كلّ قصيدة هي قناع من لغة، يختزل فيها الشاعر حالةً أو فكرةً أو رؤية ما. ارتكاز القصيدة على فكرة ما لا يعني تغييب مُوجبات الجذب الشعرية؛ الشاعر لا يلقي بوجدانه ناحية الغياب أثناء انشداده لكتابة رؤيته أو فكرته التي يريد لها الوصول والمكوث بلذةٍ في ذائقة المتلقي، وبما أنني أتحدث عن مدى تحقّق لذة القصيدة أو النصّ في المتلقي، فيتعين عليّ الحديث أيضاً حول قصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر وارتباطهما باللذة.
أتفق مع الجميع بأن الجدل حول قصيدة النثر قد حسم لصالح شرعية شعرية القصيدة، فهي تحظى بحضور كبير في المشهد الشعري الكوني، لكن ما يجعل زمن التساؤل يعيد نفسه حول قصيدة النثر هي الحالة التي وصلت إليها حركة الكتابة الشعرية المُعاصرَة، والتي تنم عن أزمة حقيقة في الشعر. فلا تزال "الراديكالية" الشعرية تعبر عن رفضها و تنازع النقيض بمواقفها وآرائها بالنسبة للقصيدة و تمثلها جماعة " التفعيلة". وفي الطرف الآخر جماعة "قصيدة النثر"، ففي حين تعيب الجماعة الثانية على الأولى تحديد أو تقليص حدود الفكرة والرؤية في النص بسبب تقنين القصيدة بالوزن والقافية؛ ترى الأولى ، أيضاً، أنَّه من أشدّ المآخذ التي تسجّل بحق الثانية هي حالة الالتباس والتورط في أقاليم السرد والتخبط، والـتي يهيئ لداخلها أنه في دائرة مصطلح " قصيدة النثر". وكما يعتبر "الليبراليون" الوزن والقافية عبئاً يحدّ من انطلاق الرؤية، يحمل "التفعيليون" رؤية صادقة تشير إلى درجة الإخلال في كتابة قصيدة النثر، والتي نلمسها في واقع الكتابات النثرية الجديدة المنجرفة مع تيارات السردية والتقريرية اللامنتمية لمنطقة قصيدة النثر، وقد بدا واضحاً أن هناك أكثر من خلل وخدش بشروط "الوحدة،الإيجاز ،المجانية" التي تحدثت عنها سوزان برنار في كتابها التأسيسي لقصيدة النثر، حيث تعني برنار بالوحدة " الوحدة العضوية " أي يجب على القصيدة أن تكون في وحدة واحدة، ومهما امتازت بالتعقيد والحرية عليها أن تكون عالماً مغلقاً، خشية أن تفقد صفتها كقصيدة. وأما المجانية، فتعني أنْ ليسَتْ للقصيدة أية غاية بيانية أو سردية خارج ذاتها، وإذا استخدمت القصيدة السرد والوصف، فذلك يكون بشرط تسميتها و " تشغيلها " في القصيدة لخدمة الأغراض الشعرية الخالصة. وأما عن الإيجاز في قصيدة النثر، فتعني به برنار أن تتلافى القصيدة الاستطراد والوعظ والإرشاد، كما عليها أن تتجنب التفسيرية والتفصيلات المبنية على سبب ونتيجة، فالقصيدة لا تحتمل احتواء البراهين والأدلة، وغير ذلك من جوانب. ويمكنني الإشارة هنا إلى درجتين متقابلتين من الالتباس في فهم مصطلحي " قصيدة التفعيلة" وقصيدة النثر"، فقصيدة التفعيلة منطقة كتابة شعرية لا تسلم من الإشكاليات والاختلالات، وإن بدت معاييرها وضوابطها واضحة؛ فتوافر الوزن والقافية لا يعني وصول القصيدة إلى ذروة الفن، الوصول إلى التآلف والتوافق بين طرح الرؤية وعناصر بناء القصيدة الفنية إنما ينم عن ظفر إبداعي متكامل إلى حد بعيد، وفي إثر ذلك نتساءل: هل كلّ كاتب قصيدة تفعيلة شاعر تمنح له الشعرية نصَّاً خرافيّ السبقْ..؟ وبنفس منطق التفنيد السابق نأتي على قصيدة النثر، فقصة المصطلح وتطبيقه في هذا الجانب قصة معقدة، وهي منطقة لا يصلها كلّ من همّ بالكتابة. الأمر حسّاس جداً، إذ يتعلق بموضوعة مصطلح "قصيدة النثر" وتطبيقه، ما يعني وجود كثير ممن يسيرون في طريق كتابة النثر خارج سلامة تطبيق المصطلح، والتطبيق هنا لا يشبه تطبيقات العلوم البحتة والعلوم الطبيعية. إن الحديث يدور حول فنّ فيه من النسبية والإمكان. وبين النسبية والإمكان توجد أقاليمٌ كبيرة تحاول اجتيازها طوابير من الأسماء باتجاه الشعر بلونيه التفعيلي والنثري، وبرغم النظر إلى سكّان هذه الأقاليم نظرة تنطوي على اعتبارهم خارج الإمساك بدقة المصطلح؛ إلا أن تراشقاً يحدث فيما بين هؤلاء، فكلّ فرع يعلن عن عدم رضاه عن الآخر، وفي الدائرة هناك من لا يؤمن بمنجز سكّان " أقاليم أهل السرد"!
في خضم هذه الحالة المعقدة وغير المصنفة تصنيفاً شعرياً معلناً، نتساءل عن هوية " أهل الكهف" من هم "أهل الكهف" هل هم "أهل الشعر" والشعر فقط..؟ أم هم " نفرٌ خرجوا لبيئة فلم يتقنوا المكوث ولا التلاؤم فيها جيداً..؟ أم هم أهل التكيف مع فئةٍ فقهتْ ما في دائرة المصطلح..؟
وبشأن التساؤل حول استبدال تسمية " قصيدة " بـِ "نص"، فإلى هذا الحدّ لا توجد إشكالية حول هذه الانتقالة، لأنّ النصّ مفردة تنطوي على الدقة والتقانه والحكمة، ودلالة ذلك هي النظر إلى القرآن على أنه "نصّ" أو جملة "نصوص محكمة"، وعليه فتسمية "قصيدة" أو" نص" في الشعر تقوم على اعتبار الجودة، جودة المنتج الذي ينم عن ملكة وفنية وقوة، مثلما هو الحال عند الحديث عن "سورة قرآنية" أو " نصّ قرآني"؛ فالأمر سيان. بيد أن هناك من راح يطلق على عملية أو حالة كتابة الشعر بأنها " نحت باللغة " أو نقش أو تشكيل.. كلّ هذه الاعتبارات وسواها ما هي إلا تسميات داخلية تنم عن رؤية ذاتية هي ملك تصُّور صاحبها، الأهم من ذلك هو عطاء القصيدة، للمتلقي، التي هي بمثابة إناء يحتوي "حالات وذوات ولذّات "، إنها ظفر إبداعي تحققه جودةُ المحتوى للشاعر وللمتلقي، هذه الجودة هي التي تترك للقصيدة حراسة ذاتها. ولعلّ ضعف المحتوى هو الباعث الذي ينشط في لا وعي مُنتِج الكتابة، بحيث يحمله على إطلاق تسميات مرنة وفضفاضة -من قبيل: "نصوص"- على منتجه. إنه لا اختلاف على أن القصيدة فعل كتابة نص، ولكنّها كتابة شعر، غير مختلطة أو متداخلة أو منفلتة في فضاءات لا تتسع للشعر. ولعلّ ما يزجّ بالأسماء لاستحداث تسميات لانتاجهم، يُعزى بالأساس إلى سببين:
الأول، هو اختلاط الأوراق، وعدم التفريق الفني بين الشعر وسواه؛ بالنسبة لقصيدة النثر، أو بمعنى أدق وصولهم إلى حالة من التذهين المؤلمِ والطلسم، وحالة من التزاحم الاستيهام اللغوي الذي بات من مقدمات الإحباط عند متلقي الشعر.
السبب الثاني، غيابُ النقد من الساحة كمراقب ومقيم وحامي للمنجزات الشعرية التي أنجزتها وتنجزها الكثرة، أو اقتصاره، إن وجدَ، على تناول تجارب معينة وقليلة، قياساً بما تنتجه هذه الكثرة، وهذا السبب الأخير على درجة عالية من الأهمية والتأثير، وغيابه يسمح للكثيرين بالتطرف وانتهاك الجمال، لاسيما "قصيدة النثر". حتى أن المتلقي الذي يؤمن بقصيدة النثر بات يتحوّل عن ما ينتج حالياً، باحثاً بحنين عن القصيدة الجمالية المنظمة نتظيماً رؤيوياً ودلالياً يبعث على البهجة الغائبة من نتاجات الكثرة.
مؤشرات هذا التحّول الذي يسلكه المتلقي هي في الحقيقة سلوك مُعبّرٌ عنه بالاستنكار لكلّ هذه الفوضى و"التخمة" الحاصلة في الشعر، وليس استنكاراً لـ" قصيدة النثر" وحسب.
ولسوف نجد عند من يطلقون على منجزاتهم الشعرية تسمياتٍ ضالتنا ومخرجنا، فالكتابة بطبيعتها متشعبة ومتشابكة ومنفلتة، إذاً، هي تنطوي على الاتساع والاستطالة و الترهل في مناطق المكان والزمان الكتابية، وغير ذلك من انتكاسات.

في مثل هذه "المزاحمة" و"الكساد" يعوزنا التفريق بين "العمل الأدبي" الذي يساوي "إنتاج وعرض الكتابة"، وبين العمل الشعري الذي يساوي "جودة إبداع" أو"إتقان" أحد "أعمال" أو "أجناس" الكتابة، وإن كان لابدّ من قراءة صحيحة، فإن الحديث سوف يدور حول قراءة " عمل شعري غير متقن " أو " أداء شعري ناقص" في خضم هذه الظواهر والمسطّحات الكتابية العريضة.
حمايةً للنظرة الشعرية، نبْني في خاتمة القول التأكيدَ على أنّ: هدف الشاعر هو الشعر، أما " قصيدة " فهي إناء الشعر، وأما " كتابة " فهي مساحة لكلّ شيء. لذا فهي تحتمل لغة الشعر والنثر والسرد، بخلاف القصيدة التي تعظّم الشعر.