة الفساد، تضمنت مراقبة ومنع كل أشكال الاحتيال والفساد في المشاريع التي يمولها، وتقديم العون للدول النامية التي تكافح الفساد، ومطالبتها بتطبيق إجراءات إصلاحية فعالة على الصعد الاقتصادية والسياسية والإدارية، بما في ذلك إصلاح القضاء واستقلاله، والفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتفعيل الأجهزة التشريعية والرقابية والمحاسبية، ورفع القيود أمام قيام مؤسسات المجتمع المدني، وتطبيق إجراءات فعالة للإصلاح الوظيفي، وزيادة الأجور وتقييد المحسوبية السياسية والعائلية في التوظيف والترقية. وفي هذا الصدد فإن وسائل الإعلام المختلفة، ومناهج التربية والتعليم تضطلع بدور كبير في التوعية الفكرية والوظيفية والأخلاقية، حول احترام الملكية العامة للدولة والعمل على حمايتها من أي اعتداء أو إهمال وتسيّب.