صديقي فاروق حسني: مابعد «فن الممكن»!

المقدمة

أكره كتابة المقدمات، فأنا من جيل يعرف عن المقدمات أكثر مما يعرف عن النتائج، وهذا الكتاب ليس مقدمة.. أو نتيجة، وتصنيفه شأن قد يعنى غيرى، وأتصور أن المهم هو الإجابة عن سؤالين:
- لماذا هذا الكتاب ؟
.. وفى هذا التوقيت بالذات ؟
.. أولا: عملت لفترة ما فى وزارة الثقافة (مساعدا لرئيس تحرير جريدة القاهرة) التى تصدرها الوزارة، ثم مستشارا إعلاميا لوزيرها، والآن عدت لأمارس عملى الحقيقى ـ الذى لم أنسه وإن تناسيته ـ، كصحفى مهمته أن يكتب وأن يقول كلمته ويمشى.
ثانيا: حرصت على أن يظهر هذا الكتاب فى هذا التوقيت، حتى لا أبدو كالذين يستشهدون بالأموات، ويسردون حكايات من نسج خيالهم وأمانيهم، وكان قصدى طوال وقت تدوينى هذا الكتاب، أن ينشر وكل الذين تناولهم أحياء، بل وفى مناصبهم الرسمية ـ وغير الرسمية ـ، كنت حريصا على الاستقالة من العمل فى وزارة الثقافة، فى فترة بلغ فيها وزيرها (فاروق حسنى) ذروة مجده وقوته السياسية، بعد التجديد له وليس قبل تغييره.
إنها كلمتى.. بعيدا عن أي سلطة ـ سوى قلمى أمام كلمتهم، وهم ما زالوا فى مناصبهم، وأغلبهم من حملة الأقلام.
حاولت أن أكون شاهد عيان، لا رأى له، لا وقت لديه لتحليل مارآه،.. فلهذين الأمرين أناس غيرى، ووقت آخر، ولا يعدو الكتاب كونه بروفة لعرض لم يبدأ بعد.
كتبت عن فترة أخذت منها ـ وفيها ـ ما أردت، ورفضت ما لم يعجبنى، ولم يضطرنى أحد إلى القبول أو الرفض. بدأت بنفسى ومارست ما استطعت من اعتراف بالخطأ، وكل من اتفقت أو اختلفت معهم طوال الفترة التى كتبت عنها ـ كان علنا وليس سرا، لذا فليس فى الكتاب جديد بالنسبة لهم، وربما بالنسبة لكثيرين غيرهم.
وددت فقط ممارسة نوع من التحرر، وأن أثبت لنفسى أن بداخلى أشياء لا تخضع لقانون المنح والمنع، أشياء تجعلنى لا أنسى أن هناك أماكن وأشخاص وأوقات.. ليست مصنوعة من جدران مؤسسة ما.
فد يثير الكتاب ردود أفعال.. ليكن، لكن ما يهمنى هو أن يقطع علىّ هذا الكتاب أى طريق لعمل رسمى فى الدنيا والآخرة!

محمد عبد الواحد

يناير 2005

*****

الفصل الأول
صديقي.. «فاروق حسني»

مابعد.. «فن الممكن»!

الفنان، وحده ذلك الذى يستطيع أن يصنع من الحل لغزا
«كارل كراوس»

في العام و«الخاص»، يمتلك «فاروق حسني» موهبة في فرض قراراته، مهما كان حجم الضغوط التي يواجهها، ويمتلك الموهبة نفسها، في فرض قرار - أو شخص - سبق وأن رفضه، غير عابئ بهموم التبرير، وتتلخص موهبته في قدرته علي توفير جهد «التبرير»، لصالح تنشيط مقدرته علي «التمرير»، تمرير الأشخاص والأفكار، عبر رفض الرأي العام لهم، ومصداقيته في الدفاع - بشراسة - عن اختياراته، ربما كانت سببا في إنهاك معارضيه، وسببا في حماية من لا يستحق «الحماية» من معاونيه.. وكثيرون منهم كان يرتكب الخطأ - وغالبا يخطط له - وهو متأكد من أن كل المسئولية - والاتهامات - ستلقي علي «فاروق حسني»، ليس - فقط - لأنه المسئول - سياسيا - عن كل قطاعات وهيئات الوزارة، وإنما لإدراكه أن من يخطط لخطأ، أو يرتكبه من دون قصد.. لا يصلح للدفاع عن نفسه وعن الخطأ الذي ارتكبه، بالإضافة إلي «النجومية» التي صار يتمتع بها «الوزير» كمحام بارع أمام محاكم الرأي العام، سواء في وسائل الإعلام، أو جميع السلطات التشريعية والتنفيذية وإلقضائية.
تلك النجومية/ الهيبة كانت عاملا مساعدا - له - لا يتوافر لأىّ من معاونيه الذين لم يختبروا السياسية سوي في أرضية ضيقة لا تتجاوز مساحة ما تحت أقدامهم، ولعل ذلك سبب اتساع فجوة الاختيار - لمنصب وزير الثقافة - بينه وبين جميع مرءوسيه، والذين كان بعضهم رئىسا له قبل أن يصبح وزيرا.
وفي ظل اتهام الرجل كثيرا بالدفاع عن «الشلّة» التي جاء بها إلي الوزارة والمعروف أن لمفهوم «الشلّة» أصولاً وقواعد، أهمها امتلاك جميع أعضائها القدرة علي تبادل الأدوار، وصدق المساندة - وخاصة - في الشدائد التي يتعرض لها أحد أعضائها. وأكاد أجزم - وفي يدي أوراقي وذاكرتي - بأنه خلال ما يقارب خمسة عشر عاما، عرفت فيها «فاروق حسني»، وتعرفت بمعظم مرءوسيه أن قواعد «الشلّة» لم تكن موجودة علي الإطلاق، ومن كان يسانده - دائما - أصدقاء له ومعجبون به، لا يمكن تصنيفهم علي أنهم من أعضاء «الشلّة» التي أدار بها الوزارة، ولعل الشخص الأقرب إلي «فاروق حسني».. هو «فاروق حسني» نفسه، ولا أقول بفارق بين الشخصين الفنان/ الإنسان، والوزير، فأنا لا أصدقه أبدا حين يقول: «إنني محترف للفن، وهاو للسياسة»، ما عشته معه يجعلني واثق من أنه، يمتلك ذكاء المحترف وعناد الهاوي في جميع ما - ومن - يعرف أو يعمل أو يفكر.
وليس غياب «الشلة» ناتجاً عن افتقاده لها، بل سببه الأول والأخير هو أن يحتفظ بمسافة، تفصله - مهما اقترب - عن الآخرين، وبخاصة مرءوسيه وهي آلية تفكير، وأسلوب حياة، اختاره، بل وسافر إليه، هاو، ثم متعلم، إلى أن أصبح محترفا في باريس، وأقصد المثل الفرنسي الشهير:.. «مسافة من فضلك»، لم ينطق «فاروق حسني» بالمثل أمامي طالبا تنفيذه، ربما ذكره - فقط - من باب استعراض ما يعرفه من الحكم والأمثال لدي الشعوب.. فهو لم يكن مضطرا إلي أن «ينطق»، لأن من «يفعل» يجعل الآخرين.. ينطقون، ويفسرون ويرتبكون، فيبتعدون، انتظارا للحظة الاستدعاء، أو فرض أنفسهم، عندما ينسون - أو يتناسون - المسافة المطلوبة، لكنه لا يقلق، ولا يعتبر ذلك تجاوزا، لأنه يمتلك القدرة علي التنفيذ، رغم كل ما يراه المحيطون حوله من استغراب، واستنكار، إلا أن أحدا منهم - أقصد مرءوسيه - لا يجرؤ علي العصيان علناً، ولا يملك مهارة - وواجب - المغادرة لحظة - مجرد استشعار وليس - عدم الترحيب، وعرفت العديد من مرءوسيه - لا أقول اختلفوا معه ولكن - تذمروا منه - أو العكس -، لكن الأمر لم يصل أبدا لحد الخروج من ظل «الوزارة»، وأتذكر استثناءات من تلك القاعدة منها: عبدالحليم نورالدين «رئىس، ثم أمين عام المجلس الأعلي للآثار»، ولعل «الآثار» تحديدا كانت شاشة عرض مثالية لعدم الإدراك السياسي لفاروق حسني، فقد خرج قبل «نورالدين» «أحمد قدري»، وبعده «علي حسن»، وإن كان «سيد توفيق» أو «محمد إبراهيم بكر» قد تولوا المنصب نفسه، إلا أنهم جميعا لم يقاطعوه، ولم تعنهم أمواج السياسة، سواء في التعامل مع «الوزير» أو «الدنيا»!، وجاء «جاب الله» «أمينا عاما للمجلس الأعلي للآثار»، مدركا «لفاروق حسني».. فالأخير حيوان سياسي ويملك لقبا لا يعنيه حرفيا «رئىس المجلس الأعلي للآثار»، ولم يزد «جاب الله» عن وضع علمه - فقط - في خدمة عمله، ولعل طبيعة عمله - كمحترف وهاو - «كخوجة» ثم «كنصف خواجة - السيدة حرمه.. إنجليزية»، عاملان أسهما في معرفته لحدوده، وأن تساوي الرءوس والأكتاف ليلا وأثناء السفر، لا يعني تساوي الأهداف أو الأفكار، لذا ظل الرجل موضع تقدير حقيقي من «فاروق حسني»، ثم جيىء بـ «زاهي حواس» كجملة اعتراضية كان الوزير - حسبما فهمت - مضطرا لها، لأن كل من كان يراهم الأولي، كانوا الأصغر سنا.

أما سبب الاستطراد بشأن «الآثار» فلأنها الجهة «السيادية» في وزارة الثقافة، من حيث الموارد المالية والأدبية والإعلامية التي لا تتوافر - أو توفرها - أي هيئة - أو قطاع -آخر في الوزارة، إلي ذلك فالعلاقة بين المسئول عنها - تنفيذيا - ظلت لسنوات كالوتر المشدود، ما بين نقطتين:
الأولي: إدراك الوزير لأهميتها كجهة «سيادية» داخل وزارته الشاسعة.
والثانية: «السكرة» الناتجة عن خمر «الشهرة» التي يصاب بها كل من يصبح مسئولا عنها، وفي ظل تلك النشوة، يهيأ له أشياء كثيرة أولها أن سيادته مسئول عن «سيادة» الوزارة باعتبار أن «الآثار» هي الجهة الوحيدة الممثلة لذلك.
وسقط كثيرون من فوق الوتر، وقليلون أجادوا العزف عليه،وفي نهاية المطاف، أراح «الوزير» نفسه - والآخرين - من هذا الوتر والتوتر فأنشأ مكتبا فنيا خاصاً به كرئىس للمجلس الأعلي للآثار، يدير من خلاله شئون المجلس بيديه، وإن كان التنفيذ بأنامل فريق من الشباب، فيهم الكثير من المواهب، الذين يجيد بعضهم أن يفيد ويستفيد من عمله، وإن كان معظمهم قد فضّل الخيار الأخير، وفي نهاية الأمر أصبح «أمين مجلس الآثار» لا يمثل مصدر إزعاج للوزير، اللهم إلا.. الإزعاج الخاص بحضور «الأمين العام» - من عدمه - للاحتفالات والاجتماعات الكبري، التي يحضرها «رئيس الجمهورية» أو «السيدة قرينته»، ومن النوادر أنني حضرت اجتماعا ضم الخبراء الأجانب «إيطاليين، وبريطانيين وإيطاليين.. وغيرهم»، واستعرضوا فيه، أمام الوزير، تصورات - شبه نهائية - للتصميم الداخلي للمتحف المصري الكبير، وتلفتّ فلم أجد «أمين مجلس الآثار» زاهي حواس رغم وجوده علي مسافة أمتار «وهي المسافة بين مكتب الوزير ومكتب مجلس الآثار في الزمالك»، ولم يكترث أحد لغيابه، وقبل نهاية الاجتماع سأل الوزير: «.. هو فين زاهي».. وتلعثم «فاروق عبدالسلام» - كاتب الجلسات، باعتباري لا أعرف علاقته باجتماع تقني مماثل - وهو يغمغم، وكنت بجواره هو، والوزير، الذي سألته عقب الاجتماع: تري هل قال «فاروق» إنه أبلغ.. أم.. ماذا؟، فقال الوزير:.. اسأله، وضحك، ففهمت، فالغمغمة لا تعني من يملك - وحده - صنع القرار، ويختار توقيت تنفيذه.


lt;lt;lt;
ومن بعد «الآثار» تأتي هيئات مثل «الأوبرا» و«الكتاب» و«قصور الثقافة»، علي يمين الجهات السيادية في الوزارة نظرا للأسباب - والأنشطة - التالية، والتي تشارك فيها الجهات الثلاث:

- هيئة الكتاب: تنظم أحد أبرز أنشطة الوزارة «معرض الكتاب»، ويكون اللقاء السنوي مع «رئىس الجمهورية» هو، خاتم سيادة تلك الهيئة ورئىسها، فهو يجلس علي المنصة التي يتوسطها الرئىس، وبجواره وزير الثقافة ورئيس الوزراء، مما يعني قدرة «رئىس الهيئة» علي مصافحة الرئىس والتحدث إليه - ولو بكلمات قليلة جدا - مباشرة، وبالفعل هو يتحدث - وإن كان كلامه عاما - من خلال كلمته الافتتاحية التي تنتظر من العام إلي العام.

ثم جاء مشروع «مكتبة الأسرة» - وللحق فإنه المشروع المفيد للمواطن العادي من دون منافس -.. والمشروع هو فكرة السيدة قرينة السيد رئىس الجمهورية ويتم تنفيذه - طباعة علي أقصي تقدير - في هيئة الكتاب، وبالتالي يحضر رئىسها احتفالات افتتاح وختام «وتكريمات» المشروع سنويا، فضلا عن بعض اجتماعات «جمعية الرعاية المتكاملة» بمصر الجديدة، والتي ترأسها «قرينة رئيس الجمهورية»، فضلا عن «معرض كتاب الطفل» الذي تحضره السيدة الأولي من خلال العديد من أنشطته.

- وفي «هيئة قصور الثقافة» تنطق الحال نفسها، وإن بدرجة أقل سيادية، إذ من النادر أن يحضر «الرئىس» أي أنشطة لها، لكن السيدة قرينته تحضر معظم الأنشطة الكبري، مثل افتتاح بيوت وقصور الثقافة ومسارحها، والأنشطة المرتبطة بثقافة الطفل.

- أما «دار الأوبرا» فقد نجح «فاروق حسني» في تسريبها، رويدا.. رويدا عبر القنوات السياسية العليا، وأصبح «رئىس الجمهورية» ضيفا علي عدد لا بأس به من أنشطتها وحفلاتها، ونجح الوزير في ربط أنشطة واحتفالات الوزارة/ الأوبرا باحتفالات القوات المسلحة بأعياد أكتوبر، ثم الحفل السنوي الذي يقام بمناسبة تخريج دفعات جديدة من الكليات العسكرية وكلية الشرطة، كما نجح في جعل «الأوبرا» وبعض فرقها الفنية، صورة مقنعة للقيادة السياسية، لتعكس إقناعها العالم بأننا «نفهم» ونهتم بالفنون الرفيعة، وكان الحدث الأبرز متمثلا في إحياء أوركسترا الأوبرا - والقاهرة - السيمفوني، بمصاحبة الفرقة القومية للموسيقي العربية، لحفل شهير ضم رؤساء ومسئولين كباراً جلسوا إلي جوار «عرفات» و«رابين»، عقب توقيع اتفاقات السلام بـ «القاهرة»، وربما نجح «الحفل» في تكريس حضور الأوبرا/ فاروق حسني سياسيا داخليا، إلا أنه لم يخفف أبدا من التوتر العرفاتي/ الرابيني، ولم يمح المشهد الشهير لـ «عرفات» وهو يرفض التوقيع علي إحدي مذكرات الاتفاق، ويهب واقفا من فوق كرسيه، ومن خلفه بعض الزعماء يمسكون بيده، وتوقف الاحتفال حتي أنهي عرفات - احتفاله بغضب - الأزمة علي نحو ما.

ولعل التصادمات الشهيرة التي حدثت بين «فاروق حسني» ومعظم رؤساء الأوبرا أتت مشابهة، للصدامات التي حدثت بين «الآثار» وبينه، بدأت الصدامات في «الأوبرا» مبكرة، ومتوالية، منذ «ماجدة صالح» رئيسها الأول، ثم «رتيبة الحفني»، ثم «طارق حسن»، وإلي هذه الصدامات لم يكن للأمر علاقة، بالعلاقات السيادية خارج الوزارة، بل كان لها علاقة بتمهيد «فاروق حسني» لهذه العلاقة التي أصبحت ثابتة طوال أكثر من 10 سنوات، كان «الوزير» - كعادته - قد قرر تحقيق هدف، ولم يطلع عليه أحداً من منفذيه رغبة في تحقيق شيء دائم لديه.

- «المفاجأة/ الصدمة»

ومنعاً لشيء آخر:

- الشوشرة عليه، بأفكار واقتراحات، يكون مضطرا لإضاعة وقت في الاستماع إليها، ويجهد نفسه في مجاملات إبداء الإعجاب بها، وهو - وحده - يعلم أن شيئا منها لن ينفذ، وبخاصة عندما يكون اتخذ قراراً، لكن ذلك لا يمنع - كما حدث معي كثيرا - أنه يأخذ بآراء يراها مفيدة، في غضون إعداده لقرار ما، وقد ازدادت تلك المساحة لديه خلال السنوات الأربع الأخيرة (2000 - 2005)، كان لفاروق حسني هدف كبير، تولد عن تحد أكبر، فالرجل جاء - فقط علي ضفاف افتتاح «الأوبرا»، فالمبني بناه اليابانيون وقدموه هدية بحفل «كابوكي» شهير، وفترة تأسيس الدار ومتابعة تنفيذ مبناها والإعداد لفرقها الفنية، تمت في عهد وزير ثقافة سابق «محمد عبدالحميد رضوان»، فلابد من أن يفاجئ «فاروق حسني» الجميع بفكرة وقرار، يجعلان «الأوبرا» ملكا لخياله، وواجهة لسياسة، ولتبقي صورة افتتاح «الرئىس» للأوبرا «قولا» من دون وجود «فاروق حسني»، و«فعلا».. بوجوده وحده.. ووحده فقط من دون ذكر لأي وزير ثقافة أو رئىس للدار.

والمؤكد أنه بذل جهدا خارقا ليبني «معني» يواجه به ضخامة «المبني»، وأشهد بأنه بناه وحده، بمساعدة تغريبته الأوروبية الطويلة، وعلاقته - وعلاقاته - «بمعني» الأوبرا في مهدها.

وعندما جاءت لحظة تنفيذ القرار كان لابد من رحيل - أو ترحيل - «طارق علي حسن» الطبيب الموسيقي، وتصاعد الأمر مع مجيء «ناصر الأنصاري» من مراسم رئاسة الجمهورية إلي رئاسة «دار الأوبرا»، فتمت عسكرتها علي الفور، وبدا الانضباط العسكري نسخة - أحيانا معوقة - باهتة للانضباط «السيمفوني»، واكتفي الوزير برؤية «ناصر الأنصاري في الأوبرا» من هذه الزاوية، وكان «الأنصاري» مثالاً لصرامة «العسكري» الملطف بقليل من الاهتمام بالتاريخ والثقافة والفنون، وجاءت «أوبرا عايدة» بالأقصر، عند «معبد حتشبسوت»، حدثا فاصلا، كان لابد معه من رحيل - أو ترحيل - «الأنصاري» الذي أبعد «الأوبرا» - بسيادتها - إلي مدي آخر، ولكن في داخل المجال الحيوي «والحياة الإقليمية الموسيقية»، لفاروق حسني، ولم يكن رحيل «الأنصاري» سهلا كغيره ممن سبقوه، بالنظر إلي أن الرجل جاء من أعلي الجهات السيادية، وبالتالي فلا أتصور أنه رحل من دون مرونة أبدتها تلك الجهات، وقابل «فاروق حسني» المرونة، بمرونة يتنفسها كالهواء، وأصبح «ناصر الأنصاري» رئىسا لدار الكتب، ومع مجيء «الأنصاري» إلي الأوبرا تنفس «الوزير» الصعداء إذ إنه اكتشف - بحسب تصريحاته - أخيرا أن إدارة الأوبرا - حسب قوله - لا تنجح بقيادة «فنان» لأنه يكون - الفنان - حازما ومنضبطا في إبداعه - ربما - فقط، ورحل «الأنصاري»، وبمجيء «مصطفي ناجي»، وبنفس «وجدتها» أكد الوزير أن العودة إلي الحق فضيلة، فـ «المايسترو» الذي يقود الأوركسترا بانضباط، هو الأقدر علي قيادة، فرق العازفين والراقصين والموظفين في الأوبرا.

وكان نجاح «ناجي» ملفتاً، وتزامن مع تكريس لعلاقة اهتمام واضحة بين رئىس الجمهورية والسيدة قرينته وبين «دار الأوبرا» بفرقها الناجحة، وأصبح «ناجي» يصافح الرئىس كثيرا وهو يتلقي تحية منه عقب كل حفل - تقريبا، وأحيانا كان الاتصال مباشرا بين بعض الجهات في الرئاسة أو القوات المسلحة بالأوبرا وخاصة لإعداد الترتيبات الخاصة باحتفالات «السادس من أكتوبر» أو الحفلات الخيرية التي تقيمها «الأوبرا» تحت رعاية السيدة قرينة رئىس الجمهورية، تصاعد حضور «ناجي» وصورته «كمايسترو»/ فنان قويت بالأجواء السياسية التي وجد - أو أوجد - نفسه فيها، وهي صورة تتقاطع بالتأكيد، ليس مع «فاروق حسني» ولكن مع ترتيب «كلوز - أب» النجومية داخل الوزير، وتمت إقالة «مصطفي ناجي» وقيل وقتها إن الأسباب متعلقة بمخالفات إدارية، وموافقته علي إقامة معرض دعائي «لماركة سيارات شهيرة» كنوع من توفير الدعم «بنظام الرعاة» للأوبرا.. وتفاصيل كثيرة قادت الرجل إلي منزله، وقيادته لـ «الأوركسترا» في أحيان كثيرة، ولا أدري كيف لم تقده إلي مكان آخر في ضوء أسباب إقالته، بنفس الإيقاع «وجدتها»، جاء «عسكري» آخر، لكنه حاصل علي الدكتوراة «سمير فرج»، وبدا أكثر صرامة من «الأنصاري» وأوفر حظا من حيث علاقته المباشرة - السابقة علي توليه منصبه - بالوزير ودار الأوبرا، فقد تولي «إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة» وهي الجهة الممثلة لوزارة الدفاع للتنسيق مع وزارة الثقافة لإقامة أي احتفال فني مشترك بين الوزارتين، فلم يكن الرجل غريبا، وارتاح «الوزير» وأثبت - لنفسه - صحة وصدق نظريته التي سبق ورفضها، واقتنع بأن «عسكرة» الأوبرا، أفضل من أن تصبح «عرضا أوبراليا» يغني خارج «الريبرتوار»، ثم اختير «فرج» رئىسا للمجلس الأعلي للأقصر - 2004 - فعاد «الوزير» واكتشف أن قيادة «الفنان» للأوبرا هي الحل، فجاء بالمخرج عبدالمنعم كامل (في نهاية 2004).


lt;lt;lt;
والمتابع لدفاع «فاروق حسني» عن اختياراته، التي تبدو مفتقدة لمعايير واضحة، يجدها دليلا واضحا علي عدم صلاحيته كوزير، ويري - هذا المترصد - أن نهايته - الوزير - تقترب، إلا أن النهاية تبتعد، وقد تبدو - غالبا - مستحيلة الاقتراب، ويري الكثيرون في ذلك إعجازا، أو دعماً من آلهة الإغريق، أو النظام السياسي، لكن الحقيقة التي لمستها، وتعتبر سببا - ربما - وحيدا لنجاحه هي أنه:

يعرف تماما، أن ينفذ رؤي - وقرار - نظام سياسي جاء به وزيراً، ثم - بذكاء - يجيد إثارة الجدل - والاهتمام - برؤية خاصة به، إنه قادر علي إقناع الجميع بأنه صاحب «قرار» تنفيذها أو أن هناك من يدعم تلك القرارات لأجل «فاروق حسني» المفكر الفنان، لكن الحقيقة التي يعرفها - هو فقط - أنه: ليس مهماً ما يعرفه أو يقوله الناس، لكن المهم أن يظل ليل نهار، متأخرا عن النظام خطوتين، حتي يسمح له - من باب المكافأة - أن يتقدم خطوة واحدة، وهو رجل «فذ» في إدراك موضع «خطاه»، لذا فكل من يرون فيها «خطايا»، غير ذي صفة لأنهم لا يقفون معه في صفوف الوزراء وكلما ازدادت مهارته في أداء العرض «العام» للحظوة، وإخفاء أصول - وحقيقة - العروض «الخاصة» لها، تزداد خبراته، في شغل الناس به، وفي انشغال قيادته عنه، لأن مهارة «شغل» الناس - إلي درجة الإلهاء - ضرورة وشرعية سياسية في البلاد التي يكون فيها «المسئول» - في حد ذاته - قراراً، وليس صانع قرار!.


lt;lt;lt;
.. ما سردته هنا ليس كل شيء، أو بعضاً منه، فللكل والبعض كتابات أخري، إنها مسيرة 18 عاما من فاروق حسني وزيرا للثقافة، لكنني أردت القول:

1- إن الرجل لم يبدل مسئولا، أو يقله، لأنه يخشي منافسته علي منصب الوزير، لأنه الوحيد الذي كان يعرف، أن أياً من مرءوسيه قد يصبح «مسئولا بارزا أو» وزيرا، لكنه سيكون وزيرا لأية وزارة ليست مسئولة عن الآثار ودار الأوبرا، ولعل مجيء ورحيل «أنس الفقي» كان طيفا عارضا من رئاسة «هيئة قصور الثقافة» إلي «وزارة الشباب»، وكان «أنس» - بعيدا عن الموبايل والناس - أكثر من يعرف أنه لن يخلف «فاروق حسني»، وكان الأخير يشعر - ربما أكثر من الأول - بأنه قد يصبح وزيرا.. ما، لكن ليس للثقافة.

2- إن «فاروق حسني» لابد - كإنسان - أن يصيبه القلق مع - أو قبل - أي تشكيلة - أو شائعة - وزارية، لكن أكثر ما كان يقلقه هو هذا السؤال: من في مصر يصلح ليكون وزيرا لثقافة مصر - سابقاً.. وزارة أفكار وخيال.. ومباني «فاروق حسني» حاليا.. لم يطرح السؤال - أبدا - وفي خياله سمير سرحان، أو جابر عصفور «حتي بعد دخوله المجلس القومي للمرأة»، - وطبعا - ولا فوزي فهمي، أو أحمد نوار، وإن انضم - من باب التنكيب بالتأكيد - زاهي حواس، إلي هذه الأسماء، وكان من باب الطرافة - فقط - يدور حديث «فانتازي» ويطرح اسم «سمير غريب»، باعتباره الأولي بالرعاية من جانب «فاروق حسني»، فرغم أن الأول يكاد يغادر - مغضوبا عليه - كل موقع يضعه فيه الوزير، إلا أنه كان يذهب من صندوق التنمية الثقافية، مغضوبا عليه، ليرأس منصبا - أري - أنه أكبر منه «دار الكتب»، ثم يخرج بقضايا إدارية، فيبعد إلي «الأكاديمية المصرية» في روما، ويعود - لأسباب عائلية ربما - ليرأس جهاز «أري أنه متحرك في مكانه فقط»، لكنني أعلم أن كل ذلك له علاقة، برؤية خاصة من جانب «فاروق حسني» لا يراها كثيرون تجاه «سمير»، ربما في الأمر رومانسية الامتداد والتلمذة، لكنها لم تسلم من خيبة أمل، وعنف في الخلاف، وأذكر أن مسئولا بـ «الآثار»، ذهب لإلقاء محاضرة في «الأكاديمية» بروما، وهو كما بدا لي لسنوات صديق «لسمير»، وكنا - ثلاثتنا - سمير والمحاضر وأنا ـ نجلس - نادرا - في أحد مقاهي المهندسين، وعقب عودة «المحاضر»، اتصل «بالوزير» وأبلغه بأن «سمير» يسب ويلعن، وأنه أخطأ في حق الوزير،.. ولم يكن الأمر غريبا، بالنسبة للوزير ولي، فالرجل - بحق - يتعامل مع من به «مسحة» من فن، بسماحة، لا تخلو - كأي إنسان - من تعليقات غاضبة علي كلام عنيف يقال في حقه، أبديت استغرابي من موقف «سمير»، لكن بمرور الوقت استدركتني بأن نفس المواقف حدثت بيني وبين «سمير» وأمام الجميع - مثلا - في سمبوزيوم أسوان، لكنها كانت مشادات، وتمضي في سياق أية مشادات وخناقات عادية، أما ما لا يمر أبدا فهي تلك «الوشاية»، الصغيرة التي لم ترفع «الواشي» درجة عن رتبته - كواش - أمام الوزير، ولم تنقص قدر علاقة - لم أهتم أبدا بمعرفة سبب قوتها - بين «سمير» و«الوزير»، وإن لم أكن صديقا لسمير، ولا مقتنعا به سوي في منصبه «كمستشار إعلامي للوزير»، إلا أنني أقبل كونه «أدار» «صندوق التنمية الثقافية»، في ضوء أنه نال أكبر عقاب في حياته، إذ جاء بموظف يدعي «شقوير» بديلا عنه، مما يعني أن كثيرا من «الوظائف» في «وزارة الثقافة»، علمها عند ربي، أو المصادفات، - مثلا - صرح الوزير بأنه: أعجبه كلام «مصطفي علوي» وهو يشاهد التليفزيون - بالمصادفة - خلال إشرافه (18 يوما) علي وزارة الإعلام فاختاره لرئاسة هيئة قصور الثقافة، وإن رأيت - أحيانا - أن هذه الاختيارات، يصل إليها بمهارة فنان.. «فن الممكن»، فقد أراد أن يأتي بـ «هشام الشريف» مديرا للأوبرا وبـ «هاني هلال» لقصور الثقافة، وبـ «شاب» موهوب لدار الكتب، وتم الإعلان عن الوظائف، ثم جاءت الفرص «الممكنة»، لثلاثة سواهم.

.. «الأوبرا» لعبدالمنعم كامل.. من قائمة الانتظار، و«مصطفي علوي» من شاشة التليفزيون.. رغم ظهوره المتكرر فيه، وضلوعه في لجنة السياسات ومجلس الشوري والعلوم السياسية، لكن «الوزير» - بمهارة - نقل «المختار» - أقصد «علوي» - إلي ملعب آخر، لا يستطيع الجمهور فيه الربط بين مؤهلات «علوي» - غير التليفزيونية - وبين سلفه «أنس الفقي» الذي جاء من لجنة السياسات بالحزب الوطني.

أما «دار الكتب» فكان المقدر أن يديرها «شاب» يتمتع بعلاقات دولية في مجاله، ويمتلك مهارة في «إدارة» أحد أهم وأحدث المراكز الثقافية والتاريخية في الشرق - بحسب المواصفات التي عرضها الوزير أمامي، فالدار تم تحديثها، ولن تغزوها الفئران لتأكل مخطوطاتها، وستدار بصورة إلكترونية متطورة، وهذا سياق يفرض المواصفات اللازمة لمديرها الجديد، كان الوزير مهتما بالبحث عنه خلال عام 2004، لأن افتتاح الدار - المفترض - في عام 2005، ولن يستمر رئىسها - آنذاك - «أحمد مرسي»، في موقعه «وهو ما حدث» إلي أن تحين تلك المناسبة، وأتذكر أن الوزير أثناء معرض (القاهرة للكتاب 2004) - وهو في قمة الاستياء من تنظيم المعرض - قد قرر أن يتولي «أنس الفقي» - في هذا اليوم - رئاسة لجنة لتطوير المعرض، وفي اليوم الثالث استقر علي أن يتولي «الفقي» رئاسة هيئة الكتاب خلفا لـ «سمير سرحان» - الذي كان معروفا أنه سيغادر رئاسة الهيئة في نهاية 2004.

الغريب أن لجنة تطوير المعرض تم اختيارها في معرض 2004 للإعداد للمعرض القادم - بعد عام - ولم تجتمع اللجنة إلا قبل معرض 2005 بشهرين، فقد تم تذكرها فجأة، وهبط علي عضويتها أسماء جديدة.. فجأة، ولن تحقق شيئا.. وليس في ذلك أية «مفاجأة» والحاصل أنني تحدثت مع الوزير بشأن «وحيد عبدالمجيد» الذي اختاره نائبا لسمير سرحان، وكيف سيتقبل «وحيد» أن يأتي «رئىساً» طارئاً، فضلا عن أن مؤهلات كل منهما - العلمية والسياسية والثقافية - والتي لا تحتاج إلي تحليل لنحدد بها من الأولي برئاسة الهيئة!، المهم أن «الوزير» قال: «لدينا مواقع قيادية كثيرة شاغرة، وأبحث عمن يصلح لإدارتها، وأتابع بعض الأشخاص داخل - وخارج - الوزارة، وممكن يكون «وحيد» رئىسا لدار الكتب»، وكنت ساعة سمعت هذا التصريح.. نصف مصدق، ولم أبلغ به «وحيد» أبدا، فليس هذا دوري، وإن كان فهو أقل بكثير جدا من دوري حين يناقش الوزير معي ما لا يناقش مع أحد آخر.. حسبما استشعرته كثيرا، وكنت أقدر تلك الثقة إلي حد الخوف، فالأسرار - إلي أن تصبح أخبارا - عبء ثقيل، عند من لا يتاجرون بها، في أسواق التداوي بأعشاب النميمة، وفي النهاية لم يصل «وحيد» إلي دار الكتب، وجاء «عبدالمنعم الجميعي» قائما بأعمال رئىس الهيئة «أو رئىسا لها.. لا فرق»، وجاء «ناصر الأنصاري» في زيارة إلي «القاهرة» لحضور عزاء أحد أفراد عائلته، وزار «الوزير» - مجاملة وشكرا - في مكتبه، وفي ظل البحث عن سكان للمواقع الشاغرة، قفز اسم «الأنصاري» وعلمت أنه طلب العودة إلي «رئاسة الأوبرا»، إلا أن «الوزير» قرر أن يعهد إليه «برئاسة هيئة الكتاب»، بداية من مارس 2005، وهو التاريخ الذي تنتهي فيه مدة عمل «الأنصاري» مديرا لمعهد العالم العربي في باريس، وإذا كانت السياسة بلا أخلاق - طبعا - فقد رأيت «فاروق حسني» صاحب نظرية فريدة، تنص علي عدم الفصل بين «الأخلاق والسياسة» في أحيان كثيرة، فهو يستعين بمن اختلف معهم - سياسيا أو إداريا - في مواقع قيادية بوزارته فـ «الأنصاري» لم يغادر «رئاسة» دار الأوبرا إلا بسبب «الخلاف/ السياسة»، لكن أن يعيده «الوزير - السياسي» إلي «رئاسة» هيئة الكتاب فهو يكسب «بالأخلاق» الكثير من السياسة ومصالحها، والحال نفسها حدثت - مثلا - مع «علي رضوان» أستاذ الآثار الذي كان من أشرس معارضيه مع فرقة «نعمات أحمد فؤاد، جمال الغيطاني، - وسابقا - سكينة فؤاد، وفاروق جويدة»، فاستعان الوزير بـ «رضوان» عضوا في لجنة اختبار المقتنيات الأثرية في «المتحف المصري الكبير»، وحصل «رضوان» علي جائزة الدولة التقديرية.

واختلف مع التحليل أو «التبرير» السطحي لاختبارات «فاروق حسني» والمسمي «لعبة الكراسي الموسيقية»، حيث ينقل سمير غريب من «الصندوق» ليضعه في «دار الكتب»، ومحمد غنيم من العلاقات الثقافية والخارجية - ثم بعد إحالته للمعاش - إلي العلاقات الأثرية وخلافه، أقصد تكليفه بملف «الوزارة» الخاص بالمشاركة العربية في معرض فرانكفورت - 2004، ورئاسة لجنة مشروع المتحف المصري الكبير، ثم العديد من المهام التي يصعب حصرها، سألت الوزير: «لماذا «غنيم» في كل هذه المشروعات؟

فقال: كلما كانت هناك «فلوس» ضع «غنيم» ولن يتلاعب بها أحد، وفي السياق «جابر عصفور» ما بين دار الكتب - مشرفا - والمجلس الأعلي للثقافة، وفوزي فهمي وسمير سرحان وغنيم، ما بين مواقعهم الثابتة والإشراف علي «قصور الثقافة» حال الطوارئ.

أما «علي أبوشادي» فمن رئاسة هيئة قصور الثقافة، إلي الرقابة، والمركز القومي للسينما، والمهرجان القومي و«الاسمعيلاوي» للسينما.. كانت رحلته ذهابا - وانتظارا - وإيابا، والأمثلة كثيرة في هذا السياق، لكنها ليست لعبة، وليست موسيقية، وإنما «مرحلة».

مرحلة سياسية أدركها «فاروق حسني»، حكومة كلها من الشيوخ، وأفكار تخطت طور الشيخوخة.. هي التي تدير البلاد، وتلك الحكومة - والأفكار - تحملت.. بمغامرة محسوبة وجود «فاروق حسني» بأفكاره و«خصلات شعره الطويلة»، وهو - فاروق حسني - كان متأكدا أن هذه أقصي حدود ضبط نفس الحكومة والأفكار والنظام السياسي، لذلك كان حتما إن أراد الرجل أن يبدو بمظهر «الشاب» المتحرر في أفكاره وآرائه «غير السياسية»، فلابد أن يكون لهذا المظهر غطاء من «الشعر الأبيض»، أو - علي أسوأ تقدير - «الرمادي»، لذلك يدعو «فاروق حسني» صباح مساء لمتابعة الإنجاز الكبير الذي حققه - دون غيره من الوزراء - في دفعه للشباب، بجنونهم، إلي مواقع مهمة، واعتماده عليهم في مشروعات كثيرة وكبيرة، لكن في التحليل الأخير تجد لديه الفرق - المسكوت عنه - بين «المشروع» و«القرار»، بين «الفكرة» و«المسئول» الإداري والمالي والسياسي - إن كانت هناك سياسة - عن تنفيذها، صحيح أن بعض الأسماء التي تبدو شابة «بملبسها وحديثها» تولت مواقع «شبه» مهمة في وزارة الثقافة، لكنها - أبدا - لم تكن مواقع - سيادية - من التي أشرت إليها آنفاً، ستجدها - جميعها - مواقع تحت الحماية والمسئولية «الصريحة» للوزير - مثلا - صندوق التنمية الثقافية، أو بعض مسارح الدولة «وليس رئىس البيت الفني للمسرح»، وأتذكر أن «الوزير» حدثني عن وجهة نظره - في حدود المسموح به لي وله - في هذا الشأن فقال: «أنا أريد اختبار الشاب "....."، لرئاسة هيئة "....."، والشاب "....." لرئاسة قطاع "....."، لكنهما مازالا صغيرين «أحدهما تجاوز الخمسين والآخر تفصله عنها خطوة واحدة»، وأخاف أن تضع الكوادر القديمة التي تعشش في تلك المواقع.. العقبات أمام أفكارهم وأحلامهم وقراراتهم الجريئة، أو «دولاب» العمل - البيروقراطي - شأن آخر، له «كهنوته»، وأسراره، ومعرفة تلك الأسرار/ الخبرة تحتاج إلي أن يشتد عود هؤلاء الشباب - «الخمسينيون» - لذا فأنا أحميهم بأن أجعلهم يعملون بصورة مباشرة من خلال دعمي لهم، ومساندة أحلامهم بقرارات مباشرة مني»، - وجهة نظر.


lt;lt;lt;
هل تجب محاسبة «فاروق حسني» علي اختياراته لكبار مرءوسيه، بالنظر إلي سببين:
الأول: تناقض هذه الاختيارات مع تصريحاته المتكررة، عن «أن من يقف ضد الشباب، يقف ضد نفسه»، وعن أنه أكثر من جعل الشباب - في وزارته - يتولون مواقع قيادية؟.
الثاني: أن أسماء - تقريبا - كل هؤلاء المرءوسين لا تكاد تتبدل، فقط يتبدل مسمي الوظيفة التي يشغلونها من عام إلي عام، ومن عقد إلي آخر؟!.
.. الإجابة من وجهة نظري هي:
- نعم لأنه كان يمتلك خيارا لم يختره، وحقيقة لم يقلها وهما:
1- أن يكف عن الحديث «المطلق» بشأن إعطاء الفرص لتولي الشباب «قيادة» مواقع فاعلة في وزارته، وأن يكتفي بنصف الحديث الخاص بإعداد كوادر - دون ذكر وصف شباب - لتولي هذه المواقع، فالإعداد كلمة تشبه جملة.. «إن شاء الله».
2- أن يشرح للناس، أنه ينفذ قانون دولة، ودستور نظام، يرى «أن الشباب الحقيقي يبدأ بعد سن الستين».


lt;lt;lt;
لكن ونحن نحاسبه لابد من ذكر أنه اختار - لفترة طويلة - ما يخدم بقاءه كوزير، حتي يقوي، فيستطيع أن يحقق أفكاره «الإغريقية» ويولي «الشباب» القيادة، وهي نفس الفكرة التي حدثني عنها - من قبل - وهو يذكر اسمي شابين، يريد أن يوليهما مواقع قيادية في وزارته، لقد ظن - ساعتها - أنني فهمت ما قاله، وربما لم يظن أنني فهمت «من» يقصد، لقد كان يتحدث عن ماضيه في الوزارة، ومرارات صعوده من موظف صغير بالثقافة الجماهيرية «مدير قصر ثقافة الأنفوشي»، وإلي أن أصبح جالسا في «قصر الزمالك» وزيرا للثقافة طيلة ثمانية عشر عاماً، استطاع بعد حروب عصابات وجروح قاتلة، أن ينجو بشاب وحيد، يبقيه في موقع قيادي في ظل دستور «حكومات المعاشات»، هذا «الشاب» اسمه فاروق حسني الذي بلغ - أطاله الله.. بحب - عمره حدود (67 عاما) عند كتابة هذه السطور - (هو من مواليد 1938) - و(18 عاما) في الوزارة، وهو يعلم - بخبرة المحارب، أنه لن يستطيع أن يحقق لغيره نفس ما تحقق له، فالوزراء - حتي وإن كانوا باريسي الهوي - علي دين/ دستور رؤسائهم.. «من حيث شروط تجاوز سن الستين لتولي موقع قيادي في الدولة»، ولعل المفارقة المحزنة، والتي عايشتها بعيني وقلبي، أنه عندما جاءت الفرصة لـ «فاروق حسني»، لينجو من مساءلة التاريخ.. كان علي وشك الخروج من الوزارة، التي ترأسها «شاب» - أصغر منه سنا وخبرة -،.. وأصبح «فاروق حسني» أقدم الوزراء في حكومة «أحمد نظيف» الشابة، وفيها وزراء أصغر سنا - بكثير - من شباب «تجاوزوا الخمسين!» في وزارته، أعلن عن رغبته في أن يضعهم في مواقع قيادية «وليست وزارية»!.

.. فإذا كان الرجل قد أدرك طبيعة مرحلة حكم «المعاشات» فحرص علي إبقاء أعضاء نادي «معاشات وزارة الثقافة» في مناصبهم.. فلماذا لم ينتهز فرصة افتتاح نادي «شباب حكومة نظيف»، ويستبدل «الشباب».. بـ «الشيخوخة» في اختياراته لرؤساء هيئات وقطاعات - أو حتي عمارات - وزارته؟!.

.. هل لأن ذلك لم يكن مسموحا، حتي في ظل حكومة «تحت الخمسين»؟.

الإجابة هي:.. لا، ففي حكومة نظيف جيىء بوزراء دون الأربعين، فجاءوا بمساعدين لهم دون الثلاثين، وأصبح يوجد رؤساء هيئات «الاستثمار - مثلا» تجاوزوا الثلاثين بقليل، فهل كان حلالا علي الوزراء الجدد وحراماً علي القدامي؟، والإجابة للأسف:.. لا، فكثير من هؤلاء القدامي، ركبوا قطار الشباب، وجاءوا بعدد من الشباب وضعوهم في الصفوف الأولي بوزاراتهم، كواجهة تخفي أعمال ترميم وإزالة «معاشات» ما خلف الواجهة.

أيضا جاء التجديد - الأخير - لفاروق حسني (حكومة أحمد نظيف - يوليو 2004)، وهو يعلم أنه باق في منصبه لمدة تقارب 13 شهرا علي الأقل، وفي ظل:
1- قوته كأقدم وزير في الحكومة، وهي أقدمية لم يصل إليها أي وزير ثقافة في مصر.
2- وجود عدد من المواقع القيادية التي كانت - أو ستصبح حتما - شاغرة في وزارته وهي:
- هيئة قصور الثقافة «بعد أن اختيار رئىسها وزيرا للشباب».
- هيئة الكتاب «مع انتهاء التجديد بعد المعاش لرئيسها».
- دار الكتب «وكان مفروغا من عدم التجديد ـ منذ أكثر من شهور ـ لرئيسها».
- قطاع الفنون الشعبية والاستعراضية «وقد فهمت أن المشرف الذي جاء به البعض.. مؤقت، فعلاقته بالفنون مثل علاقتي بمعالم.. "أطلانتس"».
- البيت الفني للمسرح «فبقاء رئىسه كان مرتبطا بتجديد الوزير له».
- دار الأوبرا «انتقل رئىسها ليصبح رئيسا لمدينة الأقصر».
- صندوق التنمية الثقافية «وهو أمر طبيعي بعد التجديد لمديره، وإن كان غير الطبيعي تعيينه أو التجديد له من الأصل».
- أكاديمية الفنون
- الأكاديمية المصرية «بروما»
- المجلس الأعلي للثقافة «خاصة عندما تردد أن أمينه العام يريد التفرغ لعمله كأستاذ بالجامعة، إلا أنه «رجع - وبلع - كلامه» والأمر نفسه فعله الوزير».
- المجلس الأعلي للآثار «وموقع أمينه العام، كان حلما لكثير من الشباب «بعضهم تجاوز الخمسين أو لم يتجاوز الأربعين» حظوا بدعم الوزير، وأعلن كثيرا عن رغبته في توليهم هذا المنصب، وبخاصة عندما يشغل هذا المنصب شخص لن تخسره «الآثار»، لأنه - في الأصل - مكسب للقنوات، و«الصحف والمجلات».. الفضائية، والأرضية..، وبقليل من «الليمون» ربما تتقبله بعض «القنوات» الهضمية».

أضف إلي ذلك قطاعات، العلاقات الثقافية الخارجية، والفنون التشكيلية، والإنتاج فكلها مواقع كان متاحا من خلالها أن يتحول «قول» الوزير - بخصوص القيادات الشابة - إلي «فعل».

.. لست في حاجة إلي أن أعيد أسماء و«أعمار» الذين استغل - بهم - الوزير.. الفرصة، ليعطي الشباب حلم «القيادة»،.. - باختصار - لم يجئ بمسئول جديد - مع الحكومة الجديدة - في عمر قريب من عمره هو - فاروق حسني نفسه - عندما تولي أبرز مناصبه القيادية، قبل أن يصبح.. وزيرا.

.. هذه ليست «إدانة».. فطريقها - وطريقتها - سهلة، لكنها محاولة للحوار والتفسير عبر التساؤل، وأقلها إنها طريقة لقول.. «لا».. في وجه وزراء ورؤساء، لم يجرؤ «الوزير» علي قولها - عند الضرورة - حتي وإن كان «فنانا» متحررا،.. أقولها - بحكم الصداقة - «علنا» نيابة عنه، إن كانت نفسه قد حدثته بها «سرا»، وأقولها ضده - من باب الصدق - «علنا».. فلست - ولا أصلح لأن أكون - عضوا في أي تنظيم «سري» أو «وزاري».

يتبع

تنبيه: يحق للمؤلف ولإيلاف مقاضاة اية جهة تعيد نشر هذه المادة دون إذن منهما!