كان يحمل على منكبيه أعباء الهم الثقافي والوطني يدفعه الحلم الذي ماانفك يحرٌك حسه الإنساني الرقيق القادر على أن يرسم أحلامه من خلال عبير الطفولة و أظن أن أحداً من مثقفي هذه الحقبة التي ما يميز خطاب مثقفيها من العراقيين تحديداً السجالات ذات الطابع الشخصي الذي يفرغ مضمون الخطاب من أية فائدة يرجوها القارئ لا أن أحداً من الذين نعاصرهم شاعراً كان أم ناثراً وقف على أطلال الذكريات التي صيٌرها إلى وشائج ترجمت إلى رسائل حب بث من خلالها هواجسه المحملة بإشراقات الفجر الندي الذي كان ينشده . ساقتني إالى معرفته الشخصية ذات مرة رسالة تسلمتها منه حينما كنا في مخيم رفحاء السعودي . ذلك هو الشاعر الخالد بلند الحيدري الذي يعد أحد أبرز رواد الحداثة الشعرية العربية . فبينما أستبد بنا الهلع والخوف ونحن نعيش عالمنا ( الكوزموبولوتي ) جاء خطابه ليعيد فينا شيئاً من بريق الحلم الذي بدأت مساحته تتناقص في تأملات العقل إبان فترة إقامتنا في المعسكر المذكور ومن أولئك الذين قاسموني ذلك الشعور ثلة من المهتمين بالشأن الثقافي ومنهم ( رياض سبتي ، القاص خضير عباس سريع ، رياض كاظم الخضيري ، والشاعر كريم الدريعي ،الكاتب حامد مردان السامر ، الشاعر ناجي رحيم )
نعم جاءتني منه تلك الرسالة الجميلة التي تضمنت كل خصائص أسلوب بلند الحيدري الشعري من صفاء اللغة وحرارة التعبير ، وسبحات الخيال ، وإضاءات من فكر طريف . فأسمى ما يمكن أن يفعله الإنسان هو أن يخدم الثقافة وأن يتسلح بها ولا ينزاح عنها مهما كلفه من ثمن . كان حلمي حلم طفولة عندما كنت صبياً أن أصبح واحداً من أولئك الذين يخدمون الثقافة بيد أن مصائب الدهر وويلاته أدخلت اليأس إلى قلبي مما جعلني أستسلم على غير عادتي متكئاً على أمجاد أجدادنا السابقين فكم كان يؤلمني أن أرى المبدعين يتعذبون \ يئنون جوعاً وعطشاً والذي يعتصر قلبي ألماً ما أقرأه على مواقع الصحافة الالكترونية ، وخاصة ما كتب عن الشاعر عقيل علي ، وعن منظمة أدباء فقراء بلا حدود التي تأسست بعد سقوط نظام الطاغية وفي منفانا نحن ، تتسع الغربة علينا ويزداد طعم المرارة قسوة وألماً حتى ليبدو النهار طويلاً لحد الملل منه \ نحمله كصخرة سيزيف ثقيلاً مرهقاً وثمة سؤال لطالما يثار في ذهني مفاده كيف سيغيٌر العالم حياتنا في هذا القرن أو في قرن آخر ؟ وما أكثر التنبؤات الخيالية والمستحيلة . وهنا تحضرني مقولة ( روجر بول ) ( الشخص الواعي أن يحدد صورة عالمه ومنظوره عن موقعه في ذلك العالم . فالمعرفة إذن ليست فردية وإنما على العكس من ذلك تماماً إنها صورة للعالم يتم تكوينها جزئياً بأدوات أشخاص آخرين في عالم ( بيٌن شخصي ) وبالتالي فهي عملية اجتماعية تفرض الطابع الاجتماعي على نتاجها من أوله إلى آخره فضلاً عن ما يفترض أن تقوم به النخب المثقفة من مشاركة في بناء الحاضنة الملائمة لانبثاق معرفة جديدة تحمل روح العصر ودعامات الماضي العتيد في محاولة الازاحة كل ما علق من شوائب المراحل المظلمة وهنا تبرز ثقافة التواصل تبادل الرؤى بين المبدعين نحو رسم أفق بعيد وفي هذه الجزئية نجد ان شاعرنا الراحل بلند الحيدري كان السبٌاق لإشاعة هذا النوع من الثقافة عبر اتقانه لغة التواصل بينه وبين محيطه القريب والبعيد حتى أن رسالته التي تسلمتها وأنا أقاسي العيش في مخيم رفحاء السعودي الذي أقل ما يمكن وصفه بأننا كنا نحيا حياة بلا أحلام . كان من أبرز ما قال فيها الحيدري ( أعرف أن رحلتنا كانت صعبة وصعبة جداً ولكن لا أظن أن الفجر بعيد ) لذلك بات من المهم جداًونحن نشهد حالة التشرذم والإنقسام أن نقتفي أثر ذلك الإنسان والشاعر والمثقف الذي يؤمن بأن حبنا الكبير للوطن الذي تمتلأ به صدورنا لهو الذي سيعيده إلينا ويعيدنا إليه . هكذا تمتزج عناصر الخطاب في كتابات الحيدري لتعكس لنا عظمة الموهبة ، والرصد ، والحكي ، وجمال اللغة ، وسرعة النفاذ للعقل والقلب . ومع ذلك لا تشفي غليلك فما أن تفرغ منها حتى تصبح أشد عطشاً لهذا العالم الحميم الممتزج ببكارة الرؤية وبراءة المشاعر الذي تغلٌف المناخ العام كله رغم مرارة الواقع وقسوته فلا بد لبناة المشروع الثقافي العراقي اليوم أن يذيبوا جبال الجليد ويتخلوا عن أنانيتهم ونرجسيتهم المتمظهرة في خطاباتهم الجوفاء التي لا تفضي في النهاية إلا لمزيد من دوائر الثرثرة والثرثرة المضادة التي قد تحقق غايات وحاجات شخصية فقط دون أن تطرح قيمة جمالية ما قد تسهم في إزالة ركام المرحلة البائدة

الولايات المتحدة الأمريكية
[email protected]