جدة: علي مطير
على المنبر نفسه، الذي وقف عليه خطيب العرب قس بن ساعدة قبل أكثر من 1400 عام، يقف الليلة الخطيب الأمير خالد الفيصل، في افتتاح منتدى سوق عكاظ التاريخي.وتبدو لغة المقارنة بين الرجلين ماثلة بشكل كبير في أمور شتى، أولها أسلوب الخطاب المرتجل، الذي يعتمد على مهارة quot;السجعquot; دون تكلف، وإيصال المعنى بأقل عدد من الكلمات والجمل، إضافة لمحتوى الخطابين المتشابهين في الأهداف، وإن فرق بينهما آلاف السنين.
وبحسب الرواة التاريخيين، فإن قس بن ساعدة كان أول من توكأ على سيف أو عصا وهو يلقي خطبته، في وقت تتقاطع فيه هذه الميزة مع الخطيب الفيصل بأنه ارتبط شعرياً باسم quot;دايم السيفquot;، وفيما صارت العرب تستشهد بقس بن ساعدة في البلاغة فيقال quot;أبلغ من قسquot;، فإن جيلاً معاصراً يرى في الفيصل سقفاً أعلى في الشعر والخطابة.
وعلى صعيد الوعي الخطابي، من يقرأ خطبة قس الشهيرة في سوق عكاظ،
التي يقول فيها quot;أيها الناس، اسمعوا وعوا، وإذا سمعتم شيئاً فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت. إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبراquot;، لابد أن يوافق بأن للفيصل نبرة عالية في تذكير الناس على طريقته بواقعهم الحالي، ودعواته لهم بأن يكون السعوديون في quot;العالم الأولquot; وهي العبارة التي ذكرها غير مرة في أكثر من خطبة له منها
خطبته أمام منتدى التنمية الاجتماعية الشهر الماضي، والتي قال فيها موجها كلمته للشباب quot;المهمة تكمن في تغيير الفرد العاطل إلى فرد عامل، ومساعدته والوقوف معه ليشاركنا في نهضة بلاده لترحل إلى العالم الأولquot;.
وإن كان قس بن ساعدة الإيادي، أسقف نجران وحكيم العرب، ترك كما تروي الكتب التاريخية وصيته عند رأسه شعراً، يقول في أجزاء منه: quot;دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم/ فهم إذا انتبهوا من نومهم أرقوا/ حتى يعودوا بحال غير حالهم/ خلقاً جديداً كما من قبله خلقواquot;، فإن خالد الفيصل بن عبدالعزيز، استطاع بناء نص شعري وصفه النقاد بأنه مزج بين الخطابة والشعر، خطابي في مباشرته وشاعري في معانيه، حتى صـارت أبياته أمثالاً بين الركبان، يرددون quot;من بادي الوقت وهذا طبع الأيامي، عذبات الأيام ما تمدي لياليهاquot;.
ولا ينسى الأبهاويون، ممن حضروا حفل وداع الأمير خالد الفيصل، خطبته الشهيرة، التي بلغ فيها الصدق مداه وهو يقول: جئت إليكم قبل أكثر من (36) عاماً وجلاً متفائلاً.. وأرحل اليوم راضياً متثاقلاً.. مكبلاً بالحب وأثقل كاهلي الاعتراف بالفضل لكم.. أنتم الذين استقبلتموني بالأمل.. وآزرتموني للعمل.. وشجعتموني وأعنتموني.. وقدتم معي بكل شجاعة تجربة التنمية المميزة في عسير ونجحتم لله دركم، وعلى طريق الخير دلكم.
ويضيف الفيصل مودعا quot;كيف أودعكم اليوم.. كيف أودع عسير.. كيف أودع السحاب والمطر.. كيف أودع الزهر والشجرquot;. تلك الخطبة المسجوعة دون تكلف، هي قاسم آخر مشترك بين الفيصل وقس بن ساعدة، الذي كان أبا للخطب المسجوعة، في أشهر أسواق العرب: سوق عكاظ، وهو يعظهم بلغة المحب المودع أيضا: quot;يا معشر إياد، أين الآباء والأجداد؟ وأين المريض والعواد؟ وأين الفراعنة الشداد؟ أين من بنى وشيد، وزخرف ونجد؟ أين من بغى وطغى، وجمع فأوعى، وقال أنا ربكم الأعلى؟ ألم يكونوا أكثر منكم أموالاً، وأطول منكم آجالاً؟quot;. ويجتمع قس بن ساعده وخالد الفيصل في خصال أخرى، بينها أن الرجلين اشتهرا بالشعر والخطابة معا، وهي صفة نادرة على مدى التاريخ، كما أن الرجلين كما تروي الكتب عن الأول، كان متصلاً بقيصر الروم، وكان له عنده حظوة، كما هو الثاني ذو صلة نسب بالملك، وحظوة عند خادم الحرمين الشريفين، الذي منحه الثقة الكريمة في تولي إمارة منطقة مكة المكرمة، وهي المهمة الصعبة التي تصدى لها الفيصل.
وكما حفظ الناس لقس بن ساعدة، خطبته الأشهر في سوق عكاظ، وكان فيها أول من اخترع عبارة quot;أما بعدquot; لتصبح رمزاً في كل خطبة قبل الدخول في ديباجة الكلام وفحواه، فإن خطب الفيصل، باتت إحدى الرسائل المفضلة التي يتبادلها الشبان في بلاده، عبر الوسائط المتعددة في هواتفهم النقالة، أو عبر متصفحات الإنترنت، التي تحفظ له أكثر من مليون ونصف رابط إلكتروني.
وإذا كانت خطبة قس بن ساعدة، في سوق عكاظ التي أوردها الجاحظ في كتابه quot;البيان والتبيينquot; من أشهر خطب الدب العربي، فإن السعوديين لا ينسون وقفة الخطيب الأمير خالد الفيصل، أمام خادم الحرمين الشريفين في عسير مخاطباً: quot;أيها الملك الهمام، عندما تختلط الأوراق، وتتمايل بالرؤوس الأعناق، وتتسع في العيون الأحداق، تتقدم الصفوف القيادة بالحكمة والعقل والريادة، فتكون لمليكنا السيادة، كما أنهيت بالأمس.. وتفعل اليوم.. وتخطط للغد، فكيف لا نفخر ولا نعتز ولنا دين.. ولا كل الأديان ولنا وطن.. ولا كل الأوطان، ولنا ملك.. ولا كل الفرسانquot;.